الغموض في الأدب الحديث

الغموض في الأدب الحديث

بحث من إعداد

الدكتور/ إبراهيم محمد أبواليزيد خفاجة

أستاذ مساعد بجامعة شقراء

1431هـ / 2010م

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وخير الخلق أجمعين، سيدنا محمد الهادي الأمين، عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداهم إلى يوم الدين، وبعد:

لقد عصفت بالبشرية تيارات فكرية متعددة منذ قديم الزمان وحتى وقتنا الحاضر، وكان منها ما ساعد على نهضة الإنسانية وتطورها، ومنها ما عاق حركة التقدم والنمو، وأدى إلى مزيد من الجهل والتخلف…

ولم تكن تلك التيارات الفكرية بمعزل عن حياة البشر، فقد أثَّرتْ في شتى نواحي الحياة، بل إن بعضها أذاق البشرية ويلات الحروب والظلم لقرون عديدة، ولم يكن الأدب بوصفه نتاج فكري عقلي يبدعه العقل البشري بمعزل عن تلك التيارات والاتجاهات التي أثَّرتْ في البشرية عامة… فظهرت أفكار وفلسفات ونظريات مختلفة ألقت بظلالها على النتاج الأدبي وأثرت فيه وتأثَّر بها، وتصادمت الحضارات وابتعدت ثم التقت، وأثرت كل منها في الأخريات وتأثرت بها، ولم تقف الثقافة العربية الإسلامية موقف المتفرج إذاء تلك الأمواج المتلاطمة من التيارات الفكرية المتعددة، بل تعرفت عليها وانتقت منها ما يتناسب مع مفاهيمها الأصيلة وقيمها النبيلة، فأخذت خير ما عند الآخرين، وهذبت كثيرًا من تلك الأفكار ، وصححت كثيرا من المعتقدات الفاسدة، وجعلت تلك الثقافات تنطلق من مرقدها وتتحرر من مائها الآسن الذي رقدت فيه سنوات طويلة إلى ظلال فيحاء وحدائق غناء، وقيمٍ نبيلة ….. إلى أن دارت الأيام وأصبح الواهب ينتظر العطية، والمعلم يرجو نصح التلميذ، وران على الحضارة العربية سنوات عجاف فقدت فيها رونقها وتميزها، وعزَّ فيها أصحاب الفكر المستنير، وخيم على الشعوب ستارٌ من الجهل أشبه بظلمة الليل البهيم، فرضته عليهم ظروف العصر وأحداث الزمان، وتخلى أهلها عن واجباتهم، وظلم وتجبر المستعمر، ثم جاء الأمل في البعث من جديد مع بداية عصر النهضة، واستيقظت الأمم والشعوب من سباتها العميق، وعرفت أن لها ماضٍيا تليدًا يجب أن تعتز به، وتفتخر بالانتساب إليه، وأن تحاول جاهدة أن تكشف ما ران عليه من جهالات السنين، فانتشر العلم من جديد وتيسرت سبله، فأبدع الأدباء، وتغنى الشعراء، وازدهرت العلوم والفنون مرة أخرى، إلا أنها في هذه المرة لم تكن عربية خالصة، بل شابها ما شاب غيرها وهبت عليها رياح التغيير مثل كل شيء في الحياة فتأثرت تأثرا كبيرا في بداياتها بتلك الأفكار الوافدة، وإن حاولت أن تحافظ على هويتها وأصالتها، إلا أن الرياح كانت قوية عصفت في طريقها ببعض العقول ممن استهوتهم ثقافات الغرب وآدابه، فحاولوا النسج على منواله والسير على طريقته دون تفكير أو تمحيص، أو إمعان النظر فيما إذا كان هذا يتوافق مع قيمنا الثابتة وتراثنا التليد وأخلاقنا وعاداتنا وتقليدنا العربية الأصيلة أم لا…. فكانت النتيجة أنهم ضلوا وأضلوا… وجعل الله أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

ومن بين تلك الأفكار الكثيرة التي وردت إلينا من ثقافات الغرب وتأثر بها بعض أصحاب الكلمة ممن ادعوا الأدب والأدب منهم براء ما يسمى بالغموض، وإدعائهم أن الأدب لابد أن يكون غامضا، وتشربهم هذا الفكر الضال جعلهم ينتجون كلاما لا معنى له ولا قيمة، بل كان أشبه بأضغاث أحلام، أو هلوسات جنون، يأبى القلم عند الحديث عنهم وعن كتاباتهم أن يسمي هذا النتاج أدبا أو يسمه بهذا الوصف.

