تحيز مقياس الحرية في مفهوم التنمية الإنسانية

اعتمد تقرير التنمية الإنسانية العربية بدءا من إصداره الأول سنة 2002 ستة مؤشرات[1] لقياس  مستوى التنمية في المنطقة العربية، ومهما تكن نوعية النقد الذي ُوجَّه لهذه المؤشرات المقياسية، سواء من حيث ابتداعها خصيصا للمنطقة العربية[2]، أو من حيث عدم وضوح العلاقة السببية التي أقامها التقرير في إصداراته المتتالية بين تلك المؤشرات وبين الأداء الاقتصادي[3]، فإن الذي يعنينا هنا هو مقياس الحرية الذي اعتمده التقرير، والخلفية الفكرية والفلسفية للمفهوم، إضافة إلى السياق الذي وصل عبره إلى مؤشر عالمي أساسي لمستوى التنمية الإنسانية، وتحيزات النموذج المعرفي الكامن في هذا المفهوم/المعيار.

وربما كان أكثر الجوانب إلحاحا في هذا السياق هو الجانب المفهومي، إذ عنه تتفرع التحيزات الأخرى، وهو جانب متصل بطبيعة الحرية المقصودة هنا كمفهوم معياري خاص بالمجتمع ومستوى التنمية المنشودة فيه”. ما بين أن تكون حرية فردية تتحكم فيها محددات الحرية الفردية على مستوى السلوك داخل الجماعة، وهامش الحريات المتاح والحقوق السياسية..، وبين الحرية ذات الخاصية المركبة التي يتوازن فيها ما يتصل بالجوانب الجماعية، والفردية بالمجتمعية، وصولا إلى فضاء من الحرية يتمتع فيه الأفراد والمجتمعات على السواء بحق الاختيار عموما، واختيار الوجهة في مستويات التنمية و غيرها بالنسبة للمجتمعات خصوصا، والسلامة من تدخل إرادة خارجية بالإكراه، والأمن من العدوان.

ولعل أهم أوجه تلك الحرية المركبة، هو الحرية المجتمعية في اختيار نموذج التنمية، أي حرية الأمة في خيارها الحضاري متعدد المستويات.

1. التحيز في عنصر الحرية

أ. في السياق التاريخي لمفهوم الحرية:

ربما كان أصل مفهوم الحرية مما ينبغي البحث عنه وتأصيله تاريخيا في حقل القانون، وهذه أولى إشكالياته، فمند عصور ما قبل التاريخ اعتبر الإنسان الحر من الوجهة القانونية مختلفاً عن العبد الذي كان مملوكا له[4]، ويعد الفكر الإغريقي (أول من قام بمهمة التمييز النظري بين الحر والعبد، إذ تمكن من دفع الحرية على الطريق الذي جعلها إحدى الفكرويات التي تحدد مسار التاريخ الإنساني([5].(في الثقافة العربية القديمة كانت كلمة حر تعادل (نبيل) أو (شريف) و قد وردت كلمة (حر) في شعر ذي الرمة مثلا [ت حوالي 700م] بمعنى (نبيل) كما كان استخدام (حر) بمعنى شريف (حسن) شائع الاستعمال في اللغة العربية القديمة)[6] .

ثم كان الانتقال إلى الرؤية القانونية للحرية مع الرومان، والقانون هنا مرتبط بتقدير البعد الاجتماعي للحرية، فهو الذي يحدد ويقيد حرية الفرد في صلاته بأبناء مجتمعه، ويبين مدى حريته في فعل ما يريد، أو ما له استطاعة على إتيانه بصرف النظر عن مصالح الآخرين، من حيث إن الحرية الفردية هي أصالة حق فطري موروث وثابت للإنسان لا يمكن أن يجترح أو ينكر.

غير أن الفرد في جميع مناشطه مقيد بذات القانون الذي يوجب عليه مراعاة حقوق الآخرين والامتناع عن إلحاق الضرر بأبناء المجتمع الذي هو فرد من أفراده، وعليه فإن الحرية من غير هذا الاقتران والتلازم مع القانون تسوق إلى الفوضى وانتشار نزعة العدمية باستحلال ما لا يجوز.

غير أن المفارقة في دلالات المفهوم ظلت حاضرة عبر أكثر من سؤال، فهل الانصياع للقانون يشكل قيدا على حرية الفرد وإكراها له؟، أم أن القانون برغم ذلك ضرورة للاجتماع البشري يحسن معها التفريط في بعض حريات الفرد؟، إذ الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وقيم المجتمع مقرونة أبدا وضرورة بوجود القانون، كما عبرت عن هذا التلازم والاقتران الحكمة الرومانية العملية: “حيثما وجد المجتمع وجد القانون” وأن الحرية بهذا المعنى لا تعني سوى فعل ما يأمر به القانون الأخلاقي.

وفي القرآن الكريم لم ترد كلمة الحرية مجرّدة، بل وردت مشتقات من كلمة الحرية، مثل كلمة (تحرير) في الآية:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[7] .

وأيضًا كلمة (محررًا) التي تتحدث عن نذر أم السيدة مريم البتول حملها لله في آية: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[8] .

وكلمة (الحر) في آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[9].

 وعلى طريقة القرآن في ضرب الأمثال للناس؛ لإيضاح المفاهيم الضرورية بإثارة وتحفيز أدوات الفكر، وإعمال العقل فقد ضرب مثلاً في سورة النحل، يعبر عن الأهمية القصوى لقيمة الحرية في مسيرة الناس، فقال تعالى {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[10] .

فلا تساوي بين من يتمتع بالحرية ويعيش بها وبين من سلبت منه الحرية، وهذا من أساسيات منظومة التشريع التي تأسست على الوحي بتفصيلاتها الكثيرة المبينة في كتب الفقه (التطلع التشريعي لإزالة الرق، الارتباط الشرطي بين الحرية والتكليف..).

