جدلية الديني والسياسي:مقاربة تاريخية- فقهية

مدخل منهجي:

لا يخفى على الباحث في العلوم الإنسانية أهمية الدين وتفاعله بالحياة السياسية والاجتماعية، وإسهامه في حركة التاريخ الإنساني سلبا وإيجابا.

واستجابة لهذه الأهمية تأتي محاولتي لتقارب جدلية الديني والسياسي في الفكر الإسلامي بالنظر إليها من الزاويتين التاريخية والفقهية.

ولن يكون من أهداف دراستي الاستغراق في تحديد المصطلحات، مثل ما الدين؟ وما السياسة؟ لأن منهجية البحث ستراهن على الفهم الفطري والتلقائي للمصطلحين. ذلك أن الدين فيها – بداهة – هو الإسلام الذي أطر، على الأقل نظريا، جميع مناحي الحياة الإسلامية. والسياسة هي تدبير الشأن العام من طريق الحاكم والمؤسسات.

ولن يكون من أهداف دراستي كذلك التحيز لأحد التيارين الكبيرين المتنازعين حول علاقة الدين بالسياسة، بحيث يرى أحدهما في السياسة جزء من الدين، ويقول الآخر بالفصل التام بينهما.

بل إن بحثي يهدف إلى مناقشة ملامح التجربة السياسية الإسلامية التاريخية، ومقوماتها الفكرية، ثم يبحث عن موقع الدين منها، كما أنه يرمي إلى ضبط علاقة الدين بالسياسة، ومن ثم تقريب الرؤى بين الفرقاء على الواقع المعاصر.

ولن أنظر إلى علاقة الدين بالسياسة من زاوية جزئية تتعقب الأحداث والمواقف ومظاهر الحياة لأعرضها على الدين وأحكامه وقيمه، بل سأنحو مسلكا كليا يستند إلى بعض المقولات التاريخية والفقهية ذات البعد الاستقرائي لأقود القارئ إلى تمثل السيرورة التاريخية والإطار الفكري العام في مقاربة جدلية الديني والسياسي.

سأقسم الموضوع إلى فصلين:

الفصل الأول: التأطير الفكري والتاريخي العام لعلاقة الدين بالسياسة، سأركز فيه على مقولات ابن خلدون باعتباره أرقى تعبير فكري تاريخي عن هذه العلاقة، ونظرا لما تملكه مقارباته من قيمة علمية ومصدرية.

الفصل الثاني: سأتناول فيه، في ضوء نتائج الفصل الأول، بالدرس والتحليل مصادر الفكر والفقه السياسي الإسلامي لاستخلاص العمق النظري في بناء علاقة الدين بالسياسة.

وعموما سأحاول قراءة الماضي في ضوء الحاضر، والحاضر في ضوء الماضي، محاولا تلافي الوقوع في إسقاطات لا تأخذ في الاعتبار خصائص وحيثيات الزمان والمكان والتجربة.

لأول:

I- استقراء التاريخ:

يعرض الفصل الأول فرشة فكرية – تاريخية تبحث ابتداء عن الأصل المؤسس لعلاقة الدين بالسياسة، ثم تحاول في المقام الثاني الوقوف عند اضطراب هذه العلاقة، لتخلص في الأخير إلى رصد أسباب هذا الاضطراب. والغرض من هذه الفرشة تحديد الإطار الفكري العام في مقاربة هذه الجدلية سواء في هذا الفصل أو في الفصل الموالي.

1- الأصل في العلاقة:

أستفتح بنص من مقدمة ابن خلدون لكونه يعرض استقراء تاريخيا للتجربة السياسية الإسلامية، ويُحدد هذه العلاقة بكيفية دقيقة ومن زوايا مختلفة، إذ يلح على اصطحاب «نور الله» ليرفع منسوب الأخلاق والعدل في ممارسة السلطة. يقول: «فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك (حمل الناس على الالتزام بالشرع) في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع الإنساني، فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطا بنظر الشارع، فما كان منه بمقتضى القهر والتغلب وإعمال القوة العصبية في مرعاها فجور وعدوان ومذموم عنده، وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنه نظر بغير نور الله ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور»([1]).

واعتبر ابن خلدون ذلك الالتزام المثالي بمبادئ الإسلام والخضوع الكامل لتعاليمه في سياسة الحكم، وعدم نشوب الخلافات حوله، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تم «كله بخوارق العادة من تأليف القلوب واستماتة الناس دونه، وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرتهم وتردد خبر السماء بينهم وتجدد خطاب الله في كل حادثة»([2]).

وعليه فإن إمارة النبي صلى الله عليه وسلم وإن جاز أن نسميها حكومة فهي حكومة رسالية، تسير طبقا للوحي ومراقبة من الله، والحاكم فيها مختار من الله وليس للمحكومين حق الاعتراض على هذا الاختيار لأنه معصوم من أن يجنح إلى أخلاقيات السياسة الفاسدة وسلوكياتها المنحرفة. إنها حكومة من نوع خاص «لا توجد إلا حيثما يوجد نبي، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم »([3]).

واشتهرت في التاريخ الإسلامي حكومة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بالاستقامة والعدل، وهي حكومة متوازنة ومن ثم بدت مثالية، ذلك أن عمر هو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم أنه محدث، أي ملهم أو متنبئ، ومن يقل عنه النبي هذا بوحي من الله يكون من طبيعة خاصة وتكوين استثنائي، وأنه بذلك أدنى إلى طبائع الأنبياء. وبهذا التكوين وقف عمر بقوله ورأيه وفعله «ضد قوانين الدنيا التي تعمل على غلبة السياسة وأخلاقياتها عندما تختلط بالدين أو تقترب منه، فظلت القيم الدينية هي السائدة دائما»([4]).

بالرغم من عدم وضوح موقف محمد سعيد العشماوي(*) من الخلفاء الثلاثة الباقين (أبو بكر وعثمان وعلي) ومدى التزامهم بالرشد، ورغم كل ما يمكن أن يوجه إليه من انتقادات حول استمرار ارتباط الدين بالسياسة بعد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، يبقى طرحه على العموم مُهما من حيث نفيه العصمة أو القداسة عن أي سلطة سياسية أو حركة دينية تمارس السياسة. «فالقرآن الكريم لم يتضمن أي آية تتصل بالحكم السياسي أو تحدد نظامه، ولم تتضمن الأحاديث الشريفة أي نص في هذا الصدد، ولو كانت ثمة آية – ولو واحدة – لاحتج بها أحد الصحابة أو المهاجرين أو الأنصار إثر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أو عند استخلاف أي من الخلفاء الراشدين الأربعة»([5]). وفي هذا تعبير دقيق عن وضوح الإسلام إزاء الأجواء المتوترة والأهواء المتفرقة أثناء مرحلة انتقال السلطة بحيث لا يعطي الفرصة لأي كان للتوظيف الذاتي أو القبلي أو الحزبي. وهذا ما سيؤهلنا أكثر إلى ضبط علاقة الديني بالسياسي في إطار من الوضوح والموضوعية، ويمنحنا القدرة على انتقاد أي تجربة سياسية بشرية مهما حاولت أن تلتزم بهدي الدين وتمتح من معينه.

2- اضطراب العلاقة:

هناك شبه إجماع على أن الفترة التي تلت حكم الخلفاء الراشدين الأربعة تميزت بضعف الوازع الديني، واستحكمت فيها الطبائع والعوائد «وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان، فاعتبر أمر العصبية ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد، وأصبح الملك والخلافة والعهد مهما من المهمات الأكيدة»([6]). فبعد ارتفاع الخوارق وغياب الملائكة وانقطاع الوحي، تنهض العادة والعصبية ويستحكم منطقا المصلحة والمفسدة.

