مسارات الديمقراطية في العالم العربي

لقد ظل العالم العربي جامدا أمام التحولات السياسية الكبرى التي هزت العالم عقب انهيار حائط برلين و عصفت بمعسكر الشرق و منظومته الشيوعية. فالأنظمة التي تسلمت مقاليد الحكم من القوى الاستعمارية, في معظم البلاد العربية, لازالت هي نفسها صاحبة الأمر و النهي و الكلمة الفصل في قضايا الدولة و المجتمع معا. كما أن فشلها في بلورة مشروع مجتمعي يستجيب لمستلزمات دولة الاستقلال و تأزم الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية فيها, قد ساهم بدور كبير في استفحال ظاهرة المعارضة السرية و شيوع الإيديولوجيات الاحتجاجية.

غير أن أحداث 11 سبتمبر 2001, التي استهدفت مراكز صنع القرار السياسي و الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية, وما فجرته من أسئلة حول مستقبل العلاقات الدولية, قد عرجت رياح التغيير في اتجاه المنطقة العربية. فسقوط نظام صدام حسين في العراق و التقلبات السياسية, غداة اغتيال رفيق الحريري, في لبنان و انعكاساتها على ديناميكية المعارضة قي سوريا وكذا العمل على رد الاعتبار للاستشارات الشعبية في المغرب و الجزائر و انبثاق بعض الهوامش الديمقراطية في مصر و السعودية…, كانت كلها مؤشرات على ولوج العالم العربي لمرحلة جديدة من تاريخه. مرحلة تتسم بإعادة النظر في القواعد المنظمة لعلاقة المواطن بالسلطة.

إن هذه التطورات واكبها نقاش حاد حول آفاق الديمقراطية و الإصلاح السياسي في العالم العربي. هذا النقاش و إن ظل محكوما بمنطق التوظيف البرغماتي من لدن الأنظمة الحاكمة والدوائر السياسية و الإعلامية المرتبطة بها, فإنه عبر مع ذلك عن روح جديدة تخترق المشهد السياسي العربي و تحمل مكوناته على الجهر بخطاب جديد في التعاطي مع قضايا الشأن العام.

إن الجديد في الحراك السياسي الأخير وما أفرزه من تجاذبات على مستوى الساحة السياسية لعدد من الدول العربية هو كونه لا يعبر عن خيار شعبي فحسب, بل أيضا عن رغبة دولية ترى في دمقرطة المنطقة مفتاحا لتحريرها سياسيا و اقتصاديا ومن ثم تطويق الخطاب المعادي للغرب وتحصين مسلسل التطبيع مع إسرائيل !فأصحاب هذا التوجه من خبراء السياسة, في البلدان الغربية, يربطون بين تحرير الممارسة السياسية و إطلاق عملية السلام عبر بوابة الاندماج الاقتصادي. تلكم هي خلاصة الأهداف التي ترمي إليها المشاريع الغربية بالمنطقة والتي أبرزها جورج بوش في ” مشروع الشرق الأوسط الكبير” و رددها نيكولا ساركوزي في ” الإتحاد من أجل المتوسط” .

لكن إلى أي حد يمكن الاستبشار بنجاح الانتقال الديمقراطي في هذا الجزء من العالم, عالمنا العربي, الذي ظل يتمرد على كل أشكال الانفتاح, خصوصا تلك التي يدعوا إليها أو يشجع عليها الغرب؟

إن الجواب عن سؤال إشكالي ,من هذا القبيل, لابد أن يلتمس عبر استعراض الوضع الثقافي في العالم العربي من جهة وكذا نظرة العرب إلى الأخر/الغرب من جهة أخرى. ذلك أن هذين العاملين يشكلان, في نظري, محددين رئيسيين لطريقة تناول الديمقراطية في المجتمعات العربية, والتي من دون استيعابهما سيظل التنقيب عن سبل التغيير الديمقراطي عرضة لمتاهات لا آخر لها.

الوضع الثقافي : ازدواجية الأصالة و المعاصرة

هل الثقافة العربية في وضعها الراهن مؤهلة لتحمل مقولات الفكر الديمقراطي؟ وهل يمكن إنجاح الإصلاح السياسي دون إنجاز الإصلاح الثقافي؟

الواقع أن ثقافتنا العربية الإسلامية تعيش حالة ركود يتعذر معه ضمان شروط الإقلاع الحضاري, ففشل المشروع النهضوي العربي, على اختلاف تلويناته الإيديولوجية, ينهض دليلا على مأساة المثقف العربي و تهافت منتوجه. كما أن الدراسات التي أنجزت حول قضايا الثقافة العربية لم تستطع أن تجد لنفسها خطا ناظما يجمع شتاتها و يبرز الطموح الحداثي المشترك في محتوياتها, بل نجدها أحيانا تفرط, بدافع العناد الأعمى أو سوء تقدير للظرفية, في طروحات مستحدثة دون سابق تمهيد تنتهي بها إلى ما لاقته أفكار نصر أبو زيد من دعوات للتكفير و المقاطعة.