وعليه لم يكن من واجب الإنسان المكلّف في الإسلام السعي للحصول على الحرية، والمحافظة عليها، والدفاع عنها، وألا يسمح لنفسه أو لغيره بالافتئات عليها فحسب، بل إن عليه أيضًا واجب الدفاع عن حق الآخر في الحصول على الفرصة العادلة للتعرف على ملامح الحرية، وأن يوفر لـه المناخ المناسب لممارستها، وتَمَثُّل نتائجها وآثارها، وما فُرض الجهاد في الإسلام إلا لذلك الهدف: التحرر من السلطة القاهرة للإنسان في العقيدة والفكرة، ليؤمن بعدها من شاء ويكفر من شاء. وبذلك كانت النقلة شاسعة بين مفهوم الحق السلبي أو العاطل، ومفهوم التكليف والواجب الإيجابي الحي والفاعل والديناميكي.

وقد أجملت واحدة من العقليات الفقهية الكبيرة في العصر الحديث، وهو محمد الطاهر بن عاشور[11] الرؤية الإسلامية للحرية في أصالة مزدوجة تتكامل فيها: أصالة فطريتها الملازمة لكل فرد في خلقته، وأصالة مبدإ تقييدها وعقلنتها، باعتباره الشكل الوحيد الممكن لتحقيقها وإنجاحها. ما يجعل الحرية في الإسلام مرتبطة بقيم عليا أخرى موازية، أهمها بلوغ الغايات الكبرى من خلق الإنسان (تحقيقه الأمانة) وهي العبادة والاستخلاف وعمارة الأرض من جهة، وتحقق العدالة في العلاقات الإنسانية في كافة صورها وتعدد مستوياتها الفردية والجماعية من جهة أخرى.

ب.إشكالية الحرية في سياقها الحديث

 لعل أولى الكتابات الغربية التي حاولت مقاربة إشكالية الحرية في سياقها الحديث تلك التي قدمها توماس هوبز،حين عرّف الحرية قائلا: “الحرية بمفهومها الصحيح هي غياب القيود الخارجية التي تحول بين الإنسان وفعل ما يمليه عليه عقله وحكمته”[12].

ثم أخذت الحرية بعدها الأشهر مع الليبرالية التي أسست رؤيتها لمفهوم الحرية على جملة من المقولات النظرية، أهمها: أن الحرية وسيلة لتحقيق المصالح العامة، فإذا توفرت للإنسان الحرية في المجال العملي فإنه يسعى إلى تحقيق مصالحه الخاصة التي تؤدي في النهاية إلى توفير المصلحة العامة. وبذلك يمكن للمجتمع أن يستغني عن الخدمات التي تقدمها القيم الخلقية والروحية، ويصل إلى مصالحه بالطريقة التي توفر لكل فرد حريته، وتمنحه القدرة على تقرير موقفه في ضوء مصالحه الخاصة التي تلتقي بالمصالح العامة.

وعلى هذا الأساس وضعت الليبرالية مفهومها السياسي عن الدولة ومختلف السلطات الاجتماعية. فهي لا ترى مبررا لتدخل هذه السلطات في حريات الأفراد إلا بالقدر الذي يتطلبه الحفاظ عليها وصيانتها من الفوضى، لأن هذا هو القدر الذي يُسمح به للأفراد أنفسهم. أما التدخل خارج هذه الحدود فلا مسوغ له سواء كان من قبل حتمية تاريخية، أو من دين أو قيم أو أخلاق.

ومن الطبيعي أن تنتهي الليبرالية إلى التأكيد على الحرية في المجال الاقتصادي، ورفض قيام السلطة بوضع أي ضمانات أو تحديدات.[13] فقد أخذ المجتمع الرأسمالي بالحرية الشكلية[14] وطرح الحرية الجوهرية[15] وفكرة الضمان جانبا، أما المجتمع الاشتراكي فقد اعتمد الحرية الجوهرية وقضى على الحرية الشكلية بإقامة جهاز تحكمي يتولى السلطة المطلقة ليضمن للمواطنين العمل و بالتالي أسباب الحياة.

  

2. التنمية الإنسانية: تفكيك عناصر المفهوم:

كثيرة هي عناصر مفهوم التنمية الإنسانية كما تقرر وضُمِّن في تقارير التنمية الإنسانية عن منطقتنا العربية، التي تمثل إشكالات وقضايا فكرية تستحق النقد، خاصة من خلال محاولة استعراض وتلمّس مظاهر التحيز لنموذج تحليلي خاص،كامن في صياغة مفرداتها، واقتراح البدائل لها، في أفق تحقيق مطلب التنمية الحقيقية ذات السمة المجتمعية، النابعة من الحاجات الحقيقية للمجتمعات العربية.

ومن هذه العناصر مثلا:

– أسبقية العوامل الذاتية الداخلية على العوامل الخارجية في عملية تخطي واقع التخلف لبلوغ التنمية المنشودة، وهي مقولة تغفل أو تتجاهل التأثير الشديد للعوامل الخارجية.

–        اقتراح جزئيات نموذج عولمي مأزوم بوصفها تفصيلات خطة العلاج.

–         المقاييس المعتمدة لقياس مستوى التنمية، أو الأدوات المنهجية في بناء التقارير واستخلاص رؤيتها، وغير ذلك.

غير أن بلوغ الدراسات النقدية لتلك التقارير مستوى متقدما، إضافة إلى استدراك بعض أخطائها في تقارير موالية، طرح قضية أخرى شديدة الأهمية هي قضية اعتماد مبدأ الحرية كمقياس أساسي للتنمية.

 فمبعث أهمية هذه القضية، وبالتالي خطورة تأثير التحيزات الكامنة خلفها أنها مرتبطة بمستقبل المجتمع العربي من خلال الإطار الذي يرد داخله عنصر الحرية وهو التنمية، التي أضحت المطلب المشترك لمجتمعاتنا. وتخصيص مبدأ الحرية دون غيره بوصفه مفتاحا سحريا لمعضلات تلك التنمية المنشودة، حيث توّج هذا المسار باعتماد المبدأ في تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام  2004[16].