ويعبر محمد خاتمي(*) عن هذا التحول بشيء من الجرأة، فبعد إقراره برشد الحكم الإسلامي عهد الخلفاء الأربعة، ينتقل إلى الحديث عن انحراف الحكم الذي «يضع للانتهازية عنوانا من الدين، ويقدم للظلم تبريرا من الشريعة، ويضفي على الانحراف هالة من الإيمان، ويجعل سفك الدماء ظلما وعدوانا عملا من أعمال الجهاد»([7]). يقول الرئيس السابق للجمهورية الإسلامية الإيرانية:

«مع انبثاق الإسلام، اهتزت قواعد سلطة التغلب. بيد أن الأمر لم يدم أكثر من أربعين سنة بعد ظهور الإسلام، فبعد انتهاء المدة التي اكتست عنوان “العصر الراشدي” عاد الاستبداد والقهر ليحكما الأمة الإسلامية ويتحكما بها على نحو أخطر، ولكن مع فارق هذه المرة تمثل بالسعي لتوجيه هذا التغلب والاستبداد وقهر السلطة على أساس قواعد الدين الإسلامي ذاته»([8]).

ويورد ابن خلدون في مقدمته سلوكات تحيل على تحول الدين- في شق الحديث النبوي- إلى أداة تستعمل لإدارة التقاطب والتنافس السياسيين، مثل: «العُبَيْدِيِّين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله عليهم والطعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفا إليهم»([9]).

وأسوء علاقة نسجت بين الدين والسياسة هي التي نَظّر لها الشيعة حينما اعتبروا الحكم من أصول الدين، والإيمان بالحاكم أو الإمام – المصطفى بطريقة غير مباشرة من الله – من ركائز العقيدة. فلتقرأ ما أورده الكليني في أصول الكافي، وهذا الكتاب بالنسبة للشيعة يعتبر في مقام صحيح البخاري عند أهل السنة والجماعة,: «كتب الحسن بن العباس المعروفي إلى الرضا (وهو الإمام الثامن علي بن موسى): جعلت فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والإمام والنبي؟ فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام أن الرسول هو الذي ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي. وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم. والنبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع. والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص»([10]).

المتأمل لهذا النص يدرك أن الفرق بين الإمام والرسول هو فرق شكلي، وبناء على دلك يصير الحكم مسألة محسومة بالنص المقدس – كالنص السابق وغيره مما لا يتسع المجال لذكره – فلا مجال للنقاش والتداول.

وكان لهاته العلاقة صدى عند أهل السنة، إذ رغم اعتبارهم الحكم من فروع الدين إلا أنهم، وفي فترات تاريخية، مارسوا الحكم – أدركوا ذلك أم لم يدركوا- الذي هو في جوهره اختيار وتدبير بشرين، بمنطق الكمال والقداسة التي لا يتيحها إلا وحي مؤيد معصوم.

«وقد زكى هذا المعنى خلفاء مستبدون أرادوا استغلاله (الحكم) لا لصالح الدين وصوالح المسلمين، ثم عملت بطانتهم من الفقهاء على تبريره وتثبيته في الفكر الإسلامي، فلقد قال معاوية بن أبي سفيان: (الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي وما تركته للناس فالفضل مني). وقال أبو جعفر المنصور العباسي: (أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة وعنكم ذادة، نحكمكم بحق الله الذي أولانا، وسلطانه الذي أعطانا وأنا خليفة الله في أرضه وحارسه على ماله). إن هؤلاء الخلفاء – لا القرآن ولا السنة –هم الذين جعلوا حكمكم هو حكم الله، وأن نظام الحكم هو من صميم الدين، وخلاصة ذلك كله أن أي شعار يزعم أن نظام الحكم هو من صميم الإسلام (…) يريد أن يضفي على الحكام سلطة كهنونية وعصمة ممقوتة أراد الله سبحانه أن يطهر منها الإسلام»([11])

وهذا النص الطويل يثير في بداياته مؤسسة الفقهاء التي شكلت، عبر التاريخ الإسلامي مرجعا فكريا وشرعيا لكل الحكام، ووجود هذه المؤسسة ضروري لتحقيق «نور الله» في ممارسة الحكم، غير أنها تحولت في كثير من الأحيان – زمن اختلال علاقة الدين بالسلطة- إلى حاجز يحول دون رؤية سديدة للدنيا وممارسة راشدة للحكم. ويمكن استنباط ذلك من خلال مخاطبة الفقهاءِ الخليفةَ بالآيات القرآنية التي خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم لتأييد فعله وتبرير تصرفه، «في إيماءات أو إشارات تفيد معنى المطابقة بين شخصه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، مما أدى إلى نتيجة وخيمة جدا، حين خلط العقل الإسلامي بين مقام النبوة ومنصب الخلافة»([12]).

ونفس هاته الخلاصات توصل إليها العديد من الباحثين، فهذا عبد الجواد ياسين يقول بأننا «نستطيع دائما أن نجد التاريخ السياسي كامنا خلف تاريخ العقيدة والفقه والأصول»([13]). وهذا ما سيتم مدارسته في الفصل الثاني من هذه الدراسة.

ويمكن اعتبار تقويم الفقه والعقائد وإعادة قراءتها بحياد وتجرد مدخلا حقيقيا لتوجيه فكرنا وفعلنا السياسيين نحو الرشد والسداد.

في المقابل، واستنادا إلى الاختلال الناجم عن عدم انسجام أحكام الدين وضرورات السياسة، اتخذت الكثير من النخب في العالم الإسلامي موقف تحييد الدين وعدم إقحامه في الدنيا، حيث إن السياسة «هي الدرجة التي تحترق فيها الإيديولوجيا والأخلاق، حين نبدأ السياسة نقاطع الطهرانية وندخل في حلبة البرغماتية والواقعية حتى ولو كنا طهرانيين»([14]).

وللأسباب ذاتها نجد محمد سبيلا يؤكد على توجيه الدين إلى التربية الروحية والعبير الذاتي. يقول:

«إن توجيه الدين نحو السلطة، والسياسة والدنيا، بدل توجيهه نحو فضاءات الحرية والعبير الذاتي والتربية والتأطير الروحين أمر قد يقود إلى نتائج غير متوقعة لأنه ليست هناك ضمانات للفصل بين القيم المثالية العليا وبين المصالح والمطامع الدنيوية الفردية والجماعية. لكن التاريخ وحده كفيل بأن يبرز لنا أشكال المكر التي تتلبس الأحداث والأشخاص»([15]).

مما سبق يتضح أن بعض النخب ترى في تحييد الدين إجراء يضمن عدم تكرار التجربة التاريخية للحكم الفاسد الذي يرتدي رداء الدين، ويبدو أنها تروم الحفاظ على الدين ودفع تدنيسه وذلك بإبعاده عن حلبة التدافع السياسي، في حين ترى نخبا أخرى ضرورة إقحام الدين في السياسة لغرض الحفاظ على السياسة وتخليقها بما يوفره الدين من طاقة روحية وتوجيهات ضابطة.

3- أسباب اضطراب العلاقة:

يفسر ابن خلدون الركون إلى “العوائد” وابتعاد الحكم عن هداية الدين بنزوع الحاكم إلى الاستفراد بالمجد، إذ لا يتم ذلك إلا بإقصاء العصبيات فيدفعهم «عن مساهمته وقد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة وقد لا يتم إلا للثاني والثالث على قدر ممانعة العصبيات، سنة الله التي قد خلت في عباده»([16]).

وقد تكون الأزمة خانقة تستدعي توفير كل الإمكانات لتجاوزها، فإنك تجد الحكام «ينزعون مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم»([17]).

وبناء عليه فإن ابن خلدون يرى أن الترف والقهر والقتل أعمال تمليها الأنفس المريضة، كما يعتبرها مؤشرات دالة على تلاشي السلطة ودنو سقوط الحكم. يقول: «فيحيط بهم (الملوك) هادمان. وهما الترف والقتل، ثم يصير القهر آخرا إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف…»([18]).

أمام هذا التحليل النفسي والسياسي لإشكال الصراع على السلطة، لن يعود من المجدي التهجم تاريخ التجربة السياسية الإسلامية، لذلك وجه د.منير شفيق نقده إلى بعض الأطروحات المتحاملة على التاريخ الإسلامي، والمجانبة للتحليل العلمي الموضوعي، قائلا عن تقاتل المسلمين:

«وما هذا ببدعة في تاريخ المجتمعات، بل هو ظاهرة عامة وقانون عام، يمكن أن نجدهما حتى في الحركات التي وصلت إلى حكم الدولة من خلال نضال سلمي لا عنفي، وقد جعلته مبدأ لها. كما حدث مع غاندي على سبيل المثال، فدولة غاندي سرعان ما أقامت جيشها وشرطتها واستعدت للرد بالسيف على كل خروج عليها، ولها اليوم سجل دام عدواني في هذا الصدد (…) ولهذا ليس من العدل والعلم في شيء أن يعالج ما واجهته دولة الإسلام في صدرها الأول بمعزل عن السنن التي تحكم المجتمعات، فيصور ما يدخل في إطار الظاهرة العامة التي لا مفر من حدوثه كأنه اختراع إسلامي، وإلقاء مسؤولية حدوثه على الإسلام وعلاقته بالسياسة والدولة…»([19]).

