كانت الترجمة، منذ أقدم العصور، ولا تزال من أهم القنوات المعرفية التي اهتدى إليها الإنسان للتعرف على ثقافة غيره من الشعوب التي احتك بها بوجه من الوجوه.
ولقد تعددت البواعث، وتنوعت الحوافز، وتباينت الحيثيات التي كانت من وراء تجارب الأمم التي حفظ لنا التاريخ حالها وخبرها في الترجمة، مابين دوافع ذاتية تعكس التعلق الشديد بالمعرفة لاعتبارات ثقافية معينة، وحركة علمية رسمية منظمة أيضا لاعتبارات شخصية وثقافية محددة.
ولا ينكر عاقل، أدرك أهمية التواصل المعرفي بين الأمم والشعوب، ووقف على التجارب الإنسانية المحفوظة في ذلك، فضل نقل المعارف وترجمة مظانها على الأمم سواء في ذلك الناقلة والمنقول عنها، لما سينتج عن العملية من فوائد جمة، تُبصرها بنتائج الحلوم والعقول، وتجارب الأمم والشعوب في كافة ميادين المعرفة النظرية والعملية، وتكفيها معاناة البدايات، وتوفر عليها الأحقاب المتطاولة من الأزمان والأوقات، وتورثها تركة المدنيات المتعاقبة والحضارات، ولذلك فبقدر العناية بها وبشروطها المعتبرة تكون بذورها مثمرة، وحبوبها باقية تتداولها الأمم والشعوب، وبقدر الإخلال بها وبتقنياتها وبأدبياتها وأخلاقياتها تضيع ثمارها تلك التي من أهمها، علاوة على مزية الإفادة من التراث، نسبة الفضل إلى أهله، وتحرى الإنصاف، وعدمُ التزوير والانتحال. وهكذا لا تنهضم حقوق الملكية الفكرية لدى الأمم والشعوب، ولا يتولد عن ذلك مظاهر التعصب الذي قد يؤدي إلى الاصطراع والاقتتال.
كمالا يستطيع المؤرخ لتاريخ العلوم في التراث العربي الإسلامي أن يكتم تعجبه، ويخفي دهشته، حينما يقف على الصورة التي تم من خلالها ذلك التواصل المعرفي المتميز بين “العرب مادة الإسلام” الأولى، تلك الأمة التي كانت بكرا على كثير من المعارف والعلوم، أمية، لا تكاد تعير لأمر الكتابة والكتاب أهمية، وبين الأمم التي أصبحت تحت سيادتها، عقب الفتح، وبفضل الإسلام الذي لَمَّ شَعَثَها وفجر طاقتها، وأمدها بأسباب القوة والمجد.
لقد كان، بحق، تواصلا رائعا، قل نظيره في تاريخ الحضارات البشرية المحفوظ، تمثل في ظاهرة التأثير والتأثر، السريعة الإيقاع، العميقة الغور، التي تمت بين الأمم والشعوب، التي كُتب لها أن تتعايش على الرغم من تباين الأديان، واختلاف الثقافات، وتنوع اللغات.
كما كان للكتاب والترجمة دورا بارزا في مد جسور التواصل المعرفي بين سائر الأمم والشعوب، بما شكل حركة ثقافية رائدة جديرة بالبحث والاعتبار.
ولقد وقفت من خلال استقراء مصادر التأريخ لحركة الترجمة على قرابة الثلاثين لفظا يمكن أن تقوم مقام المصطلحات المنضبطة، صنفتها بناء على السياقات المتباينة التي وردت ضمنها إلى ستة مجالات دلالية غاية في الطرافة، تحيل على الغنى من جهة كما تخبر عن الجهد المبذول من جهة ثانية، كما تدل أخيرا ما عرفت به الترجمة في التراث العربي الإسلامي من خصائص ومميزات.