إن الحداثة مطلب تاريخي و إشكال فكري يفترض وجود آليات نظرية لتوفير أدوات وضوابط الاشتغال المنهجي, في هذا الصدد اجتهد أنصار المشروع الحداثي في “تشريح” التراث العربي الإسلامي لتشخيص عوامل الجمود فيه و تقويضها و لرصد بواكير التحديث و توطيدها. لكن هل فلسفة الحداثة كما يبشر بها هؤلاء قادرة على احتواء ازدواجية الأصالة و المعاصرة و رأب الصدع الذي يغشى الثقافة العربية؟ ذلك أن ردود الفعل المحافظة, اللفظية أحيانا و المسلحة أحيانا أخرى, تجد تبريرها في التنافر القائم بين “حقل الحداثة” و “عالم المقدس”. من هنا أصبح لزاما تحديد وضيفة الدين داخل الثقافة العربية الإسلامية و عقلنة وضعه وفق إملاءات السياق التاريخي.

تحديد وضيفة الدين و عقلنة وضعه, أي استيعابه وفق سنة الاختلاف و التغير حتى لا يصير الإيمان بالغيب عائقا أمام مقتضيات التطور, هي مسألة تجديد و إبداع في موضوع شائك و حساس يفترض توافق ذوي النزعة الدينية حول عناصره. ألم تكن صرخة حسن حنفي وغيره من دعاة اليسار الإسلامي رجع صدى لفشل أسلافهم من ذوي النزعة العقلية؟ أليس إخفاق “المعتزلة الجدد” مرده القراءة الذغماتية للتراث الديني و الأحادية في نظم محاوره؟

لكن هل المحافظين, من جهتهم, مؤهلين لصياغة الجواب عن سؤال الحداثة من خلال أدبيات حقل الأصالة؟ و هل يوجد من ضمنهم من يملك الجرأة على ممارسة التفسير و التأويل و الإفصاح عن قناعات قد تجعل منه هدفا لألسنة و أقلام “التقليديين” ؟

نعم, وإن لازالت محاولاتهم تتأرجح بين التردد و الاحتشام. في هذا السياق شكل كتاب “السنة النبوية بين أهل الحديث و أهل الفقه” لمحمد الغزالي لحظة صدوره ,خلال منتصف ثمانينات القرن الماضي, منعطفا حاسما في تاريخ الفقه الإسلامي. لقد عمل على كسر الجليد على طابوهات طالما اعتبرت مقدسات فوصف حينها صاحبه بالجاهل بأصول الاجتهاد والمبتدع ل “بريسترويكا” على مستوى مناهج التفكير في الفقه الإسلامي .كما حققت الأبحاث الإسلامية الحديثة تقدما ملحوظا في هذا الشأن, منها تلك التي أنجزها راشد الغنوشي إزاء قضايا المرأة و حقوق الإنسان و المجتمع المدني… وكذا فتاوى يوسف القرضاوي وغيره من المثقفين والشيوخ الأعلام الذين عكسوا الحس التجديدي في تناولهم لانشغالات المسلم المعاصر.

كما أن نظرية المقاصد, التي يحاول عدد من المثقفين الإسلاميين تطويرها تعبيرا عن وعيهم بالتأخر الحضاري ورغبة منهم في إدراكه, تعكس سعي الكثير من “التراثيين” إلى تفعيل آليات للتجديد من داخل المنظومة الإسلامية ذاتها. إن الفكر المقاصدي يروم استطلاع الواقع و استنطاق النصوص لإعادة تشييد العلاقة بينهما على أساس الإرتهان للمصلحة الآنية و المتجددة. فالاجتهاد المقاصدي يقوم على الإبداع الذي يفترض التفاعل الواعي مع مستجدات العصر المتغيرة باستمرار, كما أنه يجعل فهم “النص الديني” يتوقف على إدماج المفاهيم الحديثة في قراءته.