ويرجع الأستاذ محمد يتيم عدم انتقال السلطة بشكل سلمي وفشو الفتن في التاريخ الإسلامي إلى افتقار نظام الخلافة للآليات الدستورية الضابطة لتداول السلطة خاصة بعد ضعف الوازع الديني. يقول: « فقد اعتمدت تلك التجربة (الخلفاء الراشدون) في نجاحها بالدرجة الأولى على السمو الديني والأخلاقي للخلفاء، بينما عاشت حالة فراغ دستوري على مستوى الآليات الضابطة لانتقال السلطة بشكل سلمي، وهو الفراغ الذي ملأه كل خليفة بطريقته الخاصة»([20]).

غير أن الأمر ليس بهذا الإطلاق، لأن التاريخ السياسي للخلفاء الراشدين عرف هيئة “المهاجرين الأولين” التي ظلت معيارا لكل اجتهاد دستوري يمس قضية انتقال السلطة.[21]

هذه باختصار شديد المفاصل الكبرى لقضية ارتباط الدين بالسلطة في التاريخ الإسلامي، والتي يمكن أن تشكل –في جزء منها- خلفية فكرية ومنهجية لدراسة جدلية الديني والسياسي.

خلاصة:

إن ارتباط التدبير السياسي بنور الله وبهدي الدين، كان أصلا يؤطر فترة النبوة، وليس في الممتنع أن يسود هذا الأصل بعض الفترات التي يقوى فيها الاستمساك بعروة الدين وتعاليمه وإجراء مقتضياته على الحياة السياسية. لكن ابن خلدون وهو من هو في تمحيص دورات التاريخ وسننه، يميز بين فترة النبوة التي اجتمعت فيها الكلمة وغاب فيها التنازع وعلا فيها الدين على كل صوت، وفترة ما بعد النبوة التي شابها ما شابها من تردد وغموض واضطراب في علاقة الديني بالسياسي.

وذات التمييز يمكن أن يؤسس من الزاوية الأصولية والفقهية، إذا نزعنا إلى تأطير الدنيا بالقطعي الديني الذي يمثله الوحي الخالص(القرآن والسنة)، ونأينا عن الظنيات، الناجمة عن مصادر أخرى تزاحم نص الوحي، التي قد تُنشئ إلزامات تسمو إلى رتبة قدسية الوحي، ذلكم ما يصنعه القياس والإجماع ومصادر تشريعية أخرى لا يمكنها الصمود بعد إبطال حجية القياس والإجماع !! 

وذلك هو موضوع الفصل الثاني بحول الله وقوته.

II – استقراء الفقه

وسيعنى هذا الفصل بتحليل اجتهاد فقهي لا زال يراه الكثير بأنه غير مؤهل لتقديم فهم سليم للدين، وغير قادر على بلورة منهج لتدبير شؤون الدنيا. هذا الاجتهاد هو ما أرساه ابن حزم في القرن الرابع الهجري، حيث إنه بلور مواقف أصولية تحيل إلى أبعاد تدبيرية وسياسية، كما أنه عرض، من خلال بعض مباحث أصول الفقه، مقاربة منهجية تتحكم في إنتاج المعرفة الإسلامية والقيم، وتؤثر في تجديد الخطاب الديني.

سأبدأ بعرض مفهومه للدين من الزاوية الأصولية، ثم أتبع ذلك مواقفه الأصولية اتجاه التقليد والإجماع والقياس، لأصل إلى موقفه من العقل. 

1- الدين النص:

يقول ابن حزم: “كان الدين والإسلام لا تحريم فيه ولا إيجاب، ثم أنزل الله تعالى الشرائع، فما أمر به فهو واجب. وما نهى عنه فهو حرام، وما لم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلق حلال كما كان، هذا أمر معروف ضرورة بفطرة العقول من كل أحد”([22]).

وطلب أحكام الدين يكون من “القرآن والسنة الثابتة(*) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ليس الدين في سواهما أصلا”([23]).

فالدين عند ابن حزم كله نصوص، إذ ليس من الممكن أن يفرط الله ورسوله في الكتاب من شيء، ويرد على معارضيه مؤكدا صواب منهجه النابع من النصوص أصلا، يقول:« واعلموا أن قولهم: هذه المسألة لا نص فيها قول باطل وتدليس في الدين وتطريق إلى هذه العظائم، لأن كل ما لم يحرمه الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن مات فقد حلله بقوله {خلق لكم ما في الأرض}(*) وقوله {قد فصل لكم ما حرم عليكم}(*)” ثم يؤيد ذلك بالحديث الصحيح: “دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فآتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه”. فصح نصا أنه ما لم يقل به النبي صلى الله عليه وسلم فليس واجبا لأنه لم يأمر به وليس حراما لأنه لم ينه عنه، فبقي ضرورة أنه مباح»([24]).

والملاحظ أن منهجه مستقى من النصوص، فهو لا يحيد عن النص سواء تعلق الأمر بأصول الدين أو بفروعه، ولا يتركه لاجتهاد أو رأي أو قياس بل وحتى لإجماع، فوصف بالظاهري. وقد يوحي هذا الوصف بما لم يقصده ابن حزم، إذ قد يوحي إلى أنه مخاصم للتأمل والتدبر بل قد يبعث على أنه يغلق باب التعليل ومن ثم الفقه “ومن يمنع ذلك فإنما يضيق واسعا، ويحجر على العقول أن تفكر في شرح الله تعالى لتطبقه”([25]).

في المقابل كان ابن حزم يعي أن ظاهريته هي عامل قوة في منهجيته(*)، إذ لم يصح نصا ولا عقلا أن يقتسم أحد مع الله ورسوله مهمة التشريع، فمن “أوجب ما لا نص فيه بإيجابه أو حرم ما لا نص فيه بالنهي عنه، قد شرع من الدين ما لم يأذن به الله”([26]).

إذ الأمر لا يتعلق ب”التفكير في شرع الله” كما فهم الشيخ أبو زهرة، ولكن القضية أخطر من ذلك، خاصة إذا استحضرنا مفهوم الإلزام الذي لا يمكن أن يتم وأن يصادق عليه بمجرد التفكير في “شرع الله لتطبيقه” أو باعتماد قياس على نص من نصوص الوحي أو بإجماع الناس على ما لا نص فيه، فالقضية مرتبطة بحق الله ورسوله في تشريع الدين لا ينبغي التجاسر عليه. كما يضمر هذا التجاوز إخبار عن الله برأي مستنبط من نصوص الوحي.

وهذا الرأي الذي يحتمل الخطأ والصواب متاح للفقهاء الذين يمتلكون أدوات التحليل والتركيب، وباقي الناس يلجأون إلى الاستهلاك والتقليد.

التقليد حرام:

وطالما بقي الدين على هذا الوضوح ومحصورا في نصوص معلومة، فلا “يحل لأحد أن يقلد أحدا حيا كان أو ميتا”([27]). ومن مآخذ الدكتور يوسف القرضاوي على ابن حزم “تحريمه التقليد على كل الناس، حتى العوام الذين ليس لديهم أدوات الاجتهاد”([28])، إضافة إلى مؤاخذات أخرى كالاستهانة بالمذاهب الأخرى والتزام الحرفية، وكلها أحكام أرى، والله أعلم، أنها نابعة من نظرة تجزيئة غير كاملة لفكر ووجهة ابن حزم.

فإذا لم يكن الناس على قدر متساو من التفكير فإن “على كل أحد من الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله عز وجل” ولننظر إلى مفهوم الإلزام كيف يؤكد عليه ابن حزم، إذ الإلزام لا يخبر عنه إلا الله ورسوله، ومن ثم فقد “فرض عليه إن كان أجهل البرية، أن يسأل عن أعلم أهل موضعه بالدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دل عليه سأله، فإذا أفتاه قال له: هكذا قال الله عز وجل ورسوله؟ فإن قال نعم أخذ بذلك وعمل به أبدا، وإن قال له هذا رأيي أو هذا قياس أو هذا قول فلان (…) فلا يحل له أن يأخذ بقوله” ([29]).