  لكن كيف بلغ مبدأ الحرية في قياس التنمية كل هذا المبلغ، وبناءا على أي مفهوم ؟.

أ. دلالة مقياس الحرية وموقعه ضمن مفهوم التنمية الإنسانية

يقوم مفهوم التنمية الإنسانية على اعتبارها  عملية توسيع خيارات البشر. وهذا التعريف ينبني عليه أن حرية الاختيار للفرد من بين عدة بدائل متاحة هي أولوية مطلقة. الأمر الذي يؤسس لمركزية الحرية في التنمية الإنسانية. وتقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004 حين يعتمد هذا التعريف، يحيل صراحة إلى كتابات نظرية يعتبرها “الأحدث” تساوي تماما بين التنمية والحرية، مثل كتابات الأكاديمي الهندي أمارتيا سن، صاحب الكتاب الشهير (التنمية حرية)[17] الذي اهتم به الباحثون والمتخصصون في قضايا التنمية كثيرا[18].

 ويعد “سن” واحدا ممن صاغوا وساهموا في تطوير مفهوم التنمية الإنسانية بهذا المعنى، إلى جانب أكاديمي شهير آخر هو الأستاذ الباكستاني محبوب الحق. فقد اعتبر “سن” أن للحرية إلى جانب دورها التأسيسي الذي يجعل منها غاية أولية للتنمية، دورا أداتيا يحيلها في نفسها أداة للتنمية. ويتعلق الدور التأسيسي للحرية بأهمية الحرية الموضوعية في إثراء الحياة البشرية، وتشتمل الحريات الموضوعية على القدرات الأولية من مثل القدرة على تجنب مظاهر الحرمان، كالمجاعات ونقص التغدية والأمراض القابلة للعلاج والوفاة المبكرة، وأيضا الحريات المقترنة بكون المرء عارفا بالقراءة والحساب، ويتمتع بحق المشاركة السياسية والتعبير عن الرأي دون رقيب…، وحسب هذا المنظور التأسيسي تشتمل التنمية على توسيع نطاق الحريات الإنسانية وغيرها. وتعتبر التنمية من وجهة النظر هذه عملية توسيع نطاق الحريات الإنسانية، ومن ثم يكون تقييم التنمية مبنيا على هذا الاعتبار[19].

كما يعتبر أمارتيا سن أن النظرة الاختزالية للحرية في البعد السياسي، لا تتفق مع واقع البلدان النامية، حيث إن ضغط الإكراهات المادية المعيشية يقود إلى قلب معادلة الأولويات لصالح المطالب الاجتماعية على حساب المطالب السياسية. وحيث إن ضغط الحاجات الأولية يقود إلى تركز الاهتمام على البعد الاجتماعي، فهو يعيد صياغة مفهوم الحرية بشكل أكثر اتساعا وانفتاحا بحيث يصبح كلا تتكامل فيه الأبعاد الاجتماعية والسياسية، وذلك ما يقوده إلى التعامل مع الحرية “كبنية للقدرات”[20].

ويكمن عنصر الجدة في أعمال هذا الاقتصادي في سعيه إلى إبراز أهمية العامل “الاجتماعي” في التنمية في وقت تتسع فيه دائرة الفقر والتهميش نتيجة التحولات العميقة المصاحبة للعولمة. وهو في الواقع إنما يقوم بذلك، منطلقا من أرضية الليبرالية، محافظا على رابطة أساسية وبارزة بها. تلك هي قيمة الحرية.

والواقع أنه بالرغم من موقع “سن” البارز في الدفاع عن منهج دراسة وقياس التنمية باعتبارها عملية توسع في الحريات الموضوعية التي يتمتع بها الناس، فانه في الحقيقة يقوم بذلك مستهديا بآراء عدد من اقتصاديي التنمية أمثال بيتر باور المعروف بمعارضته لمؤشرات التنمية الاقتصادية خاصة في كتابه “المعارضة بشأن التنمية”، ودابليو.ايه.لويس في مؤلفه المشهور “نظرية النمو الاقتصادي”، الذي يخلص من خلاله إلى أن “التنمية هي زيادة نطاق الخيار الإنساني”،مركزا تحليله على نمو نصيب الفرد من المنتج باعتباره ” ما يهيئ للإنسان سيطرته على بيئته، ومن ثم قدرته على زيادة حريته”[21].

كما اعتمد أمارتيا سن في هذا السياق على مجموعة من الكتابات النقدية للنموذج الأصلي لليبرالية، نموذج المدرسة النيوكلاسيكية، والاتجاه النقدي الذي يركز على آليات السوق باعتبارها المدخل للخروج من براثن التخلف والحرمان.

وفي بداية الثمانينات تبنت المؤسسات الدولية سياسة مستوحاة من صلب هذا الاتجاه النقدي، لكن النتائج غير المرضية لسياسات التقويم الهيكلي في بداية التسعينات أدت إلى البحث عن مقاربات جديدة. وفي هذا السياق برز أمارتيا سن كوجه اقتصادي عالمي جديد، وحاز من ثمة على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1998 اعترافا بأعماله في صياغة مؤشر التنمية البشرية.

كما أنه من الضروري قراءة أطروحة “سن” (الذي بلغ الذروة في الشهرة والتأثير “العلمي” على دوائر الأكاديميا والقرار) بصدد تحديد معايير التنمية الإنسانية، وموقع الحرية منها، بوصفها أطروحة شديدة التأثر براهن موازين القوى بين المجتمعات، وكيفية تحكمها في الفرص المتاحة أمام كل مجتمع لتحقيق تنمية حقيقة ومستقلة ودائمة، بالقدر نفسه الذي تتأثر تلك الأطروحة بتراث نقدي لمعايير التنمية يعلي من مكانة الحرية، والفردية منها تحديدا.