وفي الصفحات التالية أحاول أن أقدم تعريفا للغموض ومفهومه في الأدب عند القدماء والمحدثين، وأبين أهم مظاهره في الأدب الحديث، ومدارسه التي دعت إليه، وأشهر الكتاب في هذا الاتجاه، وأبين ما جرته هذا الأفكار الشاذة على الأدب بصفة عامة، وعلى اللغة بصفة خاصة.

والله من وراء القصد وهو يهد السبيل، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

المؤلف
الغموض بين القدماء والمحدثين

-أولا: مفهوم الغموض عند القدماء:

الغموض في اللغة يرادف الإبهام والتعمية والخفاء والصعوبة والتعقيد، فكلام مغمض، أي: مبهم، أو معقد([1])، وهو يضاد الوضوح والإبانة، والإعراب.

ولا يكاد يختلف المعنى الاصطلاحي للغموض عن المعنى اللغوي، فهو يعني الخفاء وعدم الظهور، والاستتار، وصعوبة التوصل إليه.

وقد ورد المصطلح في التراث الأدبي العربي القديم ولدى النقاد العرب على مر العصور، حيث نفر كثير منهم منه، وكشفوا عن مساوئه ومثالبه، وقد ورد الذكر الحكيم داعيا إلى الوضوح والبيان، وكان الوضوح هو السمة الغالبة على الفكر العربي والدعوة التي نادى بها النقاد والأدباء على مر العصور([2]).

والوضوح الذي نادى به النقاد القدماء لا يعني أن يأتي المعنى مبتذلا، أو سطحيا، كما لا يتنافى مع الإيحاء والإشارة، واستخدام الرمز، والأسطورة ولغة المجاز والتصوير([3]).

وقد فهم النقاد والأدباء القدماء هذا المعنى جيدا، وجاء إنتاجهم الأدبي موافقا له، فلا هو سهل مبتذل، أو سطحي عامي، ولا هو مغلق يصعب على الأفهام الوصول إليه، بل كان وسطا بين هذا وذاك.

وعلى العموم، فإن كلمة الغموض عندما ترد في التراث العربي القديم لم يكن يقصد بها انغلاق المعنى وعدم الاتصال مع النص أو مع المتلقي، بل كانت ترد بمعنى الغوص وطول التأمل والبحث للوصول إلى الغاية المطلوبة، وهي بهذا المعنى ذات صفة إيجابية فنية ولا تمنع المتلقي من وصول المعنى إليه([4]).

وفي هذا المعنى ورد كلام ابن أبي الحديد، حيث قال: “لسنا نعني بالغموض أن يكون كأشكال إقليدس والمجسطي، والكلام في الجزء، بل أن يكون بحيث إذا ورد على الأذهان بلغت منه معاني غير مبتذلة، وحكما غير مطروقة”([5]).

وينبغي أن نتذكر جملة من الحقائق التي نص عليها نقادنا القدامى ،حتى نكون على بينة ونحن نتناول هذا الموضوع الذي كثر الخلط فيه ومن هذه الحقائق:

-الحقيقة الأولى:

أنّ نقادنا القدامى قد اهتموا بالمعنى، وأولوه عنايتهم، وعدوه الغاية التي يريدها المتكلم من كلامه؛ ولأجل هذا امتدحوا الأديب الذي يصيب معناه بدقة، ويبلغ في ذلك الغاية، كما أنهم عدوا وضوح المعنى، وإصابة الأديب لغايته من أسباب جودة الكلام، ومن عوامل قبول المتلقي له، بل أصبح ذلك عندهم مقياساً من مقاييس نقد الأدب. فالأديب الواعي حين يبدع أدبه لا يقول لنفسه، وإنما لكي يسمع الآخرين بعض ما عنده من نتاج الموهبة التي غرسها الله فيه، وهو حين يخالف هذا المبدأ يحكم على نفسه بالعزلة، ويرضى لموهبته أن تتلاشى وتضعف حتى تموت؛ لأنه قد أقام الحواجز بينه وبين قارئ أدبه. وما أجمل ما قاله “ابن سنان الخفاجي ” في رده على “إبراهيم الصابي” الذي يرى أن حسن الشعر في غموضه،حيث قال: “إن الكلام غير مقصود في نفسه، وإنما احتيج إليه ليعبر الناس عن أغراضهم، ويفهموا المعاني التي في نفوسهم، فإذا كانت الألفاظ غير دالة على المعاني، ولا موضحة لها، فقد رفض الغرض في أصل الكلام، وكان ذلك بمنزلة من يصنع سيفاً للقطع ويجعل حده كليلاً، ويعمل وعاء لماء يريد أن يحرزه فيقصد إلى أن يجعل فيه خروقاً تذهب ما يوعي فيه، فإن هذا مما لا يعتمده عاقل، ثم لا يخلوا أن يكون المعبر عن غرضه بالكلام يريد إفهام ذلك المعنى أو لا يريد إفهامه،فإن كان يريد إفهامه فيجب أن يجتهد في بلوغ هذا الغرض بإيضاح اللفظ ما أمكنه، وإن كان لا يريد إفهامه فليدع العبارة عنه فهو أبلغ في غرضه”([6]) .