إذا وجد النص في أمر ما ولم يعلمه العامي يسأل عنه أهل الذكر، وإذا لم يوجد فيه نص فعلى الفقيه السكوت(*) كما سكت الشرع لأنه “مباح مطلق حلال كما كان”([30]).

بحق، كيف نُمْضِي رأي إنسان أو قياسه أو إجماعه على أنه شرع من الله ملزم لا يسع مخالفته؟

سؤال في غاية الوجاهة سينطلق منه ابن حزم، متحررا من رواسب ثقيلة رسخها التاريخ والفقه، لشن حملة شعواء على مصادر تشريعية غير نصية مزاحمة للنص.

2- حملة على كل ما يزاحم النص !

سيناقش هذا المحور موقف ابن حزم من الإجماع والقياس، وإدراج هذا الموقف في هذه الدراسة مهم من حيث إعادة طرح سؤال يحسبه المثقف الإسلامي محسوما، ومن حيث النتائج التي ستحصد بعد الإجابة عن مشروعية الإجماع والقياس. وسأسبق شيئا ما الأحداث لأقول إن إبطال هذين المصدرين من شأنه أن يقلص دائرة الإلزام ويعيد الاعتبار لدائرة المباح، وبعبارة أخرى سيضمر من المقومات الخصوصية وسيفسح المجال للحرية الإنسانية التي تمنح قواسم مشتركة بين جميع البشر، وهذا عامل يتيح لغير الفقيه التقرير والحسم في الشؤون الدنيوية والسياسية.

الإجماع غير ملزم؟ وغير ممكن؟

أبدع الإمام الشافعي الإجماع كمصدر ثالث للتشريع، ويبدو أنه واجه صعوبات وهو يُقْدِم على إرساء هذا المصدر، فقد أورد في الرسالة حوارا من صياغته على شاكلة ما يورده الفقهاء للبرهنة على رأيهم. يطرح السؤال على نفسه: “فما حجتك في أن تتبع ما أجمع الناس(*) عليه، مما ليس فيه نص حكم لله، ولم يحكوه عن النبي(*)؟ أتزعم ما يقول غيرك أن إجماعهم لا يكون أبدا إلا على سنة ثابتة وإن لم يحكوه”([31]).

يقدم الإمام الشافعي في هذا الباب إجابة بحديث “عن عبد الرحمان بن مسعود عن أبيه: أن رسول الله قال: “نضر الله عبدا”([32]) ولم يكمل الحديث ويعلق المحقق هنا على هذا قائلا: إن الشافعي يشير إلى نفسه. وليس في متن الحديث ما يجيب على السؤال أعلاه. ثم يضيف حديثا آخر “عن عمر بن سليمان بن يسار عن أبيه: أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية فقال: إن رسول الله قام الله فينا كمقامي فيكم، فقال: أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب، حتى أن الرجل ليحلف ولا يستحلف، ويشهد ولا يستشهد، ألا من سره بحبحة الجنة فليلزم الجماعة(*)…”([33]) (رواه أحمد في المسند).

وابن حزم يرد هذا كما رد ما هو أقوى من ذلك وهو الاستدلال على مشروعية الإجماع بقوله تعالى بعد طاعة الله والرسول “وأولي الأمر منكم”، فقال: “فإذا لم يأت قرآن ببيان إنهم العلماء المجمعون، ولا صح بذلك إجماع، فالواجب حمل الآيتين على ظاهرهما، ولا يحل تخصيصهما بدعوى بلا برهان”([34]). صعوبة التجاوز المباشر للإجماع جعل ابن حزم يمرر موقفه بذكاء فقال: “اتفقنا نحن وأكثر المخالفين على أن الإجماع حجة وحق مقطوع به في دين الله عز وجل. ثم اختلفنا، فقالت طائفة: هو شيء غير القرآن، وغير ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه(*)، لكن برأي منهم أو بقياس منهم على منصوص، وقلنا نحن هذا باطل(*)”([35]).

فالإجماع الذي يقره ابن حزم تأكيد زائد على النص إذ النص حق “سواء أجمع الناس عليه أو اختلفوا فيه، لا يزيد النص مرتبة في وجوب الإتباع أن يجمع الناس عليه، ولا يوهن وجوب اتباعه اختلاف الناس فيه”([36]).

وليس الأمر كما فهم الشيخ أبو زهرة في أن ابن حزم يبني على النص في الاجتهاد الجماعي يقول: “بل لا يتصور إجماع على الحقيقة التي قررها، إلا إذا بني على نص”([37]). في حين أن الحقيقة التي قررها ابن حزم هي الإجماع على صحة النص، بل إن صح النص فلا اعتبار لإجماع إلا من حيث التأكيد.

إن عاطفة التقريب وإبعاد الخلاف حول أصول أهل السنة جعلت أبا زهرة يقدم لنا مواقف ابن حزم تحت إرادة التوفيق، بل إن الأمر سيحتد حينما سيهمل من المتون ما يشوش على محاولاته التوفيقية، فهو يورد ما قاله ابن حزم في الإحكام، الجزء الرابع، الصفحة 545 حسب طبعة دار الكتب العلمية بيروت، كالآتي: “من أجاز أن يجمع علماء المسلمين على ما لا نص فيه، أفي الممكن عندك أن يجمع علماء الإسلام في موضع واحد حتى لا يشذ عنهم منهم أحد”([38]).

أول ملاحظة: هي الإحالة إلى كتاب “الأم” وهو للشافعي، إذا: هناك ارتباك في الإحالة.

ثاني ملاحظة: بتر جملة دون أن يشير إلى ذلك وهي كالآتي: “فيكون حقا لا يسع خلافه”. وقبلها “إننا نسأل”.

والأصل هو: “إننا نسأل من أجاز أن يجمع علماء المسلمين على ما لا نص فيه، فيكون حقا لا يسع خلافه. فنقول له، أفي الممكن عندك أن يجتمع علماء جميع الإسلام في موضع واحد حتى لا يشذ عنهم منهم أحد، بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في الأمصار”. في أول هذا المتن تأكيد من ابن حزم على عدم جواز الاجتماع بقصد إفراز حكم تكليفي جديد لم ينص عليه الله ورسوله، ثم يسترسل ابتداء من “في الممكن عندك…”، في تقديم الحجج العقلية والحسية والواقعية ابتداء من الصحابة الذين “لم يجتمعوا مذ افترقوا(…) فصاروا من السند وكابل، إلى مغارب الأندلس وسواحل البربر، ومن سواحل اليمن إلى ثغور أرمينيا(…) فاجتماع هؤلاء ممتنع أصلا لكثرتهم وتنائي أقطارهم.

وأيضا فإن اليقين قد صح بأن الناس مختلفون في هممهم واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه، متباينون في ذلك تباينا شديدا متفاوتا جدا(…) وهذا برهان قاطع ضروري”([39]).

فابن حزم إذن يرد الإجماع من حيث المبدأ بقوله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء}. ويقول: “فأمرنا تعالى أن نتبع ما أنزل الله ونهانا أن نتبع أحدا دونه قطعا”، وبقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة/3) فالدين قد كمل، “وصح أيضا بضرورة العقل أن من أدخل في الدين حكما يقر بأنه لم يأت به وحي من عند الله تعالى، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وقد ذم الله ذلك وأنكره في نص القرآن فقال: {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}”([40]).

القياس تشريع من غير ترخيص:

يعرض الإمام الشافعي إجابته على مشروعية القياس التي واجهت هي الأخرى صعوبة الإثبات منذ اللحظة الأولى، إذ كيف يصبح القياس نصا، وهو ليس كذلك، دينا ملزما؟ يجيب بالآتي: “لو كان القياس نص كتاب أو سنة قيل في كل ما كان نص كتاب(*) هذا حكم الله وفي كل ما كان نص السنة هذا حكم رسول الله، ولم نقل له قياس”([41]).

