الحضور الديني في السياسية الأمريكية – حفل تنصيب أوباما نموذجا

إن المتابع لحفل تنصيب الرئيسي الأمريكي الجديد باراك حسين أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية يكون من حيث لا يدري قد لفتت انتباهه تلك الشحنة القوية من العبارات ذات الدلالات الدينية و حضورها اللافت و القوي في حفل التنصيب .حتى أنني في مرة من المرات قلت أن البروتوكول الاحتفالي بالرئيس الجديد قد تحول إلى قداس ديني ملفوف ببعض العبارات السياسية الرمزية الجامعة بين التاريخ و السياسة .مما يجعلنا نكتشف أننا حقيقية لا تعرف الشيء الكثير عن الولايات المتحدة و عن الحضور الديني في اختيار الرئيس، و طقوس تنصيبه و ربما أشياء أخرى ….فحضورها في المشهد السياسي الأمريكي يفوق ذاك الحضوري الرمزي الاحتفالي ،بل إن القرار السياسي نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية يتماهى مع الاختيارات الدينية أو على أقل تقديرلا يصادمها .و هذا مزلق واحد من مزالق العقل الجمعي التنميطي العربي الذي يقيس الأمور من معيار واحد جامد .حيث كان الاعتقاد السائد هو علمانية النموذج الأمريكي المطابق للنموذج الغربي ،و مكمن الخلل أننا نقيس أمريكا انطلاقا من النموذج الأوروبي العلماني، لذلك نصاب بالذهول عندما نعلم أن أمريكا هي دولة غير علمانية أو قل أن علمانية أمريكا تختلف كثيرا عن علمانية أوروبا .ونظرة و سلوك المواطن الأمريكي اتجاه الدين تختلف بتاتا عن نظرة الأوروبي، فالدين حسب الأمريكيين شيء ضروري و له وجود يومي و ملموس في الحياة الأمريكية.

الحضور الديني في حفل التنصيب الرئيس بارك أوباما لا أظنه رمزيا احتفاليا ، و لكن يعكس الهوية الحضارية و العقدية للشعب الأمريكي في نسختها البروتستانتية ، و هي الطبقة الماسكة بزمام الحياة السياسية ذات التأثير الفاعل في توجيه القرار السياسي، و تقريبا فمنذ تأسيس الولايات المتحدة كل من تعاقب على البيت الأبيض كان من البروتستانتيين باستثناء الرئيس المغتال كينيدي الذي كان كاثوليكي المذهب و ربما هناك حالة أخرى مشابهة سابقة لحالة كينيدي ، .و الحال و أنا أتباع مراسم التنصيب بدرت إلى ذهني فكرة و قلت لو أن رئيسا أمريكيا منتخبا كان غير بروتستانتي و غير معتقد أصلا، أي ملحد لا يؤمن بدين و لا بكتاب سماوي منزل ،و هي حالة قليلة الانتشار و لكنها موجودة في المجتمع الأمريكي ،فكيف سيصبح الأمر و على أي كتاب سوف يؤدي قسمه؟ مما يدفعنا إلى السؤال هل يسمح له أصلا بالترشح و الوصول إلى البيت الأبيض ؟

و قد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية تحولات كبيرة طوال الستين سنة الماضية ،انعكست نتائجها على المشهد الديني و السياسي الأمريكي و صعود نجم الأصولية البروتستانتية و التيار الإنجيلي خصوصا ، الذي تحول من تيار اجتماعي إلى تيار سياسي مند مطلع ستينيات القرن العشرين ، حيت كانت الإنجيلية قبل هذا التاريخ تنأى بنفسها عن الدخول المباشر لمعمعان السياسة مكتفية بالجانب الاجتماعي و التعليمي و الأكاديمي الجامعي حيث استثمرت ملايين الدولارات في بناء الجامعات الأمريكية مستغلة سياسة خصخصة التعليم الجامعي الذي تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية ،إلا أن التطورات الكبيرة التي طرأت على المجتمع الأمريكي ،من تغيرات جذرية سياسية و اجتماعية كقرار إبطال سياسة الفصل العرقي في المدارس سنة 1954 ،و قرار المحكمة العليا بمنع الصلاة في المدارس سنة 1962،و قرار السماح بالإجهاض سنة 1973، و تزامن ذلك مع الثورة الثقافية نهاية الستينات التي اعتبرت تحديا صارخا للقيم الإنجيلية المحافظة من تزايد للإباحية و انتشار الخلاعة على وسائل الإعلام وتنامي حركة حقوق الشواذ جنسيا ، و ارتفاع نسبة الطلاق و انتشار المخدرات و الجريمة ،فضلا عن اندحار أمريكا في حرب فيتنام و تهديد النموذج الشيوعي السوفيتي الذي كان ينظر إليه من طرف الإنجيليين على أنه يمثل معسكر الإلحاد .كلها عوامل عجلت بدخول الطائفة الإنجيلية إلى الساحة السياسة من أجل التغيير و إعادة الاعتبار للدين في الحياة السياسية ، و حسب د. محمد عارف زكاء الله مؤلف كتاب الدين والسياسة في أميركا، فقد خلص الأصوليون إلى أن الليبرالية هي نفسها مصدر كلّ هذه المشاكل، وأن الوضع لن يتحسّن إلا إذا أعيد للقيم التقليدية والأخلاقية مكانتها. و لن يكون ذلك إلا أذا أمسكوا بزمام الحكم و كانوا أحد صناع القرار السياسي.