-والحقيقة الثانية: 

أن النقاد القدماء قد رفضوا الغموض والتعمية، وعابوا من وقع في ذلك من الشعراء، وامتدحوا- في المقابل – من نزه شعره عن ذلك، فقد كان “عمر بن الخطاب” -رضى الله عنه – يقدم زهيرا ًعلى غيره من الشعراء لعدة أسباب من بينها “أنه كان لا يعاظل في الكلام، أي: لا يداخل بعضه في بعض.

كما عاب النقاد – قديماً – أبا تمام في بعض أبيات من شعره؛ بسبب ما فيها من تعقيد وغموض جنى على المعنى. والفرق – لو تأملنا- كبير بين غموض “أبي تمام “الناتج عن إغراقه في طلب الصورة النادرة، أو تكلفة في طلب الطباق والتجنيس والاستعارات – وهو مع ذلك صاحب الأدب الهادف والمعاني الفريدة – وبين الغموض عند بعض الشعراء المحدثين الذي يكون إما نتيجة لضعف تكوينهم، أو لعبثية يهدفون من خلالها إلى هدم تراث هذه الأمة أو نشر فكر منحرف لا يستطيعون ترويجه بغير هذه الطريقة.

-والحقيقة الثالثة:

أن القدماء من النقاد قد فرقوا بين أمرين يخلط بينهما كثير من الأدباء المحدثين، ولا يفهمونها على حقيقتهما؛ أحدهما: وضوح المعنى الذي جعله النقاد سببا من أسباب صفاء الأسلوب وجودته. والثاني: كون المعنى لطيفا ومستوراً لا يصل إليه المتلقي إلا بعد شيء من التأمل الهادئ الذي يعمق المعنى – بعد وصوله- في النفس، ويجعله أشد وقعا، وأبلغ تأثيرا.

وقد فصل بعض نقاد العرب القول في ذلك، وأبانوا أن الوصول إلى المعنى بعد الطلب والبحث لا يعني أن يكون الكلام معقد لا يبين عن معناه، وإنما يعني أن المعنى نفسه طريف غير مبتذل، وهو لذلك يحتاج إلى التريث في فهمه، والتمهل لإدراكه، وذلك لا ينافي أن يكون الكلام واضح الدلالة على معناه، أما التعقيد فإنه يتطلب جهدا شاقا ًفي الوصول إلى المعنى، من غير أن يكافئ المعنى شدة البحث عنه، ويكون عناء القارئ لا في فهم المعنى وإدراك أسراره، ولكن في سبيل الوصول إلى المعنى، حتى إذا وصل إليه لم يجده شيئا([7]) .

وخير من أبان عن هذا الأمر وكشف أسراره، إمام البلاغيين والنقاد العرب “عبد القاهر الجرجاني”-رحمه الله-حيث قال:”من المركوز في الطبع أن الشيء إذ نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضنّ وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ ،…. فإن قلت: فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضا مشرفا له وزائدا في فضله، وهذا خلاف ما على الناس، ألا تراهم قالوا: إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك؛ فالجواب أني لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب،وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله: (( فإن المسك بعض دم الغزال)) ([8]) .

وقول النابغة : 

فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع([9]) 

تلك بعض آراء نقادنا القدامى في هذا الجانب، أردت أن تكون مدخلا لما يأتي بعدها من حديث.