من خلال هذا المتن يبرز الإمام الشافعي منطلقه في القول بالقياس، فحسب رأيه إنه لم يتم التنصيص على كل شيء ولو كان الأمر كذلك لما لجأ إلى القياس تسمية ومنهجا.

بخلاف ابن حزم الذي تبنى موقف السكوت كما سكت المشرع ليحرر مساحة المباح.

والغاية البعيدة من رفض القياس هو توقيف الشروع في تضخيم دائرة الأحكام الملزمة وهذا مخالف لنظر الشافعي الذي اعتبر أن “كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم”([42]).

فلن يصبح النص لوحده ملزما –من هذا المنطلق- إنما سينضاف إليه حكم جديد ناشئ عن القياس، بمنطق أنه إذا كان في النص حكم وجب “اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد والاجتهاد القياس”([43]).

غير أن النتيجة عند ابن حزم سيان، سواء تعلق الأمر بالإجماع أو بالقياس، فهي زيادة أحكام جديدة ملزمة، لو شاء الله أن يلزم بها أحدا لنص عليها. يقول واثقا ودون أدنى تردد:

“لا يحل القول بالقياس في الدين(*) ولا بالرأي لأن أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى كتابه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد صح، فمن رد إلى قياس وإلى تعليل يدعيه أو إلى رأي، فقد خالف أمر الله تعالى(…) ورد إلى غير من أمر الله تعالى(…) وأن الدين قد كمل فصح أن النص قد استوفى جميع الدين فإذا كان ذلك كذلك فلا حاجة بأحد إلى قياس ولا إلى غيره”([44]).

فبعد الرفض المبدئي للقياس، يدقق ابن حزم في التفاصيل، ليرد على مبدأ علل النصوص(*)، يقول: “واعلم أنه لا يمكن أحدا منهم أن يدعي علة في شيء من الأحكام إلا أمكن لخصمه أن يأتي بعلة أخرى يدعي أن ذلك الحكم إنما وجب لها، وهذا ما لا مخلص لهم منه، وبالله تعالى نعتصم”([45]).

ورفض ابن حزم للقياس وللتعليل تبعا لذلك، ليس تحجيرا على “العقول في أن تفكر في شرع الله” كما يوحي بذلك الشيخ أبو زهرة، إنما هو من ابن حزم ابتعاد عن اتباع الظن في الدين الذي يجب أن ينتشر في أرجائه اليقين القاطع، ولن يصير ذلك إلا بحكم من الله ورسوله .

بالقدر الذي أجزم به ترك ابن حزم الإجماع والقياس بناء على تعارضهما مع قطعيات الدين، أعتقد أنه كان مدركا وواعيا بأثر منهجه على ذاته الحضارية. هذه الذات التي حاولا أن يصوراها جميلة رشيقة غير مثقلة بركام فقهي هائل ملزم لا يساعدها على الحركة، ولا يسعفها على الركض للظفر بالسباق (الحضاري)، ولا يمدها بتسهيلات داعمة للتواصل السياسي.

لو لم يوقفا “الآلة” المنتجة للأحكام الملزمة في كل وقت وحين ** لصارت ذاتنا ثخينة ومترهلة.

فكان حذرا غاية ما يكون الحذر من أن تتضخم دائرة الإلزام ويمتد مجال الخصوصية، وهذا الحذر هو ما يفسر التزامه ظاهر النص ورفضهم القياس والرأي، إذ لو أجازا القول بالإجماع والقياس لقلص بشكل آلي دائرة المشترك السياسي.

كما لو كان يستعد لتواصل سياسي بقائمة مركزة للخصوصية الذاتية، لا تعيق التفاعل بالآخر على قضايا مشتركة لصالح الإنسان.

بهذا المنهج، مهما اتسعت دائرة الإلزام التي يفرضها النص، فإنها تأول إلى الضبط والتحديد والانتهاء، بالرغم مما يمكن للنص أن يفرض من قضايا قد تبدو مناقضة للعقل أحيانا، وذلك لا يضر لقلته ولكونه دين يستوجب التسليم له.

أما إذا اتسعت دائرة المباح عن طريق الإجماع والقياس فلا يمكن ضبطها ولا إيقافها، بل إن نتيجة التسليم بالقياس والإجماع هي الاعتراف بأبدية وشمولية الإلزام، وإيذان باختفاء دائرة المباح.

لذلك كان مفكرنا حازما بموقفه التاريخي اتجاه المصادر غير النصية، محررا بذلك مجال الإباحة، فاسحا الفرصة للعقل المطلق حتى يتفاعل حرا طليقا مع مختلف القضايا السياسية والظواهر الاجتماعية والنفسية والحضارية الطارئة .

3- الاعتداد بالعقل.

وهذا الفصل في غاية الأهمية إذ يأتي تتويجا للمجهود الذي بذل في الفصل السابق من أجل إثبات المواقف الأصولية الداعية إلى تحريم التقليد وإبطال الإجماع والقياس، وما أعنيه هنا هو أن هذا الفصل انتصب بشكل مباشر، بعد انتهاء فصل حدد فيه مجال الإلزام الديني، ليؤذن بانطلاق النشاط العقلي، باعتبار الأخير هو الجامع لمشتركات الإنسان الموضوعية، والأول هو المحدد لحاجاته الذاتية وهويته الخاصة.

بكلمة أخرى يأتي هذا المحور ثمرة طيبة للمنهجية النصية في فهم الدين.

فإذا كانت النصية والظاهرية توحي بالجمود وتستدعي منابذة العقل والاجتهاد، فإن مباحث هذا المحور ستبدد هذا الانطباع وتُجْلي ذلك الإيحاء.

ذلك أنه سيتراءى النقيض وسيكتشف الجديد، وسينقدح في الذهن فكر جريء. فالعقل لن يرضى إلا بالاستقلال ليشتغل حرا طليقا، والاجتهاد لن يتهيب تشريعا يسعد الإنسان.

العقل حر:

من أين استمد ابن حزم تحرره العقلي؟ لقد تمت الإجابة عن ذلك عرضا في المحور السالف، وسيتم التفصيل في الإجابة في هذا المبحث.

حرية العقل جاءت بعد انتهاء واكتمال سلطة النصوص، إذ ما لم يرد فيه أمر ولا نهي “فهو مباح مطلق كما كان.”[46] ، وعلى حد قول الجاحظ:” ولولا الأمر والنهي لجاز التسخير في دقيق الأمور وجليلها وخفيها وظاهرها”[47].

فبتمام الأمر والنهي يصير كل شيء مسخرا للإنسان، ولن يجد منطقا رشيدا يواكب سنة التسخير في الحياة الدنيا أفضل من منطق العقل.

إن ساحة العقل هي المنطقة التي ينشط فيها الإبداع والابتكار دون قيد أي تقييد أو شرط أو تضييق: “مباح مطلق”. وعدم الانتباه بالقدر الكافي إلى هذه الفكرة جعل الأستاذ عبد الجواد ياسين* يجيز توظيف القياس في دائرة المباح “حتى لا يجنح التفكير بعيدا عن مناخ النصوص وإشعاعها السماوي الدافئ”.[48] وليس في هذا اعتراض من حيث المبدأ، كما أنه ليس فيه إلزام.

أظن أن الإباحة المطلقة التي ذكرها ابن حزم تجعلنا غير مجبرين على التفكير عبر النص وعلله. ثم إن الاقتراب من النص في هذا المقام قد يضفي بعض القداسة على التفكير والاجتهاد في دائرة المباح، وسيرسي أول لبنة لبناء الإلزام في المستقبل، ومثال ذلك موضوع السلطة، الذي اشتغل عليه عبد الجواد ياسين، حيث ينتهي إلى أن شكل السلطة صار ملزما حينما بني ابتداء على النص وأقيسته.

أرى أن ابن حزم منتبها لهذا الأمر، إن لم أقل بأن منهجيته بصرامتها كانت تتفادى- في حرص شديد- وقوع الشرارة الصغيرة التي قد تتحول بعد حين إلى نار مستعرة تحرق مساحة المباح.