و قبل أن يؤدي الرئيس الأمريكي باراك أوباما القسم على الإنجيل نفسه الذي أقسم عليه الرئيس لنكون المؤسس الثاني للولايات المتحدة الأمريكية ، وقف أوباما ينصت بكل خشوع كالتلميذ النجيب إلى مواعظ القس رايك وارن الذي ركز على فكرة مركزية في الفكر الأمريكي و هي أن الرب قد اصطفى الشعب الأمريكي و ميزه عن غيره برسالة قيادة البشرية أو ما يمكن تسميته برسالة الشعب الأمريكي المختار ، و هذا ما يفسر المركزية الأمريكية التي تصل في كثير من الأحيان إلى نرجسية موغلة في الاستعلاء و استصغار الآخر .و بعد ذلك أمطر القس ورين الرئيس الجديد و زوجه و ابنتيه و نائبه و عائلته بعدد معتبر من الدعوات بالحفظ و البركة. و أمام الملأ في جلسة يتقاطع فيها الدين بالسياسية و السياسة بالدين .ليجد المتفرج العربي نفسه أمام قداس ديني في عباءة سياسية مع بعض الوصلات الموسيقية في تداخل و تكامل تام لا تكاد تميز هذا من ذاك.و لن يتوقف الحضور الديني عند هذا الحد ، بل سنجده يطل برأسه الطويلة على أول يوم من عهدة الرئيس بارك أوباما حيث استهل أول أيام رئاسته بتأديته رفقة نائبه جو بايدن صلاة في كاتدرائية واشنطن التي يتردد عليها الرؤساء الأمريكيون أحياء و أمواتا حيث تحتضن مراسيم جنائزهم .

قد يكون الرئيس الجديد بارك حسين أوباما أقل تعصبا من سابقيه من الرؤساء سيما الرؤساء الجمهوريين كريغان و بوش الابن ، و لكن الأكيد أنه لن يحيد عن القاعدة الأساسية و هي الحضور الديني اللافت في السياسية الأمريكية.بيد أن السؤال الحاضر و المعقد، هو من يوظف من ؟ أي هل الديني في أمركيا يوظف السياسي أم أن السياسي العلماني هو الذي يوظف الديني.؟و كيف يتعايش العقل البراغماتي الأمريكي المادي مع العقل البروتستانتي الأصولي المتعصب ؟ أسئلة لا بد من طرحها و محاولة الإجابة عنها ليس من باب الترف الفكري أو الفضول المعرفي و مراكمة المعلومات ، و لكن من أجل معرفة دواليب العقل السياسي الأمريكي و كيفية فهمه و مخاطبته و تفسير تصرفاته و تحالفاته.

أما عندنا في الوطن العربي ، فالمفارقة تبدو بادية للعيان إذ يحاول العقل السياسي العربي أن ينأى بنفسه قدر الإمكان مبتعدا عن الدلالات الدينية إلى درجة التبرؤ و النفور ، و كأنها شبهة شنيعة، علما بأن ارتكاز نظام عربي أو إسلامي على الدين الإسلامي باعتباره دين الدولة لا يعني بالبتة أن النظام القائم هو نظام ديني تيوقراطي لأن الإسلام قد حسم القضية منذ أزيد 14 قرنا عندما أنشأ الرسول صلى الله عليه و سلم أول دولة إسلامية مدنية بالمدينة المنورة تستمد مشروعيتها من مبدأ الشورى و الانتخاب . بل ربما هذا ما يفسر التطاحن المرير عندنا بين المعسكرين العلماني و الإسلامي ، مما يفسر حالة اللافهم و اللاحوار بين الجانبين . و أكيد أن متابعتنا و انكبابنا على دراسة النموذج الأمريكي هي مناسبة لنا لمراجعة الكثير من المفاهيم و المصالحة مع الذات أولا قبل المصالحة مع الآخر.