الحوار الحضاري وسؤال الهوية

لا تنفك قضية الحوار الحضاري تلح في حضورها على راهن الجماعة الإنسانية، عاكسة باستمرار مستوى تدبير العلاقة بين أفرادها، والقدرة على حل الإشكالات التي تعترض مسارها، سواء في الصورة المثلى حين يتحقق الرقي بمستوى تدبير تلك العلاقة، أو في صورة شائنة حين تتفجر أوجه الصراع بين الجماعات المختلفة، عبر عناوين سياسية أو اقتصادية أو عرقية أو طائفية أو مذهبية، فتنسد قنوات الحوار أو تتضاءل فرصه حتى تكاد تنعدم.

ولعل الحوار الحضاري – فكرا وممارسة- هو أكثر قضايا الاجتماع الإنساني الراهن عرضة للنقد والمسائلة، بل والتعريض، بالقدر نفسه الذي يمثله من حضور دائم في المشهد العام لعالم اليوم، ذلك أن ارتفاع صوت النقد  لفكرة الحوار وخبرته على السواء، واشتداد لهجته حد الهجوم الصريح، يرتبط ارتباطا جدليا بسوداوية المشاهد التي يثيرها تفجر الصراع في صوره المختلفة، وأسوأها على الإطلاق اقترانه بالظلم وانعدام العدالة وإرادة الهيمنة، التي كثيرا ما طبعت العلاقة بين الجماعات الإنسانية، في عالم صار كثير من حكماءه وأرباب العقل فيه يصمون علاقة أبنائه ببعضهم بأنها لم تعد قائمة على قوة المنطق، بل على منطق القوة.

غير أن أكثر النقد الموجه للحوار الحضاري ومشاريعه وفعالياته اليوم [1]1، إن لم يكن كله، لا تبدو من وراءه بدائل فكرية حقيقية وبناءة، فهو لا يقدم تصورا تجاوزيا لحال الصراع التي تطبع العلاقات الإنسانية، من خارج مشروع الحوار ومساراته. كما أنه نقد “إجرائي” يتجه إلى شروط الحوار المتبادلة بين المتحاورين، وظروفه الثقافية والسياسية، وأهدافه المرحلية المعلنة. فضلا عما يعاب على خطاب الحوار ممن يُنصِّبون مسبقاتهم الفكرية، أو آراءهم السياسية في الحكم عليه أهدافا أو جدوائية، أو ينطلقون في التعاطي معه من سوء فهم  لطبيعته أو مقاصده، ولعل الشاعر العربي الكبير أبا الطيب المتنبي كان معبرا بدقة عن هذه الحالة في بيت شعره القائل:   وَكَمْ مِن عَائِبٍ قولاً صَحيحاً  *  وآفَتُهُ منَ الفَهْمِ السَّقِيمِ.

 والواقع أن هذه المآخذ كلها هي نتيُجة التصور الشامل، والرؤية المعرفية اللذين يتأسس عليهما الحوار الحضاري، فينتظمان مفردات مشروعه، لا مما يؤسس لذلك التصور أو يبني تلك الرؤية؛ بكلمة إن الواجب هو النظر في الشرط المعرفي للحوار، إذ هو الذي يحدد مستوى فعاليته ويضمن تحقيق غايته، لا إلى تجليات الحوار أو انعكاساته التي لا تعدو كونها نتيجة تتغير بتغير المقدمات.

ولأجل ذلك كانت أهمية التأصيل النظري العميق للحوار، ليس بوصفه ضرورة واقعية فحسب، بل باعتباره خيارا إنسانيا ممتدا في الزمان والمكان، وطريقا غايته الصحيحة إبراز الهوية المتفردة لكل جماعة بشرية ضمن الأسرة الإنسانية، لا طمس تلك الهويات بالتأحيد؛ ما يوصل في النهاية إلى الإعلاء من إنسانية الإنسان ككائن مسؤول ومكرم، يواجه تحديات وجودية مشتركة لا فرصة للتعامل معها إلا بالتواصل والتحاور بين التجارب المتعددة للحضارة الإنسانية، وهو حوار يفضي بدوره إلى التعاون الذي يبلغ بالإنسان مرتبة “التعارف”؛ ذروة الخيرية في صلته بأخيه الإنسان.

 

    1. حضارة واحدة..متعددة التجارب.