فنرى ابن حزم يحاجج وينافح جاهدا عن العقل واستقلاليته وحجيته وعلمه، قال رحمه الله: “قال آخرون لا يعلم شيء إلا بقول الإمام (…) وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالخبر (…) واحتجوا في إبطال حجة العقل بأن قالوا: قد يرى الإنسان يعتقد بشيء ويجادل عنه، ولا يشك في أنه حق، ثم يلوح له غير ذلك (…) هذا تمويه فاسد، ولا حجة لهم على مثبتي حجة العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده، ويناضل عنه، لأننا لم نقل: إن كان معتقد لمذهب ما فهو حق فيه، ولا قلنا أن كل ما استدل به مستدل على مذهب فهو حق (…) لكن قلنا من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما على ما قد بيناه وأحكمناه غاية الإحكام في كتاب التقريب”.[49]

وكتاب “التقريب” هو المرجع المنطقي الذي يقدمه ابن حزم بديلا عن القياس الفقهي.

فلنلاحظ كيف قدم ابن حزم حجته رادا على من ألغى الاعتداد بالعقل وعوضه بالإلهام أو بالخبر. فالعقل عنده مصدر للمعرفة الصحيحة خاصة إذا سلك منهجا قويما وترتيبا محكما كما بين ذلك في كتابه “التقريب لحد المنطق” الذي خصصه لتيسير المنطق للعامة، ويعرض فيه “لمدركات الحس بوصفها مصدرا من مصادر المعرفة”[50].

أبدأ برده على ادعاء الإلهام الذي لا يخضع لقانون ملموس، بل إن مدعيه لا تجدهم متفقين على ادعاءاتهم يقول: “وأن المدعين للإلهام ولإدراك ما لا يدركه غيرهم بأول عقله، لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم إلهاما أو إدراكا، فصح بلا شك أنهم كذبة”[51].

أما من لا يعتد إلا بالخبر فيذكره ابن حزم بفضل العقل في تمييز صحيحها من سقيمها.

يقول: “ويقال لمن قال لا يدرك شيء إلا من طريق الخبر، أخبرنا: الخبر كله حق؟ أم كله باطل؟ أم منه حق وباطل؟” فبعد إ بطاله الاحتمالين الأولين يقول: “فلم يبق إلا أن من الخبر حقا وباطلا، فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه، إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما، وليس ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل”[52].

فالمنهج الذي يعلم منه الدين (الخبر) يوظف سلطة العقل حتى يتمكن من التمييز بين الخبر الحق والخبر الباطل. والتمييز قوة وقانون أودعه الله في عباده يقول عنه ابن حزم: “ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق، فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلا إلى فهم خطابه عز وجل، وإلى معرفة الأشياء على ما هي عليه، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل، فيها تكون معرفة الحق من الباطل”.[53]

فهذه القوة (قوة التمييز) تتكفل بفهم الخبر الثابت الحق على ما هو عليه، وقبل ذلك فهي تقوم بعملية منطقية صارمة، يتظافر فيها ما هو أخلاقي وما هو منطقي، حتى يتم إدراج الخبر حيز الحق والقبول.

وهناك قوة أخرى مغايرة لقوة التمييز يعتمدها ابن حزم في الإدراك، وهي قوة العقل فهي تضيف شيئا آخر إلى التمييز، إذ التمييز قد يقود صاحبه إلى الحق ولا يتبعه، وقد يستيقن الحق ويتبع الباطل. أما العقل عند ابن حزم فهو دائما يقود إلى الحق ويلزم صاحبه باتباعه ونصره، وإيثاره على كل نزعة أو نعرة تحجب الدفاع عنه، والنص الآتي يفصل مجمل هذه المعاني:

“ومنها قوة العقل التي تعين على نصر العدل، وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم، وعلى اعتقاد ذلك علما، وعلى إظهاره باللسان وحركات الجسم الموفقة لطاعته على كراهية الحوذ عن الحق، وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة، والغضب المولد للعصبية، وحمية الجاهلية، فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز، ومن عاج عنه هلك وربما أهلك، قال تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}”[54]. ذلك أن الإنسان متى “فَضَلَتْ قوى عقله على قوى طبائعه، أوهنت طبائعه، ومتى كانت كذلك آثر الحزم والآجلة على اللذة العاجلة، طبعا لا يمتنع منه، وواجبا لا يستطيع غيره”[55]. 

فكيف لا تكون للعقل هذه المكانة وهو مناط التكليف، وكيف لا يحوز هذه الثقة وهو متعلق بكل شيء شريف ومتجرد من كل عصبية وذاتية مهلكة، وملتزم بأرقى درجات الموضوعية والقسط ولو على نفسه.

فالالتزام ببعض المعطيات الموضوعية البديهية التي تفرضها الحواس قد يقود إلى نتائج صحيحة في مختلف مستويات التفكير، والنص التالي يتضمن هذه المعاني التي يحاجج بها ابن حزم أهل ملته فيما يتصل بصحة حجج العقل. يقول: “ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء، وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر، وأن الشيء لا يكون قائما قاعدا في حال واحدة، وأن الطويل أمد من القصير (…) وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس، (…) ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع المسائل.

ثم نقول له (المعارض لحجة العقل) إن كنت مسلما بالقرآن فهو يوجب صحة حجج العقول على ما سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله، فإن كلامنا في هذا الديوان مع أهل ملتنا”.[56]

انطلاقا من هذا النص يبسط لنا ابن حزم طريقته في إنتاج المعرفة المبنية على العقل، -وهي طريقة أشبه بالرياضيات- فهو ينطلق من معلومات سهلة معلومة غير معقدة حتى يتأكد عنده مبدئيا صحة ما توجبه الحواس. ثم من هذه المعرفة السهلة، المؤسسة على إدراك حسي سهل، يصل إلى المعرفة المعقدة استنادا على إدراك معقد: “ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل”. هذه هي العبارة الدالة على الانتقال من السهل إلى المعقد، من الجزء إلى الكل، من النموذج التجريبي الخاص إلى القانون الكوني العام.

لكن بالرغم مما جمع لابن حزم من أدلة موضوعية تمكن من إقناع أهل ملته بصحة حجة العقل، فإنه لم يغفل المدخل النفسي للإقناع وهو الذي يرتكز على عرض أدلة معيارية.

لذلك ختم باب “باب إثبات حجج العقول” من كتابه الإحكام، بآيات من القرآن الكريم تضمن للعقل حريته، وتحفظ له استقلاليته، وتؤكد الثقة في قدراته.

إذ بعد رفعه الالتباس وسوء فهم بعض آيات القرآن الكريم التي تذم الجدال بالباطل. يورد الآيات الداعية إلى الجدال بالحق منها قوله تعالى في سورة العنكبوت (آية 46): {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} فأمر عز وجل بإيجاب المناظرة في رفق وبالإنصاف في الجدال، وترك التعسف والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشيء من ذلك فيعارض حينئذ بما ينبغي، وقال تعالى: {فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} (الرحمن آية 33) والسلطان الحجة كما ذكرنا وقال تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} (البقرة آية 258)

وإن لإدراج ابن حزم بابا من عشرة صفحات يثبت فيه صحة حجج العقول، في كتاب فقه وأصول، لعظيم الدلالة على أنه يعتد بالعقل في هذا المجال بالقدر الذي لا يصل به إلى حد العصمة والإلزام. لذلك نجده يستعمل مصطلح “صحيح” للدلالة على المذهب العقلي الصائب. بدل مفهوم الإلزام الذي أرساه الشافعي للدلالة على الحكم اللازم الناشئ عن القياس أو الإجماع، الذي يوحي بشيء من القداسة والعصمة. لكن ابن حزم يقول: “من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح”. فهو بدقة اختياره هذه المصطلحات يثبت للاستدلال العقلي الصحة دون أن يسقط في مطب الإلزام والعصمة.

فالعقل قد يفرض علينا أحكاما لا نملك ردها لوجاهتها، يقول: “صحة ما أوجبه العقل بلا واسطة وبلا زمان” كما أن صحته ووجاهته ونتائجه المطردة، تجعل الناس يشتركون في عدة معارف مهما اختلفت عقائدهم، وتباعدت ديارهم. يقول: “كل من المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر به سواء بسواء”[57].

كائنا من كان هذا الإنسان فإن الله أودع فيه هذه الملكة “التي تحمل النفس على نصر العدل، وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم، وعلى اعتقاد ذلك علما”[58].