هذه الومضات الصادرة عن الخطاب الديني تعبر عن رغبة النخبة الإسلامية في الالتحاق بمعركة الفكر في سبيل بناء مجتمع حديث على قاعدة التوافق و التشارك, مجتمع يقوم على هجر ما يسميه برهان غليون “المنهج السجالي” في الحوار و التخاطب. كما تترجم انشغالها, على الصعيد النظري, بازدواجية الأصالة و المعاصرة والتماس الطريق لمعالجتها, أي الازدواجية التي ظلت ولازالت تمارس مفعولها, في المجتمعات العربية, على مستوى السلوك و طريقة التفكير في آن.

إن إشكالية “الاستقلال الثقافي”, الوجه الآخر للازدواجية المذكورة, أي الانفصال عن الأخر المعاصر (الغرب) و التحرر من الماضي الأصيل (التراث), لازالت ـ كما يراها الجابري ـ تشكل المركب المركزي في الفكر العربي الحديث و المعاصر, و التي من دون تجاوزها سيبقى النتاج الفكري في العالم العربي مجرد تكرار لنفس القضايا و اجترار لنفس الهموم التي شغلت المصلحين الأوائل مند ما يزيد عن القرن و نصف القرن من الزمن.

الموقف من الغرب : ازدواجية التمثل و ازدواجية الولاء

وجدت الديمقراطية أصولها النظرية في التجربة السياسية اليونانية كما وجدت في الثقافة الغربية عموما إطارا ملائما لتترسخ وترتقي بفضل الثورات الكبرى التي أحرزتها البرجوازية في أوروبا وأمريكا الشمالية. فالديمقراطية صناعة غربية تعكس فلسفة الإنسان الغربي إزاء نظام السلطة و أمور الدولة, غير أن دخولها طور العولمة لتشمل مجتمعات أخرى في بيئات ثقافية مغايرة جعلها تتجاوز خصوصيتها الغربية لتعبر عن مطمح أو لنقل عن حاجة بشرية.

لكن هل تحقق هذا الفصل فعلا بين الديمقراطية و الغرب في المخيال العربي؟

الواقع أن الرغبة في تجاوز هذا السؤال أجبرت المثقفين العرب على الوقوف, كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا, عند التمييز بين الديمقراطية كآلية أو تقنية لتسيير شؤون الحكم و بين الديمقراطية كجهاز مفاهيمي يستقي أصوله النظرية من التجربة الغربية, مجتهدين في ذلك على تقبل الأولى و تأويل الثانية بشكل يسمح بتكييفها مع خصوصية الثقافة العربية.

هكذا غذت المفاهيم التراثية من قبيل الشورى و البيعة و المحاسبة…, مواد خام لتركيب عناصر رؤية حداثية للديمقراطية في الإسلام. فالأمر يتعلق بالاسترشاد “بجينات أهلية” لتوظيفها في غرس الفكرة الديمقراطية في تربة الثقافة العربية. لكن الغرب لا يفرض حضوره في الوعي العربي لمجرد إحرازه السبق في إبداع الديمقراطية فحسب, بل لكونه أيضا يسعى إلى فرضها فرضا في العالم العربي ولو بقوة السلاح إن فشلت الضغوطات و الإغراءات.

من هنا يثار الإشكال في تمثل صورة الغرب داخل المجتمعات العربية. فالغرب, المتطور الحر, الذي يحمل شعار الديمقراطية و يبشر بتعميم حسناتها على العالم العربي هو نفسه الغرب الذي اقترن مند زمن طويل في تصور الإنسان العربي بالحروب الصليبية و ظاهرة الاستعمار و دعم الكيان الصهيوني على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني…

هكذا اعتادت الذهنية العربية على إقامة نوع من الاحتراز إزاء كل ما يمت للغرب بصلة, حتى أصبحت القاعدة عندنا هي “كلما ابتعدنا عن الغرب كلما اقتربنا من الإسلام و الهوية القومية”. إن وضعا كهذا لا يزيد الحالمين بالديمقراطية في البلاد العربية إلا ” تيها”. فالأنظمة الحاكمة, عملا بنظرية المؤامرة, لا تتوانى في لمز الداعين إلى الإصلاح السياسي بالخونة و خدام المصالح الغربية لإحراجهم و إضعاف نفوذهم, كما أن المعارضة حفاظا على شرعيتها لطالما تحرص على إبراز التمايز و الاختلاف مع السياسات الغربية, بل قد تفرط بعض فصائلها في انتقاد الغرب للبرهنة على صدق نواياها و إخلاص وطنيتها.