-ثانيا: مفهوم الغموض عند المحدثين:

بداية يمكن القول أن الأدباء المحدثين الذين ألفوا الغموض وألبسوا أدبهم ثوبه يتوزعون إلى ثلاث فئات كما قسمهم أحد المحدثين([10]):

-الفئة الأولى: فئة سلمت نواياهم، ولكنهم أساءوا فهم المقصود بـ” فنية الأدب”، وما عناه النقاد بدعوتهم إلى أدب يتميز بالعمق في التصوير، والسمو في الخيال، وعدم المباشرة في التناول فذهبوا يغرقون في طلب تلك الفنية إلى الحد الذي جعلهم يضيعون المعنى الذي هو مدار الأدب وعمدة القول.

-الفئة الثانية: فئة أرادت أن تسلق ظهر الأدب، وطمعت في رقي سلمه الرفيع، لكنها لا تملك موهبة مبدعة متمكنة ترفع من قدرها، ولا تستند إلى أدوات تعينها على بلوغ غايتها. وأصحاب هذه الفئة يلجئون – فيما يقولون- إلى صف الكلمات، وحشو العبارات بمعاني جوفاء لا طائل من ورائها، فيلفونها بثوب الغموض، ويكفنونها في عباءة الطلاسم، ولا يدفعهم إلى ذلك إلا عجزهم عن إيضاح فكرة، أو خدمة هدف، فغايتهم أن يسموا أدباء، وأن يكتبوا وينتشروا ويشتهروا.

-الفئة الثالثة: فئة جعلت الغموض غاية في حد ذاته، بل هو الغاية التي تحقق غايات أكبر، وهم أولئك الذين تنطوي نفوسهم على كثير من النوايا السيئة والأفكار الضالة التي تظهر بين الحين والآخر للمتأمل الفطن في أدبهم، وهؤلاء يفرطون في اللجوء إلى أسلوب الغموض، حرصا منهم على ستر طرف من أفكارهم وإظهار جزء منها عن طريق اللمح والإشارة، حتى يأتي الوقت المناسب للتعبير عن مقاصدهم بكل وضوح([11]).

والغموض في العصر الحديث، يعدُّ ملمحا من ملامح الحداثة المعاصرة التي نقلتها الثقافة العربية عن الثقافات الغربية، ولا سيما تلك المدارس التي تبنت فكرتها وعادت الواقع، وتنكرت للعقل والمنطق والشعور أيضا، بل وادعت أن لغة الأدب وسيلة للإيحاء وليست لنقل معان محدد([12]).

يقول أدونيس وهو من رواد هذا الاتجاه: “ليس من الضروري لكي نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكا شاملا، بل لعل مثل هذا الإدراك يفقدنا هذه المتعة، ذلك أن الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة، ولذلك هو قوام الشعر”([13]).

بل وصل الأمر بشاعر ممن تأثروا بهذا الاتجاه مثل محمود درويش إلى أن يقول:

“لن تفهموني دون معجزة

لأن لغاتكم مفهومة

إن الوضوح جريمة”([14]).

ومن ثم جنح أصحاب هذا الاتجاه إلى استخدام لغة رمزية، وتجريد كلمات اللغة وألفاظها من معانيها الحقيقية، واخترعوا صورا شاذة غير مألوفة، فكان إنتاجهم يصعب فهمه على كثير من القراء وحتى عليهم أنفسهم، وبدل أن يعبروا عن الواقع بآلامه وأحلامه تقوقعوا إلى داخل أنفسهم وانسحبوا إلى عالمهم الخاص الذي يعادي الواقع ويرى فيه كل رزيلة، واخترعوا لأنفسهم عالما خاصا بهم جعلوا منه مثلهم الأعلى، وكانوا أشبه بالمتصوفة الغلاة في استخدامهم الألفاظ في غير معانيها الحقيقية، وانغلاق المعاني والأفكار.

المدارس الأدبية الداعية للغموض:

هناك مدارس غربية بعينها قادت موجة الغموض العاتية ودافعت عنها ونقلتها إلى ما حولها من ثقافات ومن هذه المدارس التي تبنت هذا الاتجاه ما يلي:

1-المدرسة السوريالية.

2-المدرسة الرمزية.

3-المدرسة العبثية.

4-مدرسة اللاوعي.