وهذه النتيجة كفيلة بأن تؤسس قواعد حرة للممارسة السياسية ، إذ أن هذا المسار سيبرز نقط تقاطع المشترك الإنساني، وستختفي معه الحزازات النفسية الناجمة عن اختلاف العقيدة وتباين الموطن .

خلاصة:

إن المقاربة الفكرية التاريخية لابن خلدون تساعد الباحث على التمييز بين السلطة في فترة النبوة، والسلطة بعيدا عن فترة النبوة. فالأولى تتسم بالنزاهة العصمة والتماهي التام بين أحكام الدين ومقتضيات السلطة، أما الثانية فهي تقترب وتبتعد بقدر السمو الفكري والأخلاقي والديني للحاكم.

والحد الأدنى الذي ينبغي افادته من هذه المقاربة هو التمييز بين النبي الحاكم وبين غيره ممن يتقلدون أمر تدبير الشأن العام، إذ لا يجوز، حسب هذا التصور، التسوية، قياسا أو تشبيها أو إيحاءا، بين مقام النبوة ومنصب الخلافة درءا لكل قداسة يمكن أن تقرن بشخص الحاكم.

لا شك في أن المقاربة الفقهية تتكامل بما تقرر أعلاه، وأطمئن إلى القول بأن لها تأثير في تجديد الفكر الديني، وعلى أدوات إنتاج المواقف والأحكام والقيم، حيث إنها بلورت موقفا مميزا وجريئا اتجاه المصادر التشريعية المحادية لنص الوحي، فأبطلت المفهوم الشائع للإجماع، وحرمت القياس والتقليد درءا لكل حكم جديد يأخذ طابع الإلزام ويمدد من دائرة الخصوصية.

وبتشبثها بالنص الخالص فهي ترفض القياس ليس منابذة للعقل، وإنما للبحث عن مستمسكات القوة المنهجية التي تتجلى في نقطتين متكاملتين:

الأولى: هي درؤها لمصدر تشريعي ملزم ما أنزل الله به من سلطان.

والثانية: هي وقفها تناسل وتكاثر الأحكام.

فلو رجعنا إلى أمثلة عن فكرة تناسل وتكاثر الأحكام، ودرسنا مثلا مسألة شائكة كقضية الخلافة ، فإننا سنجد ابن حزم يثبت أحاديث الخلافة في قريش قائلا: “ولا شك في أن من لم يكن من قريش فلا أمر له”،[59] ويعلق على هذا محقق كتاب ابن حزم قائلا: “أين نسل قريش الآن أيها المؤلف”* .

غير أنه لم يركن إلى قياس أو تقليد أو نموذج تاريخي حتى يجوز توريث الخلافة، إذ يقول: “ولا خلاف بين أحد من أهل المسلمين** في أنه لا يجوز التوارث فيها”[60].

وبتأمل ما خلفه ابن حزم في الحقل السياسي، يمكن القول بأنه أثار مشكلة واحدة وهو صحة نص الخلافة في قريش، ويمكن لمن أراد أن يتجاوز هذا المشكل أن يؤول الحديث أو لا يعتد بقطعيته، وفي إمكانه ذلك. لكن ما ساد التقليد والقياس دخلت الحياة السياسية في إلزامات لها أول وليس لها آخر، وحينها تفقد هذه الحياة حريتها وحركيتها المرجوة.

والشاهد من هذه النظرية بتوظيفها في المجال السياسي، هو أنها تضع بشكل آلي فصلا منهجيا معقولا بين الدين والدنيا، ليس بخلفية عدم وصل الدين بالسياسة، وإنما بفلسفة إحاطة الدين بسياج من المعرفة المطلقة، وتعميم كل مساحته باليقين، باعتباره وحي إلهي، طالما كان يشغل مساحة ممكنة التحديد وتكاليف متناهية الحصر. وبرؤية تفسح أمام السياسة المجال للتداول والاجتهاد البشريين، وتغطي مساحتها بالتنافس الحر بين الأفكار والوجهات، سيما وأنها لا تعرف الثوابت، ولا تؤمن بالمطلق، والمثالي فيها لا يدرك سوى أقصى النتائج النسبية، ذلك لأنها علم الدنيا، و”علم الدنيا أمران: إما شيء يلي الحواس، وإما شيء يلي علم الحواس، وليس الدين كذلك”[61] .

ويتبين أن الفصل المنهجي بين الدين والسياسة يكون بالنظر إلى مصدر وخصوصية وطبيعة كل مجال، ويكون الوصل المنهجي بينهما بتدخل الدين بأحكامه البينة المعدودة في الشأن السياسي، وبتدخل السياسة بسلطتها في حماية الثابت الديني وخصوصيته الثقافية. بكلمة أخرى تحمي السياسة الدين في الثوابت كما في المتغيرات، أي في المباح الذي هو من صميم اختيارات الدين ومن فضائل هباته.

وبذلك تنشأ علاقة واضحة ومتينة ومسئولة بين أقطاب الرؤى المتباينة في مقاربة الدين، بين من يرى في الدين شأنا فرديا خاصا، وبين من يعتبره شأنا جماعيا وقيمة حضارية. 

من هاهنا تنكمش معظم الظواهر الخاصة للفرقاء، وتتسع بينهم القواسم المشتركة المساعدة على التفاعل السياسي.

والنتيجة الطبيعية لتمثل هذه المنهجية، هي التشبث القوي بثوابت الدين تصورا وتعبدا، والتثبت من مواضع الإلزام، ومواضع المباح ليتم التفاعل معها بطلاقة وتحرر… بخاصة وأن مستجدات العصر لا حصر لها ولا تنتهي، والظفر باستحقاقاتها يحتاج إلى حسن التدبير وثاقب النظر.

والجميل في هذه المدرسة أنها تحرم التقليد وتدعو إلى الاجتهاد، وهي بهذا المنوال تشجع التعلم الذاتي، وتؤهل شخصية تملك قدرات ومهارات، قوية الثقة بنفسها، ترفض أي وصاية تستهدف فكرها أو دينها.

وبحرصها على رسم حدود الدين، وإطلاق نشاط العقل، تكون قد حجمت سلطة الفقيه وألزمته اختصاصه، وفسحت المجال أمام مختلف النخب للتداول في شؤون الدنيا.

فأخذ بذلك الدين أصالته ومكانته وحدوده، واستقرت الدنيا، بمتغيراتها وتناقضاتها ونسبيتها في فضاء شاسع ورحب.

فلا يمكن أن يعتد إلا بالدين الخالص لتقوية الخصوصية القيمية والثقافية وتحصينها والحفاظ عليها، ولا أن يضطلع سوى العقل الحر بمهمة إنتاج المشترك الفكري والسياسي القاصد إلى بناء الإنسان والعمران. 

[1] – عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة، دار الجيل، بيروت، ص:210.

[2] – المصدر السابق.

[3] – محمد سعيد العشماوي، الإسلام السياسي، موفم للنشر، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، 1991 ص:6.

[4] – نفسه، ص 6 –7 .

* – أستاذ محاضر في أصول الدين والشريعة الإسلامية والقانون المقارن، رئيس محكمة الجنايات وعمل قاضيا بمحكمة استئناف القاهرة العليا… .

[5] – محمد سعيد العشماوي، مرجع سابق، ص: 91.

[6] – عبد الرحمان بن خلدون، مصدر سابق، ص:236 .

* – ماجستير في التربية « بطهران»، عاد إلى «قم» للتعمق في العلوم الإسلامية سنة 1970، تولى رئاسة المركز الإسلامي « بهامبورغ» سنة 1978 ، عينه الإمام الخميني مسؤولا عن مؤسسة «كيهان» للصحافة والنشر سنة 1980، وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي (1982-1989 ) ، مستشار الرئيس رفسنجاني (1982) ، رئيس الجمهورية سنة 1997. 

[7] – محمد سعيد العشماوي، مرجع سابق،ص:5 .

[8] – محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر، دار الجديد، بيروت، الطبعة الثانية، ص:158 –161 . نقلا عن نور الدين الطاهيري في كتاب هكذا تكلم خاتمي، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2000 ، ص:42 .

[9] – عبد الرحمن ابن خلدون، مصدر سابق، ص:23 .

[10] – محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، الطبعة الإيرانية سنة 1281، ص:82، وانظر أحمد أمين، ضحى الإسلام، الجزء الثالث، ص:214 وما بعدها. نقلا عن عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام…، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى1998، ص:90.