غير أن وطأة الغرب ,على المخيال العربي, لا تقف عند حدود ازدواجية التمثل إذ تتجلى أيضا في ازدواجية الولاء. إن دراما العقل العربي, الناجمة عن ارتطامه بصخرة الحداثة, تكشف عن استفحالها في انشطار الولاء عندنا بين شقي الوطن و الدين. ذلك أن عملية الاقتباس و الاستعارة من الحداثة الغربية التي دأبت على حقن الإيديولوجيا العربية بمفردات الدولة القطرية لحد الإتخام, لم تستسغ إقامة الشعور الوطني محل الشعور الديني على المنوال العلماني, إنما سخرت جهدها في جعله رديفا له. فولائنا لا يحدده الانتماء الوطني فحسب بل الديني أيضا, أوليس الولاء لله قاعدة الإيمان في عقيدة المسلم؟ ثم أليس التوحيد في عقيدة الإسلام يعني إخلاص العمل, أي عمل كان, لله وحده دون شريك؟

إن هذه الازدواجية في الولاء, و التي تعتبر إحدى أوجه الأزمة الثقافية السالفة الذكر, تجعل من التوافق حول صيغة مشتركة “للمشروع المجتمعي” أمرا مستعصيا لقيامه على إشكال فكري تصطدم فيه ـ على مستوى التصور النظري ـ قيم العقيدة بمستلزمات الاجتماع السياسي الحديث. فهناك من يريد مجتمعا على مقياس “المجتمع النبوي” للظفر ببركة السلف في الدنيا و الفوز برضا الله في الآخرة, وهناك من يريد مجتمعا على شاكلة “النموذج الغربي” طمعا في الازدهار المادي و اكتساب العلم التقني. بمعنى أن لائحة المطالب السياسية عندنا يتنازعها فريقان, الأول ينادي بدولة تخدم الدين و الأخر على النقيض من الأول ينادي بدين يخدم الدولة.

إن حضور الولائين معا في وعينا و ازدحامهما على مستوى اختياراتنا لنمط الحياة, مرده ازدواجية المرجعية في ثقافتنا والمتمثلة في شقي الإسلام/ الغرب. تلك الازدواجية التي تعكس هول الشرخ الذي يمزق الفكر و الوجدان العربيين على غرار نموذجين متناقضين. إن جبر الشرخ وتجاوزه يفرض على العقل العربي إعمال النظر في القضايا الخلافية والاجتهاد في النوازل السياسية عبر فحص ترسبات “الفكر الماضوي” وما يقدمه من مسلمات في أفق تفكيكها وإعادة تركيبها على ضوء المعايير العقلانية وحدها. إنه مدعوا, أيضا و بإلحاح, لمعالجة ” فقه الديمقراطية” باعتباره فقها مستحدثا ولدته صدمة الحداثة في كياننا الثقافي عبر التصدي لتجربة الغرب بالنقد و التقويم حتى يتسنى مقاربتها و تبيئة منجزاتها.

خاتمة :

إن إحلال الديمقراطية في الأنظمة السياسية العربية “مهمة تاريخية” بحق, نظرا لطبيعة الصعوبات التي تعترضها. فالعوائق الثقافية أكثر تعقيدا من الإكراهات المؤسساتية و الدستورية المتعلقة بتنظيم السلطات و ضبط اختصاصاتها و العلاقات فيما بينها. فالأمر يتعلق بمتاهات تعترض طريق الديمقراطية وتتخلل مسارها, متاهات يتوقف الوعي بها على مباشرة نقد ذاتي, جدري وجريء, لبنائنا الثقافي من جهة و نظرتنا للغرب من جهة أخرى من أجل ابتكار آليات سياسية حديثة تتماشى مع مقتضيات الممارسة الديمقراطية و دون أن تتعارض مع المعتقدات المقدسة للأمة.

إن تشكيل كتلة تاريخية من أجل الديمقراطية, الكتلة التي أرادها الجابري إطارا للعمل و التنسيق بين مختلف التعبيرات السياسية رغم مفارقاتها المذهبية, لازال طريقها بعيدا و إن كانت إرهاصاتها في طور التبلور. ذلك أن مفاهيم الإبداع و النقد و العقلانية… ليست سوى كلمات مشوهة و مبتورة لم تجد بعد مكانها الطبيعي ضمن قاموس التداول السياسي العربي, و هي وان وجدت في الخطاب الإيديولوجي لا تعكس نفس المضمون لدى كل فرقاء الساحة السياسية, الشيء الذي يفاقم مشاعر الغربة و الاستلاب في نسق ثقافي مغلق يتملكه التوجس و الإرتياب.

محمد بوشيخي