ومفهوم التنمية الإنسانية (الذي بشر به سن) هو المفهوم نفسه الذي تبنته الأمم المتحدة بعد ذلك وضمنته تقاريرها كمؤشر لقياس مستويات النمو في أي بلد، وبخاصة في المنطقة العربية كما تجلى في التقارير المتتابعة التي أصدرتها عن المنطقة.

     ب. تحيزات مؤشر الحرية من خلال أبعاده الفلسفية والمعرفية :

 يمثل  الحديث عن تجاهل الأبعاد المعرفية والغائية للمفاهيم والمبادئ التي تقدم في التقارير والوثائق الدولية، سمة عامة في تناول أغلب محاولات الاقتراب النقدي من تلك الوثائق، إذ يكاد ينعدم النموذج بوصفه الصورة العقلية المجردة، والنمط التصوري والتمثيل الرمزي للحقيقة، أي بوصفه نتيجة عملية تجريد (تركيب وتفكيك) يقوم العقل لبلوغها بجمع بعض السمات من الواقع فيستبعد بعضها ويبقي البعض الآخر، ثم بترتيبها حسب الأهمية، ويركبها ..

وأحد الأمثلة في هذا السياق أنه وفق تعريف التنمية المذكور سابقا، تدخل الحاجات الإنسانية كلها في مجال الرغبة والتطلع إلى الحرية، فالفقر مثلا إنما يقرأ كحرمان من القدرة، حيث ” الحرمان النسبي من حيث الدخل يمكن أن يفضي إلى حرمان مطلق من حيث القدرات “[22]. وهذا التعريف الشديد الاتساع للحرية الفردية، والذي يربطها بمختلف الحاجات المادية للفرد يحيل إلى فكرة أسر الحواس الطبيعية للإنسان، التي جاءت في السياق الفكري الطبيعي للوعي الغربي، منذ عصر النهضة وما تلاه عبر التيار التجريبي الذي نشأ في إنجلترا مع فرانسيس بيكن، وتوماس هوبز وديفيد هيوم، وجون لوك.

ومجمل ما ذهب إليه الاتجاه الطبيعي: أن الإنسان أسير لحواسه الطبيعية، وأن الوجود إدراك، وأن اليقين المعرفي مصدره الحس الذي يجعل بدوره هذا اليقين ذا صفة احتمالية.

ومع أنه من المعروف أن لكل نموذج بعده المعرفي الكلي النهائي، وما للرؤية المعرفية وخصوصيتها الحضارية من أهمية في توليد المفاهيم وتركيب التصورات، فإن ثمة نفي في منهج صياغة المفهوم/المقياس ضمن تعريف”التنمية الإنسانية”، لأي خصوصية حضارية لعنصر الحرية، كما يتضح من خلال الخلفية الفكرية لتقرير التنمية الإنسانية العربية، وتجنب أي جهد تأصيلي للمفهوم، رغم بعض الهوامش التراثية القليلة حول الموضوع، واعتبار “الحرية الإنسانية” قيمة إنسانية عامة، مع إغفال تمثّلاتها التاريخية أو الحضارية المتنوعة.

والحال أن هذا المفهوم كما ورد (اختزال التنمية في الحرية، واختزال الحرية في التوسع المطرد للخيارات على مستوى الحاجات المادية) يذكّر بداية بالتعريف الهيغلي منذ القرن 18 للتاريخ، تاريخ العالم دون تمييز في سياق الحتمية بأنه “لا يعدو أن يكون تقدما للوعي بالحرية، الذي لن يبلغ كماله وتمامه إلا بعدما يتحقق الوعي بالحرية على مستوى العالم”.

فاعتماد الحرية بهذا المعنى هو استجابة لحتمية تاريخية قاهرة يخضع لها الإنسان والمجتمع العربيين بوصفهما مجالا محايدا. على اعتبار أن التاريخ كما يرى هيغل (1770-1781): ” كتطور للروح المطلقة، لم يبدأ إلا مع بدء ذلك الصراع القديم الذي نشب واحتدم بين الأفراد والدول من أجل الحرية والاستقلال.  “ومع أن الحرية نتاج تاريخ، إلا أن التاريخ نفسه لم يكن نتاج الحرية، وإنما يتكشف في سيرورته عن ضرورة مطلقة، فكل مرحلة من مراحل تطوره، كانت وليدة الحتمية والضرورة”[23].

ولعل “هيجل” كان يضع قيدا معنويا على حرية الإنسان بصورة حتمية نحو بلوغ نهاية التاريخ واكتمال تحقق (الروح المطلق) في مرحلة الدولة البروسية. وما كان قد جرى من أحداث في أوروبا في العصور الوسطى، يوضح أن القيد المعنوي هو أكثر إحكاما وتأثيرا في سياسة الشعوب من القيد المادي[24].

كما أن السياق الفكري والفلسفي الغربي الحديث يقدم إضاءات على هذا المجال، من حيث أسبقية الحرية الفردية كشرط لتحقيق الأهداف المرتبطة بكل مرحلة من المراحل التاريخية “لتقدم” المجتمعات، وخاصة مجتمعات عالم الجنوب، التي وصلتها فكرة الحرية غالبا معزولة عن مستواها الجمعي التحرري الاستقلالي، لما يمثله هذا المستوى من تهديد لـ”حريات” أخرى موازية لا ينبغي المساس بها.

بل لعل السيطرة الأروبية على شعوب العالم كانت – كما يذهب إليه المفكر العربي عصمت سيف الدولة – “في ضمائر الفلاسفة الأوروبيين الذين ناقشوا فكرة الحرية على كل وجه ما عدا وجهها الذي يوفر للمستعبَدين في الأرض الثقة في مقدرتهم على تقرير مصيرهم، وتحقيق هذا المصير على الوجه الذي يرونه. وإلا فكيف نفسر أن الذين اختاروا الحرية للإنسان أحالوها حالة فكرية أو نفسية منعزلة عن ظروفه، والذين انتبهوا إلى الظروف أسقطوا الإنسان من حسابهم. ومن تناول الحرية من حيث الإنسان كجورج جوسدورف في كتابه “المفهوم الإنساني للحرية”         ( 1962) الذي وجد نفسه مكرها على كشف ما في ضمائر الجميع فقال إن الحرية التي يعنيها لا تفهم إلا منسوبة إلى الرجل الأبيض والمدنية الغربية”[25].