وقد شكلت المدرسة السوريالية الغموض في أوضح صوره، وكان نتاجها يهدف إلى الهروب من الواقع، وينسج عالما من الخيال، وجاء شعر شعرائها عبارة عن هواجس وأضغاث أحلام وهلوسات لا تخضع لعقل أو منطق([15]).

وقد جاءت نماذج الأدب العربي التي تأثرت بهذا الاتجاه، وبتلك الأفكار المرضية واغترفت من مائها الآسن، وسقطت في حمأة هذا الغموض المقيت … فتشكلت موجة كاسحة من التشوش والعزلة والهروب من الواقع، وهدم المنطق، وتحطيم اللغة، وغسل الألفاظ من دلالتها المعنوية المعهودة، مما أنتج هلوسات لا يفهمها أحد ولا حتى كُتَّابُها أنفسهم..” ([16]).

ويكفي أن نطلع على نتاج القرن العشرين وخاصة بعد الثلث الأول منه، حيث بدأت ثمار التأثر بهذا الاتجاه تؤتي أكلها، تحت دعاوى مختلفة منها الحداثة، والعالمية…. ونحو ذلك من الألفاظ والمصطلحات المائعة، وكان من نتاجهم ما يسمى بالشعر الحر، الذي فقد فيه الشعر رونقه وجماله، وتحطمت فيه بنية القصيدة العربية المعهودة منذ مئات السنين، وماعت الألفاظ وخرجت عن معانيها الحقيقية، واختلت الصور والتشبيهات، واضطربت الأوزان، وفسدت قواعد اللغة، وغلبت العامية على الفصحى وحاولت إقصائها عن الميدان.

مظاهر الغموض في النص الأدبي:

تعددت مظاهر الغموض في الأدب الحديث، لا سيما الشعر ، الأمر الذي حدا بالدكتور عبد الرحمن محمد القاعود إلى أن يخصص بابا كاملا في كتابه عن الإبهام في شعر الحداثة يتحدث فيه عن مظاهر هذا الإبهام([17])، ولأن مصطلح الإبهام هو نفسه مصطلح الغموض في معناه ودلالته، فهما مترادفان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ، فقد حرصت على أن أورد أهم هذه المظاهر كما ذكرها الدكتور القاعود، دون الخوض في التفاصيل، وهي على النحو التالي:

1-الغياب الدلالي:

وهو السمة الغالبة في هذا الاتجاه، وله العديد من المظاهر، وتتمثل في:

أ-غياب الموضوع.

ب-خلق تأثير شعري.

ج-التجريد: (الشعر الصافي)، (الشعر الصامت).

2-التشتت الدلالي: حيث يصير المعنى مبعثرا وغير متماسك.

3- إبهام العلاقات اللغوية:

وتمثل فيما يلي:

أ-انخفاض المستوى النحوي.

ب- تفجير اللغة.

ج-اللغة الشعرية.

د-الجمع بين المتنافرات.

هـ-الصورة.

و-البياض.

ز-علامات الترقيم.

وأجمل باحث آخر أهم مظاهر الغموض في الأدب الحديث في العناصر التالية([18]):

1-استخدم اللفظة في غير معناه الدقيق الذي تعارف عليه أهل اللغة ،والذي وضعت له أصلا.

2-استخدام ألفاظ ومصطلحات وتراكيب جديدة مخالفة لأصول اللغة، ولقواعد النحو والاشتقاق.

3-بناء الكلام على خلاف القواعد النحوية المشهورة والسعي إلى هدم قواعد هذا العلم الرفيع.

4-المداخلة بين أجزاء الكلام، وتقديم ما حقه التأخير، وتأخير ما حقه التقديم.

5-الاهتمام بالتحسين الفظي على حساب المعاني.

6-إطالة الفصل بين أركان الكلام وعدم الحرص على بلوغ فكرة معينة في عبارة محددة ،إلى الحد الذي يجعل القارئ يضيع بين السطور وهو يريد أن يظفر بمعنى.

7-استخدام بعض المصطلحات والدلالات التعبيرية التي يتعارف عليها أرباب الغموض في محيطهم الضيق ، وهي مفهومة بينهم ، وغير معروفة عند غيرهم من المثقفين.

8-إسقاط بعض الرموز الإغريقية والوثنية على النص الأدبي، وتوظيفها لخدمة فكرة خبيثة.