الأسباب والبواعث:
هنالك عدة أسباب، مباشرة و غير مباشرة، ذاتية و موضوعية، مشار إليها في بعض المصادر و مستنبطة من ثنايا الكتب بفعل السبر والاستقراء المتتبع لحيثيات حركة الترجمة وما اعتراها من ملابسات، وما اقترن بأصحابها من أخبار وروايات، ضمن مصادر تاريخ العلوم والترجمة، التي رصدت هذه الحركة رصدا علميا موضوعيا في التراث العربي الإسلامي، متزامنة مع حركة التأليف والتصنيف، عقب استواء سوق النهضة العلمية والمعرفية في الحضارة العربية الإسلامية شرقا وغربا، منذ أواخر القرن الثاني الهجري.
- وإذا كان هنالك من أسباب جوهرية فهي لا تعدو هذه:
- تقدير المعرفة من حيث المبدأ.
- رسوخ أمم البلاد المفتوحة في العلوم والمعارف.
- رسوخ العوائد في التصنيف والتأليف.
- الجدل والمناظرة.
- احترام معارف وعلوم الأمم المغلوبة.
- التواصل والتلاقح الثقافي.
خصائص الترجمة
لا يستطيع الباحث في أمر الترجمة أن يخلص إلى رأي موضوعي ونهائي، يحصر من خلاله جميع خصائص الترجمة التي نفقت سوقها في الحضارة العربية الإسلامية إلا بعد المراجعة لجميع الترجمات، ومقابلتها بأصولها التي نقلت منها فارسية وسريانية ويونانية ولاتينية وغيرها من اللغات، وهو أمر من قبيل المستحيلات بالنسبة للأفراد، ممكن بالنسبة للجماعات والمؤسسات، وقد يتشكل رأي حول ذلك يُطمأن إليه بعض الشيء يُعتمد فيه القياس لا الاستقراء، بفحص طائفة قليلة من الترجمات وأصولها.
إلا أنه وعلى الرغم من صعوبة المهمة بالصفة المذكورة، يستطيع الناظر في كتب ومصادر تاريخ العلوم المتاحة، والتي اعتمدنا عليها، واقتبسنا كثيرا من الشواهد منها، ألا يعدم إشارات ولمع تميط النقاب عن كثير من الخصائص والمميزات نذكر بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر وهي:
- روح الأمانة العلمية.
- روح الفحص والتدقيق.
- اعتماد نهج المراجعة والمتابعة.
- السرعة القياسية في إنجاز مهمة تتطلب زمنا أطول.
- كثرة مصطلحات الترجمة أكبر دليل على المنهج العلمي والموضوعي.
- الحرص على الفهم الصحيح للأصول.
- استواء الحذق باللغات الوسائط لدى حذاق الترجمة.
- تضافر الجهود الرسمية والأهلية والفردية في ذلك.
- مساهمة كافة الأعراق في إنجاز المهمة.
لقد كانت بحق تجربة رائدة بامتياز، وناضجة بكل المقاييس، توفرت فيها كل المقومات التي تجعلها كذلك، تضافرت من أجل إنجاحها جهود كثير من القطاعات المؤثرة بدأً من المؤسسة السياسية الرسمية المتنفذة، مرورا بالمؤسسات الاقتصادية الخاصة، وانتهاء بالأعيان والأشخاص، بما أضفى عليها طابع التعبئة العامة.
وأخيرا أقول: لقد أكد النظر في المصادر التي أرخت لحركة الترجمة، التي تمت في الحضارة العربية الإسلامية، مقارنة بما تم في غيرها من الحضارات، وبخاصة في الحضارة الغربية التي نشهدها، أنها كانت موثقة ومنصفة، أنصفت أصحاب الأصول المترجَمَة جملة، وأثنت عليهم وعلى حضارتهم بما هم أهله، وتأثرت بعلومهم، ووَثَّقت أصولَهم، وحققت كتبهم، بأمانة علمية ملحوظة، قَلَّما وُجدت في غيرها من الحضارات، التي نهضت بمثل ما نهضت به، اللهم إلا فيما تحقق في الدراسات العلمية والأبحاث الأكاديمية التي أنجزت وتنجز في ظل العهد الذي تطورت فيه مناهج البحث في العلوم المختلفة.
إعداد: رابح المغراوي
أستاذ تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية
شعبة التاريخ والحضارة
كلية الآداب العلوم الإنسانية، وجدة.