  3. الحرية تصورا سياسيا            

أ. الحرية السياسية: مفهوم مرجعي أم مقياس معولم؟

 تكاد موضوعتي الحرية والدولة تشكلان جدلية الصراع المستديم بين حرية الفرد ونضاله من أجل الاستقلال الذاتي من جهة، وسيادة الدولة بما لها من سلطة شمولية من جهة أخرى، وواحدة من أدق مجالات البحث في الحرية عموما.

ولا شك أن البحث في هذا الخصوص ينصرف إلى مناقشة العديد من القضايا المتشابكة والمعقدة، ومنها مثلا: هل يعني قيام الدولة بممارسة سلطتها العامة واللامحدودة التي تمارسها نيابة عن المجتمع، وبتخويل تعاقدي مع أفرادها تقييدا لحرية الأفراد، وتضييقا لمجال إرادتهم؟ وحظرا على استقلالهم الذاتي؟. أم أن الدولة وهي تمارس سلطانها المعنوي باسم “الإجماع” الذي أقر لها بالسلطة لا تشكل قيودا ولا إكراها أو ضغطا من الخارج غير مشروع على الأفراد، وأن الإنسان يمكن أن يكون حرا تماما في المجتمع المدني متمتعا بحرياته المدنية كما كان أثناء تمتعه بالحرية الطبيعية السابقة على طور الاجتماع المدني، ومن تم فليس من مقتضيات حريته مراعاة مصالح الأفراد الآخرين أو الهيئة الاجتماعية. وإنما تضيق حدود حريته فقط في حالة إساءة معاملته، أو أن يحكم من سلطة لم يشارك بمحض إرادته في تقرير صورتها أو الخضوع لمواد قانون لم يُبدِ رأيه في تشريعه.

وقد لخص لفيلسوف الألماني  كانط Emmanuel Kant ( 1724-1804) ،هذه الجوانب الإيجابية والسلبية لمفهوم الحرية والمواطنة في ثلاثة أصول كلية ومترابطة ، لا تقبل التجزئة والفصام، والتي تقوم عنوانا للمواطنة، وهي على التوالي :

– الحرية الدستورية: ومقتضاها إثبات وتقرير حق المواطن في أن لا يخضع لأحكام أي قانون لم يوافق على تشريعه بذاته ومن غير إكراه وعنت.  المساواة المدنية: ومقتضاها إثبات وتقرير حق المواطن ألا يعترف بأفضلية من أي نوع ودرجة للآخرين في علاقاتهم به كمواطن باستثناء من لهم الحق أخلاقيا في فرض التزامات مخصوصة بعينها على الآخرين مساوية لحقه هو كمواطن في فرض التزامات مماثلة على ذلك الآخر . الاستقلال السياسي: ومقتضاه أن من حقوق المواطنة المقررة والثابتة ألا يعتمد المواطن في وجوده، واستمرار وجوده على الإرادة التعسفية للآخرين، بل يعتمد فيهما على قدراته الذاتية كفرد في المجموع المؤتلف. وتبعا لهذا فالمواطن يكتسب شخصية مدنية لا يجوز أن يمثلها إلا هو بشخصه.

ولعلنا نجد اليوم تجليات سياسية واضحة لمفهوم الحرية، ليس على مستوى التنظير الغربي لمفاهيم الحرية السياسية  وتطبيقاتها في الدولة وما تبقى من المجتمع في الغرب وحسب، بل كذلك في المعايير التي يراد لها أن تصطبغ بسمة العالمية فتحكم المجال الحضاري الغربي وغيره من مجالات عالم اليوم على السواء.

ويمكن أن نتبين شيئا من هذا مثلا من خلال رصد مؤسسة House Freedom الأمريكية للتحولات السنوية في الحقوق والحريات على صعيد جميع بلدان العالم، ووضعها من أجل ذلك سلما للحقوق السياسية، تحتل فيه الدولة الرتبة المتقدمة بمؤشرات مقياسية من قبيل:  انتخاب رئيس البلاد، ووجود سلطة تشريعية منتخبة، وتكافؤ فرص المرشحين، وحرية وجود المعارضة، وعدم تدخل الجيش في شؤون الحكم، وتوافر الحقوق الدينية والعرفية للأقليات،إلخ.

وتُعدُّ الحقوق السياسية حين تَوفُرِ تلك المؤشرات في أحسن الأحوال، وكذلك الأمر في سلم الحريات المدنية.

اللافت أن تقرير التنمية الإنساني اعتمد المقياس نفسه الذي أقرته مؤسسة “بيت الحرية ” [26] Freedom House الذي يُعنَى أساسا بدرجة التمتع بالحريات السياسية والمدنية،”[27]، لكن الجميع يعرف أن مؤشرا من هذا النوع يتضمن درجة كبيرة من التحكم، وعدم القابلية للتطبيق بشكل ناجح عبر كافة بلدان المعمورة، وخاصة إذا ما استخدم لترتيب البلدان العربية فيما بينها”[28]

والنتيجه هنا أن ما يشي به التقرير وما أكدته الكثير من الدراسات النقدية الجادة له، أنه لم يهتم ببذل أي جهد على المستوى التأصيلي لمفاهيم الحرية والديمقراطية في الأنظمة السياسية الحديثة، وعبر التجارب الإنسانية المتعددة، بل لعلّه من الواضح أنه حسم المرجعية الحاكمة له لصالح نظرية جون ستيوارت ميل (النصف الأول من القرن التاسع عشر)[29].

 ب.الوعي العام بالحرية السياسية: مفارقة الذاتي والموضوعي.