أمثلة على الغموض في الشعر الحديث:

تتعدد الأمثلة الدالة على الغموض في الشعر الحديث، وكثر النتاج الذي يحمل سمات هذا الاتجاه على نحو كبير، وإن كان في مجمله يغلب على أصحاب الشعر الحر أو ما يسمى بشعر التفعيلة، وغلب على نتاج أصحاب الاتجاه الرمزي وشعراء المهجر، ونتاج فترة الستينات والسبعينات من القرن الميلادي الماضي خير شاهد على ذلك، والأمثلة على هذا الاتجاه أكثر من أن تحصى، ولكن يكفي هنا الإشارة إلى بعضها.

*- المثال الأول:

يقول على جعفر العلاَّق في قصيدة له بعنوان أنثى الينابيع:

خذني إلى مائها

يا ماء. إن فمي حجارة

ودمي ليل يموج

لظى

ماذا تشم يدي

في الريح؟ أغنية

من أغنيات يديها؟

نجمة خلعت غبارها

في مهب الريح؟

أين مضت، أنثى الينابيع؟

هل أمضي بلا امرأة

مبتلة؟ دون أوطان

ألوذ بها

………

*-المثال الثاني:

يقول عفيفي مطر في إحدى قصائده:

تلبس الشمس قميص الدم

في ركبتها جرح بعض الريح

والأفق ينابيع دم مفتوحة

للطير والنخل

سلام هي حتى مشرق النجوم

سلام/

……….

ضمت الحقول ركبتيها

ونامت الثعابين

سلام ظلامي يتكوم قشا

ناعما وزغبا

والثيران أغفت واقفة

تتكسر أنجم الليل في

حدقاتها الفسفورية الغائبة

سلام قناع ليل رحيم

رأيتها تلفظ ما وضعت من

علائم الرسوم

رأيتها تحمل في الحواصل

أهلة الخرائط التي نقشتها في

ورق الأحلام

وتبني أعشاشها في

شجر الرياح

*-المثال الثالث:

يقول رفعت سلام في قصيدة بعنوان نظرة أخيرة:

نظرة أخيرة:

شمس تحتسي شايا

ورياح تنام في فراشي

وغيمة تحت الوسادة

نار تصعد الجدار

أشياء صغيرة تومئ لي

وعلبة سجائر خاوية

فأمضي

……..

……….

………

الخاتمة:

أرجو أن يكون فيما قدمت ما يلقي الضوء على هذا الاتجاه الفكري الذي وفد على الثقافة العربية المعاصرة من ثقافات الغرب، وكان ملمحا مميزا للنتاج الأدبي على مدى عدة عقود من القرن الماضي، وما زال له أنصاره والمدافعين عنه إلى وقتنا هذا على الرغم مما فيه من إفساد للغة، وللذوق العام، وجنوحه إلى الهروب من الواقع بمشكلاته، بدلا من محاولة التصدي لها، والإغراق في بحر من الهواجس والخرافات والهلاوس التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

وأرجو أن يساعدني الله عز وجل على القيام بدراسات أخرى في هذا الميدان، لكشف زيف كثير من تلك الدعاوي الباطلة الوافدة إلينا تحت قناع ما يسمى بالحداثة، ولم يكن حظ ثقافتنا العربية وقيمنا الأصيلة منها إلا الانحطاط والتردي بدلا من الازدهار والتقدم.

وحتى لا يساء فهم هذا الكلام فلست ضد الحداثة، أو ضد فكرة الأخذ بمعطيات العلم الجديدة، والاستفادة من التجارب الإنسانية في الثقافات الأخرى، فالفكر ليس حكرا على أمة دون أمة، أو فئة من الناس دون فئة، ولكن الذي أدعو إليه هو أنه يجب الأخذ في الاعتبار قيمنا الأصيلة التي يجب المحافظة عليها، كما أن نظام لغتنا يختلف كثيرا عن تلك اللغات التي تربى عليها دعاة الحداثة، فما يصلح هناك ليس بالضرورة يصلح هنا، ولعل القاسم المشترك بيننا وبينهم هو وحدة التجارب الإنسانية، ومع ذلك فالاختلافات بيننا وبينهم كثيرة سواء في الفكر أو المعتقدات الدينية أو العادات الاجتماعية، وهو ما يؤثر بشكل كبير على التفاعل والشعور، وينعكس بطبيعة الحال على طريقة التعبير.