[11] – محمد سعيد العشماوي، مرجع سابق، ص:192 – 193. راجع أيضا فكرة الحق الإلهي في ممارسة السلطة عند أهل السنة عند محمد عمارة، الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية، دار الهلال، مصر، 1983، ص:41. 

[12] – محمد سعيد العشماوي، م.س، ص:10 – 11.

[13] – عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1998، ص:92.

[14] – عبد الإله بلقزيز، “حوار حول المسألة السياسية والحركة الإسلامية”، مجلة الفرقان، العدد41، ص: 75.

[15] – محمد سبيلا، النزعات الأصولية والحداثة، منشورات رمسيس، الرباط، 2000.ص:18

[16] – عبد الرحمان بن خلدون، مصدر سابق، ص:184.

[17] – نفسه.

[18] – نفسه، ص:326.

[19] – منير شفيق، بين النهوض والسقوط: رد على كتاب فرج فودة، الناشر للطباعة ، الطبعة الثالثة 1992، ص:62 –63 .

[20] – محمد يتيم، الحركة الإسلامية بين الثقافي والسياسي، منشورات الزمن، الرباط، 2000 ،ص:39 .

69.70 وما بعدها. – محمد عمارة، الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية، دار الهلال، مصر، 1983، ص:[21]

[22] – ابن حزم، الأحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت، ج: 8 من المجلد الثاني ص: 515.

* – ثبوت السنة أمر مهم والمرجو تتبع ذلك فيما سيأتي.

[23] – ابن حزم، م.س، ج 4، ص 549

* – الإباحة.

* – التحريم.

[24] – ابن حزم، م.س، ص: 548، 549.

[25] – أبو زهرة، ابن حزم: حياته وعصره، آراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، ص:452.

* – محور: مجالات إعمال العقل سيفسر ذلك.

[26] – ابن حزم، م س. ج 8 (5-8)، ص: 515.

[27] – ابن حزم، المحلى، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، الجزء الأول من المجلد الأول (1-2)، دار الفكر ص: 66.

[28] – يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع التراث والتمذهب والاختلاف؟ مكتبة وهبة، القاهرة، 2001، ص: 67.

[29] – ابن حزم، المحلى، م. س، ج الأول، ص: 66.

* – أو يفتيه برأي أو قياس أو إجماع على أساس أنه غير ملزم.

[30] – الإحكام، ج 8، ص: 515.

* – الشافعي يتحدث هنا عن إجماع الناس، ولكن مفهوم الإجماع تطور فيما بعد إلى إجماع العلماء.

* – هذا هو المنطلق الذي ينطلق منه ابن حزم لإبطال الإجماع وهو لم يعاصر الشافعي: والذي يمكن أن يطرح هذا الإشكال للشافعي في القرن الثاني هو داود بن سليمان الظاهري الذي ولد سنة 200هـ، والشافعي عاش حتى سنة 204ه. فغير ممكن من داود الظاهري أن يطرح هذا المشكل على الشافعي وعمره اربع سنوات، فمن كان يخالف الشافعي في وقته إذا؟ المجال مفتوح للبحث. للتحقق من التواريخ الرجوع إلى الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج 1. ص: 270، نقلا عن: أبو زهرة. م س.

[31] – محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت، ص: 471.

[32] – نفسه، ص: 473.

* – ليس في الحديث ما يبين مشروعية إجماع الناس على إبداع حكم لا نص فيه، إنما فيه تقدير السلف لا اتخاذهم مصدرا للتشريع.

[33] – الرسالة، م. س، ص: 474.

[34] – ابن حزم، الأحكام، م. س. ص: 4، ص: 542.

* – إذ هنا حسب منهج ابن حزم لا يجب الاجتماع وتشريع حكم لأن الأمر متروك للإباحة، بخلاف ما أراد تصويره أبو زهرة من أن دليل ابن حزم في الإجماع هو النص وليس القياس أو التعليل، م. س. ص: 395. (والدليل هو الأصل المنطلق منه في بلورة الشيخ اجتهاد الإجماع.

* – كل النصوص التي أوردها القائلين بالإجماع يرد عليها ابن حزم في الإحكام ج 4/ ص539.

[35] – الإحكام. ج 4، ص: 538-539.

[36] – نفسه، ص: 549.

[37] – أبو زهرة، م. س، ص:294.

[38] – أبو زهرة، م. س، ص 396. نقلا عن الأم، ج 7، ص 256.

[39] – الإحكام، ج 4، ص: 545-546.

[40] – نفسه، ص: 539.

* – المقصود ليس كل الأمور منصوص عليها في حين أن ابن حزم يعتبر أن سكوت النص نص في حد ذاته. وسبق الإشارة إلى هذا بأدلته في “مفهوم الدين عند ابن حزم”.

[41] – الرسالة، م. س، ص: 476-477.

[42] – نفسه، ص: 477.

[43] – نفسه.

* – فالدين ملزم والإلزام يخبر به الله ورسوله، أما القول بالقياس في غير الدين فجائز.

[44] – ابن حزم، المحلى، م. س، ج 1، ص: 56.

* – يفرق ابن حزم بين العلل التي تفيد الحتم في الأشياء الطبيعية (علة الإحراق النار) والأسباب التي لا تفيد الحتم (الغضب سبب الانتصار) “ولكن الغاضب قد لا يختار الانتصار”. مزيد من التفاصيل انظر الأحكام ج 8، م. س، ص: 602 وما بعدها.

[45] – الإحكام، ج 7، م. س، ص: 491.

** – في الحقيقة إن ابن حزم لم يوقف القول بالإجماع والقياس، وقد أوردت الجملة بهذه الصيغة بقصد أن هناك إمكانية لهذا الإيقاف لو احتفلنا بمنهجه.

[46] – الإحكام، ج 8، م. س.ص: 515

[47]- المصدر السابق، ص: 246.

* – من الباحثين الذين حاولوا فهم ابن حزم بشكل سليم، باستثناء بعض الملاحظات التي لا مجال لبسطها. قدم ابن حزم كنموذج للمعتد بالعقل في مقابل منهجية الرجوع للسلف عند النوازل.

[48] – عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، المركز الثقافي العربي، ط2، بيروت، 1998، ص: 183

[49] – الإحكام، ج1، م س، ص: 15

[50] -Mohamed Iqbal, the reconstruction of religions, thonght in Islam, Lahore, 1954,p :129

نقلا عن عبد اللطيف شرارة من المرجع السابق.

[51] – الإحكام، ج1، م س، ص:18

[52] – الإحكام، ج1، م س، ص: 19

[53] – الإحكام ، ج1، م س، ص: 6

[54] – الإحكام، ج1، م س، ص: 6 وما بعدها.

[55]- رسائل الجاحظ، (المسائل والجوابات)، ج1، تحقيق عبد السلام هارون، ص: 59.

[56]- الإحكام ، ج1، م س، ص:17

[57]- الإحكام ج1، م س ، ص: 17-18.

[58] – نفسه، ص: 7.

[59] – ابن حزم، علم الكلام على مذهب أهل السنة والجماعة، تحقيق أحمد حجازي السقا، ك2، دار الجيل، بيروت، 1990، ص: 94.

* – هناك دراسات معاصرة عدة تركز على المتن في الحكم على درجة الحديث، أو تبحث على ظروف وملابسات ذلك المتن، كما أنها تميز بين الحديث المراد به التشريع وغيره المراد به الاجتهاد في أمور الدنيا. أنظر السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث محمد الغزالي، والسلطة في الإسلام لعبد الجواد ياسين، وتصرفات الرسول بالإمامة لسعد الدين العثماني…كما يجب الاستفادة من منهج ابن حزم أيضا في تمحيص السند. أو الجويني الذي لا يرى بقطعية خبر الآحاد.

** – ربما يقصد بانتفاء الخلاف حول عدم تجويز التوارث في عصر الخلفاء الراشدين، إلا أنها جوزت بعد ذلك.

[60] – الفصل، م. س، ج5، ص: 12

[61] – رسائل الجاحظ، (مقالة الزيدية والرافضة)، تحقيق عبد السلام هارون، ج2، ص: 321.