 اعتبر تقرير التنمية الإنسانية العربية أن اتجاه الوعي العام العربي بقضية الحرية هو ملمح من ملامح “دونية مستوى الشروط اللازمة لبناء وعي جماعي بالحقوق والحريات الفردية والسعي لاكتسابه، إذ أن “لهذه الحريات في إدراكات الجمهور حدود وسياقات. ففي حدود العام 2015 سيكون عدد أبناء الأمة العربية 400 مليون، بينهم 70 مليوناً من الأمُيين. وتتجاوز أمية النساء نصف عددهن في بعض البلدان، وهناك اليوم 10 ملايين طفل عربي خارج المدارس. وهذه أمور تؤثر جميعها ليس في إدراكات الجمهور وحسب، بل وفي قدرته على الحراك من اجل الحرية والمشاركة”[30].

 ومن خلال استطلاع ميداني في خمس دول عربية حول الحرية وممارساتها، تم التركيز في مضمون الإصلاح المطلوب في البنية المجتمعية العربية لضمان “الحرية” على الحريات المدنية والسياسية (الحريات الأساسية، المواطنة، حقوق الجماعات الفردية، المرأة، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية) وكلها حقوق ذات طبيعة فردية.

أما التحرر من الاحتلال فإن التقرير لا يتحدث عنه إلا على المستوى القومي، بل إنه يعتبر أن من مشكلات الوعي العربي الحديث بقضية الحرية-وهو وعي عال كما يعترف-، أن العرب يدركونها في صيغة نضالية في مواجهة الاستعمار والصهيونية. فقد انتهى التقرير من خلال الاستطلاعات الميدانية التي أجراها حول مفاهيم الحرية وممارساتها، إلى أن العرب المحدثين لا يشكون من نقص في “وعي الحرية والكتابة فيها، لكنهم يميلون إلى اعتبارها حرية نضالية في مواجهة الاستعمار والصهيونية”.

و المفارقة هنا أن الاستطلاعات تدل على ارتباط الحرية في أذهان الجمهور بقضايا محددة، لها علاقة بحريات التعبير، والحقوق الإنسانية الأساسية في الصحة والتعليم والعمل والتنقل والتداول السلمي للسلطة”[31].

بل إن تقرير التنمية الإنسانية في قسمه الثاني عن “الرؤية الإستراتيجية”، وهو القسم الذي يتحدث عن بدائل مستقبل الحرية والحكم ، يقدم بديلا للمستقبل العربي، هو  المسمى “مسار وسط”، وهو (الإصلاح المدفوع من الخارج) حيث يراه التقرير البديل الأوفر حظا في أن يكون البديل الممكن والمطلوب، وآية ذلك أن التقرير يقدمه بين بديلين أحدهما يعتبره “الخراب الآتي”: وهو استمرار الأوضاع العربية الراهنة. والثاني هو “طريق السلامة” أي: الازدهار الإنساني الذي يبدو مطلبا بعيد المنال في ظل المؤشرات الحاضرة التي يقدمها التقرير نفسه عن شروط الانتقال إلى مجتمع الخيارات المتعددة، أي التنمية الإنسانية وفق شرط الحرية الذاتية أي ما يمكن تسميته بحرية المجتمع.

 

3. نحو حرية تنمية إنسانية

ثمة سؤال جوهري يطرح في صدد التنظير واقتراح البدائل، وهو السياق الذي  ورد فيه تقرير التنمية الإنسانية في محاولته تأصيل مفهومٍ للتنمية الإنسانية، يجعل من الحرية، والفردية منها تحديدا مرتكزا لتلك التنمية. ذلك هو سؤال إمكانية تحقيق التنمية الإنسانية بشرط الحرية المحدد في معاييرها الراهنة، كما  تطرحها تقارير التنمية الإنسانية بمؤشراتها الواردة في تلك التقارير.

ويبدو أن أهم إشكاليتين في هذا التصور هما إشكالية الاستدامة أولا.وإشكالية أو جدلية تحقيق التنمية مع ضمان الحرية في مستوى الاستقلال الوطني والقومي والحضاري ثانيا.  ولا شك أن هذين العنصرين “الاستدامة والحرية الحقيقة، أي الحق في التعدد الإنساني للنماذج”، هما شرطا تحقق التنمية بالنسبة للجماعة الإنسانية، وأبرز مطالبها في ظل الواقع العالمي اليوم.

بالنسبة للإشكالية الأولى، وعبر خبرة ما تحقق من تقدم في الغرب، فإن الأعباء التي يتطلبها استمرار راهن هذا التقدم، تقع لا على مجاله الحضاري والاستراتيجي فحسب، بل على صعيد العالم الذي أضحت سائر إمكاناته مطلوبة لتلبية متطلبات ذلك الاستمرار في تأمين التقدم الاقتصادي ومستوى الرفاه، ولعل ما يواجه  ذلك الاستمرار في معدلات النمو والاستهلاك، من تحديات مستقبلية وجودية يؤكد استحالة تحقيق التنمية المستدامة في ظل نموذج مادي، لأن أهم شروطها (الإنسانية) هو إيجاد حالة من التضامن بين جماعات المجموعة الإنسانية كما بين الأجيال، في استخدام موارد التنمية والانتفاع من نتائجها، لا أن تربط التنمية بمسارالحرية الفردية المطلقة، التي صارت الشرط الذي تبناه الغرب نهائيا (كما يقول المفكر الألماني مراد هوفمان مثلا) لأي نظام حقيقي شرعي ودستوري، وبالتالي تم فصل القيم عن المجتمع والدولة.

و الأمثلة على حال القلق الوجودي من مستقبل النموذج التنموي القائم على الحرية الفردية، خاصة في صيغتها الرأسمالية والنيوليبرالية المعولمة كثيرة، ويمكن أن نجدها عند كثير من المفكرين في الغرب نفسه ..(كانت سورة التكاثر التي تشير إلى البعد التدميري لانطلاق الإنسان في التكاثر من الإمكانات المادية سبب إسلام المفكر النمساوي ليوبولد فايس “محمد أسد” (1900-199))[32] ، ومن خلال الاتجاهات المناهضة للعولمة الاقتصادية والدفاع عن البيئة وعن حقوق الجماعة والأسرة وغيرها.