وهنا تكمن الخطورة، وخاصة إذا علمنا أن وظيفة اللغة ليست قاصرة على التعبير عن المشاعر الإنسانية الفردية فقط، بل تتعداها إلى نقل الأفكار والمعتقدات، وإحداث التواصل بين الأجيال على مر العصور، والأدب بشتى فنونه يعد من أهم وسائل اللغة لنقل تلك الأمور والتعبير عنها.

والحداثة -في فهمي وكما أراها- ليست أحاجٍ لفظية، أو إغراقات فلسفية بقدر ما هي دعوة إلى التطور في الفكر ، والتسامي في الشعور بالذات والآخرين، والبراعة والدقة في التصوير، والتجديد في الأساليب وطرق التعبير عن المشاعر والأفكار، مع المحافظة على البناء اللغوي والأساس الفكري الذي ننطلق منه، وليس هدمهما ونسفهما لبناء نظام آخر جديد يبعد كثيرا بالأدب واللغة عن غاياتهما السامية ويفقدهما أهم خصائصهما في التواصل والتعبير.

وفي الختام أرجو من الله تعالى العفو والقبول، إنه أكرم مسؤول وأعز مأمول، وهو حسبي ونعم والوكيل.

مراجع البحث:

-الإبهام في شعر الحداثة، د. عبد الرحمن محمد القعود، عالم المعرفة –الكويت، 1978م.

-الحداثة، د. وليد القصاب، دار القلم ، دبي- الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، 1417هـ -1996م.

– الأدب وفنونه، د. محمد مندور، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، بدون تاريخ.

– الأسس النفسية للإبداع الفني، د. مصري عبد الحميد حنورة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986م.

-سيكولوجية الشعر (العصاب والصحة النفسية)، د. محمد طه عسر ، عالم الكتب، القاهرة، مصر ، الطبعة الأولى 1420 هـ – 2000م.

-في الأدب الإسلامي، د. وليد القصاب، دار القلم، دبي – الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، 1419 هـ -1998م.

-لسان العرب، ابن منظور المصري، دار صادر بيروت لبنان، د.ت.

-الميزان الجديد، د. محمد مندور، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

– النقد الأدبي الحديث، بداياته وتطوراته، د. حلمي محمد القاعود، دار النشر الدولي، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى 1427 هـ -2006م.

– النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الخامسة 1971م.

– النقد المنهجي عند العرب، د. محمد مندور، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، 2003م.

فهرس المحتويات

الصفحة الموضوع
3 -المقدمة:
6 -الغموض بين القدماء والمحدثين:

أولا: مفهوم الغموض عند القدماء:

8 ثانيا: مفهوم الغموض عند المحدثين:
10 – المدارس الأدبية الداعية للغموض:
12 – مظاهر الغموض:
14 – أمثلة على الغموض:
17 -الخاتمة:
18 -مراجع البحث:
19 – فهرس المحتويات:

([1]) انظر لسان العرب لابن منظور مادة (غمض)، والقاموس المحيط للفيزوآبادي مادة (غمض).

([2]) انظر في الأدب الإسلامي للدكتور وليد قصاب، ص: (107-113).

([3]) السابق، ص: (108).

([4]) السابق، ص: (110) بتصرف.

([5]) نقلا عن السابق، ص: (110).

([6]) انظر: كتاب سر الفصاحة.

([7]) الغموض في الأدب الحديث، أسبابه وآثاره، د/مطلق بن محمد شايع عسيري. بتصرف.

([8]) انظر كتابيه: أسرار البلاغة، ودلائل الأعجاز.

([9]) انظر ديوانه.

([10]) الغموض في الأدب الحديث، أسبابه وآثاره، د/مطلق بن محمد شايع عسيري. بتصرف.

([11]) المصدر السابق.

([12]) الحداثة في الشعر العربي المعاصر، د. وليد قصاب، ص: (166) وما بعدها، بتصرف.

([13]) زمن الشعر، لأدونيس، ص: (21).

([14]) ديوانه، ص: (481).

([15]) في الأدب الإسلامي، د. وليد قصاب، ص: (111)، بتصرف.

([16]) السابق، ص:( 112)، بتصرف.

([17]) الإبهام في شعر الحداثة، د. عبد الرحمن محمد القعود، ص: (177-290)، نشر عالم المعرفة، الكويت 1978م.

([18]) الغموض في الأدب الحديث، أسبابه وآثاره، د/مطلق بن محمد شايع عسيري. بتصرف.