أما بالنسبة للإشكالية الثانية، فالذي يبدو هنا هو أن محددات مفهوم الحرية الذي تعتمده معايير “التنمية الإنسانية”، هي محددات خارجية مرتبطة بمصالح “داعمي التنمية” بالقدر نفسه الذي ترتبط بضرورات نمو الفرد كظاهرة استهلاكية في المجتمعات العربية. ولا تأتي التنمية المجتمعية إلا في مستوى ثالث، وهي التنمية المتجهة صوب المجتمع بحاجاته الحيوية ومتطلباته ومصلحته، وما تقتضيه من حرية في استخدام إمكاناته وسلامة تلك الإمكانات من استغلال الغير، وأمانه من التدخل الخارجي ذي الطبيعة الإكراهية .

وقد أصبح تحقق هذه التنمية المجتمعية، يثير أكثر من علامة استفهام في ظل الواقع الاقتصادي الدولي الراهن، المتسم فضلا عن انعدام العدالة في فرص الاستفادة من موارد التنمية وعائداتها على السواء، بضيق هامش الحرية في تحديد السياسات التنموية للدول وخاصة دول الجنوب.

 فإذا كان القانون الدولي يعطي (نظريا) صوتا في المؤسسات الاقتصادية الدولية لكل دولة كيفما كانت قيمة اقتصادها وأهميتها، فإن القوة الفعلية للدول في تلك المؤسسات التي تصوغ برامج “التنمية” وتضع تقارير تقييمية لمستوى الالتزام بها كالبنك الدولي[33] وصندوق النقد الدولي وهما اثنتان من أهم مؤسسات صياغة الخطط الاقتصادية و”التنموية” في عالم اليوم، مرتبطة بالمساهمات المالية للدولة. وعليه فالبلدان الأكثر غنى كالدول السبع – أو الثمان – الكبار تفرض سياساتها النابعة من مصالحها الخاصة ومتطلبات استمرار نموها وتأمين حاجاته الدائمة[34].

ولعلنا هنا نستصحب مفهوم الحرية كما طرحه المفكر العربي عصمت سيف الدولة الذي يعتبر الحرية غاية الإنسان وتاريخه، فهو يراها “كقيمة بأنها المقدرة على صنع المستقبل الممكن المأمول الذي يلبي حاجات الإنسان الدائمة التجدّد، وواقعيا أنها التطلع إلى تحرر المجتمع العربي من التبعية والتجزئة والاستبداد”. كما يعتبر أن الضرورة شرط الحرية، غير أنه ما يلبث أن يبين كيف “أن سيلا من النظريات “الأوروبية” انطلق من الضرورة ليلغي الحرية. ولا شك في أن ظاهرة عداء التيارات الرئيسية في الفكر الأوروبي – في القرنين الأخيرين – لحرية الإنسان تثير الانتباه وتستحق الدراسة “[35].

هذه المفارقة بين خطاب الحرية والنزوع الاستعماري والتسلط خارج حدود المجتمع السياسي الغربي دَفع غير واحدٍ من المفكرين الغربيين إلى الثورة على الفلسفة الغربية الحداثية ووصفها بالنفاق والازدواجية، ليصبح هذا الرأي من معالم الفلسفة بعد الحداثية. فالفيلسوف الألماني نيتشه Nietzsche Friedrich مثلا يرفض في كتاباته دعوى الفكر والفلسفة الغربيين الحديثين أنهما يهدفان إلى البحث عن الحقيقة، ويرى أن الإرادة الحقيقية للفكر الغربي ليست إرادة الحق بل إرادة القوة. وبالتالي يجعل مبدأ القوة المبدأ الحاكم للفكر والفعل[36].

والخلاصة أنه إذا اعتبرنا أن خبرة عملية التنمية تفيد بأنها أحد خيارين، وهما التمدد المادي أوالتحقق الإنساني، فلا شك أن التنمية بمقتضى الأولوية المطلقة لمعيار الحرية هي تحيّز مطلق للمفهوم للأول. إذ الحرية الإنسانية حرية خيار حضاري بالضرورة بمعنى أنها لا تتحقق إلا بحرية مجتمعية في اختيار نموذج التنمية، أي حرية أي أمة في خيارها الحضاري، ذلك الخيار الذي يقع -كما يعبر الفيلسوف والمفكر الفرنسي روجيه غارودي ببلاغة – بين فردانية الغابة وبين الشمولية الهدامة.

لقد قال أمارتيا سن  إن” المجاعات لا تقع في ظل الأنظمة الديمقراطية”[37] ، لكننا نجدها اليوم واقعة بالفعل في ظل ذات النظام الديمقراطي لكن بسبب الإرادة الخارجية، وما وقع ذات يناير من سنة 2008  في منطقة اسمها قطاع غزة من حصار وتجويع برغم ديمقراطية النظام السياسي الذي أوصل حكومتها للسلطة، دليل معبر في هذا المقام، ذلك أن ثمة عنصرا غائبا للحرية، والسبب الأساسي ليس غياب الحريات الفردية والسياسية، بل السبب هو فقدان الحرية الجماعية للوطن وأبناءه، نتيجة للهيمنة الخارجية واحتلال الأرض.  

 

 

 

 

 

 

 

 


 


[1]  هذه المؤشرات هي: العمر المتوقع عند الميلاد، التحصيل العلمي، مقياس الحرية، مقياس تمكين النوع/ تمكين المرأة، الاتصال بشبكة الإنترنت،  انبعاث ثاني أوكسيد الكربون.

[2]  راجع بهذا الخصوص: منير شفيق، تنمية إنسانية أم عولمة: دراسة تحليلية نقدية لتقريري التنمية الإنسانية العربية لعامي 2002 و2003، دار الطليعة، الطبعة الأولى بيروت 2004، خاصة القسم الثاني: نقد مؤشرات التنمية الإنسانية/ مقياس التنمية الإنسانية.

[3]  راجع  مقال د.جلال أمين في الموضوع بصحيفة الحياة 25/7/2002.

[4]  فرانتر روزنتال، مفهوم الحرية في الإسلام  ترجمة و تقديم د. معن زيادة د. رضوان السيد، طبعة معهد الإنماء العربي ص 15.

[5]  روزنتال، مرجع سابق  ص 15 .

[6]  نفس المرجع ص:23

[7]  الآية (92) سورة النساء

[8]  الآية (35) سورة آل عمران.

[9]   الآية (178) سورة البقرة.  

 

[10]  الآية (75) سورة النحل.

[11]  راجع تفاصيل تلك الرؤية في: كتابي محمد طاهر بن عاشور ( أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) و(مقاصد الشريعة).

 

[12]    Hobbes, Thomas, Leviathan, in William Bernstein. NY:Holt, 1969, p375

 

[13]  راجع للتفصيل محمد باقر الصدر، اقتصادنا ص: 263-270                                       

 

[14]   تعرف  بأنها سماح المجتمع للفرد ضمن إمكاناته وفرصه التي يحددها موقفه في حلبة التنافس مع الآخرين باتخاذ أي أسلوب يتيح له شراء السلعة.

 

[15]  هي القدرة التي يكسبها الإنسان من المجتمع على القيام بفعل معين إذا كان هذا المجتمع يوفر له الوسائل والشروط التي يتطلبها القيام بذلك الفعل.

 

 [16]  تقرير التنمية الإنسانية العربية ” 2004 “نحو الحرية في الوطن العربي” .

[17]  أمارتيا سن، التنمية حرية، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت -عدد303 مايو 2004.

[18]  أفرد له الدكتور جلال أمين فصلا “بعنوان الحرية (ص71) من كتابه الهام والممتع ” خرافة التقدم والتأخر: العرب والحضارة الغربية في القرن الواحد والعشرين”، دار الشروق 2005.

[19] أمارتيا سن، التنمية حرية، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت -عدد303 مايو 2004، ص 50

[20]  أمارتيا سن مرجع سابق ص 85.                                                                                                                         

[21]  راجع مناقشة سن لهذه القضايا في دراسته ” محاضرات تانر”، كامبريدج 1985.

[22] أمارتيا سن، التنمية حرية  مرجع سابق ص: 113

[23]   راجع تفاصيل آراء هيغل في هذا المجال في: روجيه غارودي، فكر هيغل، ط 2 دار الحقيقة بيروت 1983، ص 143 و144.

 

[24]  راجع  د. إبراهيم حسين العسل، التنمية في الفكر الإسلامي: مفاهيم عطاءات معوقات أساليب، الطبعة الأولى مجد بيروت 2006.

 

 

[25]  د.عصمت سيف الدولة، نظرية الثورة العربية الكتاب 1 الأسس: جدل الإنسان، الحرية أولا.وأخيرا، دار المسيرة ط1 بيروت 1989 ص 172

[26]  عرّفها التقرير بأنها مؤسسة أمريكية لا تهدف إلى الربح.

[27]  اعترف كبير معدي التقرير د.نادر فرجاني بعد ذلك بخطأ اعتماد هذا المؤشر حين كتب قائلا  ” الخطأ الكبير الذي يؤرقني أكثر من غيره، ألا وهو اعتماد مؤشر الحرية الذي يصدره بيت الحرية الأمريكي. يقيني الآن أن الاعتبارات الفنية والعملية التي قدّمها التقرير (2002) لتبرير استعمال هذا المؤشر، رغم التحفظات المهمة التي أبداها عليه، لا تصمد أمام إمعان النظر” وجهات نظر عدد47 ديسمبر 2002، ص 63.

[28]  راجع تفصيل الملاحظات النقدية له عند: د. محمود عبد الفضيل، مجلة وجهات نظر العدد47 ديسمبر 2002

[29]  رضوان السيد، مسألة الحرية والديمقراطية في تقرير التنمية العربية، الحياة  2005/04/16

 

[30]   المرجع نفسه

[31] رضوان السيد، مسألة الحرية والديمقراطية في تقرير التنمية العربية، الحياة  2005/04/16

26 مقدمة إشكالية التحيز ص 17

[32]  راجع تفاصيل قصة إسلامه وأسبابها الفكرية العميقة في كتابه  الطريق إلى مكة  الذي ألفه سنة 1954. ص 295 إلى 311.

[33] تروي الكاتبة الهندية “أرونداتي روي Arundhati Roy” قصة دالة جدا بخصوص صلاحيات البنك الدولي ورئيسه ، وقعت في نيودلهي خلال مظاهرة حاشدة للمتضررين من مشروع سد “نارمادا” حين طالب المتظاهرون بالتحدث إلى رئيس البنك فطلع بعد مدة على الحشد “مثلما يخرج ملك ابيض” – كما تقول – قائلا: “سأدرس حالة كل واحد منكم على حدة” فتعالت أصوات المتظاهرين: “من تكون حتى تتحكم في مصائرنا ومصير أراضينا وأنهارنا”.  Arundhati Roy, Défaire le développement, sauver le climat, L’Ecologiste, numéro spécial (Hiver 2001) n° 6, volume 2, N°4, P7.  

 

[34] Albert Jaquard : j’accuse l’economie triomphante Calmann-lévy, 1995, p : 74

[35]  الأسس: جدل الإنسان، الحرية أولا مرجع سابق ص: 172

[36] Nietzsche, Friedrich, Beyond Good and Evil, Trans. Walter Kaufmanns, NY: Randon House, 1966, p. 9

 

[37] أمارتيا سن، التنمية حرية، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت -عدد303 مايو 2004،ص49

 

.