شيدت الإنسانية على مر تاريخها الطويل تجارب حضارية متعددة، ونشأت على مر الزمان أمم بنت أنظمة سياسية واقتصاديه واجتماعية وعمرانية، وخلفت معارف وعلوم انتقلت إلى الأمم اللاحقة التي استفادت منها وأدخلتها في تجربتها الحضارية القائمة ، ولم يقتصر ذلك على أمة دون أخرى بل شمل كافة الأمم والحضارات دون استثناء، فالعلم والمعرفة  بتفرعاتهما يقومان على العقل ، والعقل منحة إلهية، يمارس بها الإنسان مهامه الموكلة إليه على الأرض، في خضوع لمعظم المعطيات التي تحيط بحياته وبالطبيعة من حوله لمعايير ومقاييس وملابسات واحدة وان كانت متعددة الصور، ومن خلال هذه الحقيقة تشترك كافة الأمم وحضارتها في قيم كبرى واحدة ومعطيات مشتركة، بل إن الحضارة في أصلها حضارة واحدة ، متعددة الثقافات والنزعات والظروف المكانية والزمانية، وبالتالي التجارب، لأنها في نهاية الأمر تقوم على العلم والعقل ومعطيات الزمان أو المكان وكل ذلك مصدره واحد؛ ألا وهو الله سبحان تعالى.

   وقد عرفت الحضارة بعدة صيغ مرتبطة بالمستوى العلمي وطبيعة الحياة العملية والدينية المحيطة ، فلفظ”الحضارة” ترجمة شائعة للمراد الانجليزي” Civilization، وجذوره ترجع إلى اللغة اللاتينية القديمة قبل الميلاد، فيأتي بمعنى Civilties أي مدنية، وCivis أي ساكن المدينة، وCities وهو ما يُعرف به المواطن الروماني المتعالي على البربري.

وفي القرن الثامن عشر عرفها (دي ميرابو) في كتابه (مقال في الحضارة) على أنها ” رقة طباع شعب ما وعمرانه ومعارفه المنتشرة بحيث يراعي الفائدة العلمية العامة” [1][2]، بينما يعرفها (ويل ديورانت ) بأنها “نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، ويتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون” [1][3] وعرف البعض الحضارة أيضا بأنها “نظام اجتماعي ينمي ثقافة البشر ويرقى بحياتهم “ [1][4].

     وقد تفاوتت التعاريف المختلفة للحضارة ما بين تعريف  يقصر معناها على التقدم المادي بجميع أبعاده فقط، وبين من يعتبره نتيجة للتقدم الثقافي والفكري. أما البعض الآخر فيعتبر الحضارة لفظا شاملا لكل مسارات التقدم في حياة الإنسان .

    فابن خلدون يعرّف الحضارة بأنها من الحضر، أي من ترك البادية والاستقرار في الحضر. وفي العالم العربي قرن لفظ الحضارة بالمدنية ، ففي عهد محمد علي باشا في مصر كتب رفاعه الطهطاوي كتاب” منهج الألباب المصرية” مشيرا إلى التمدن باعتباره مرادف لكلمة حضارة ، وأن في الإسلام أبعادا منها . وفي عام 1936 ظهر تعريف عربي للحضارة بأنها “حالة من الثقافة الاجتماعية تمتاز بارتقاء نسبي في الفنون والعلوم وتدبير الملك”، وظهر تعريف آخر عام 1957م تعرف فيه المدنية على أنها “الظواهر المادية في حياة المجتمع” والحضارة عبارة عن الظواهر الثقافية والمعنوية. وعلى الإجمال فقد برزت خلال القرن العشرين عدة تعاريف للفظ”الحضارة” محصلها  أن الحضارة “هي جملة الظواهر الاجتماعية ذات الطابع المادي والعلمي والفني الموجود في المجتمع” [1][5].

     والخلاصة أنه لم تخرج جميع تعار يف الحضارة عن ارتباطها بالتقدم العلمي ونمط العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الإنساني ، والتي تهيئ الظروف الملائمة للتطور والارتقاء في كافة محاور نشاط وحركة الإنسان. كما يمكن القول انطلاقا مما سبق أن للحضارة أربعة أركان. أولها: وجود نسق عقائدي يحدد طبيعة العلاقة بين الإنسان والوجود، وثانيها: وجود نمط فكري وثقافة ذهنية وعلمية مبنية على قواعد رصينة قد تكون دينية أو فلسفية، من خلالها يتم تحديد العلاقات ما بين أفراد وفئات وشرائح الجماعة الإنسانية، وهي ما يُعرف عادة بالنظم الاجتماعية، المشتملة على الأعراف و التقاليد والقيم والنظم المتداولة. وثالث تلك الأركان: وجود بُنى أساسية مادية قابلة للتطور المستديم، من خلالها يمارس المجتمع نشاطاته المختلفة المستمرة دون انقطاع. أما الركن الرابع فهو: تحديد نمط العلاقة مع الأمم الأخرى بحيث يمكن الاستفادة منها وإفادتها في نفس الوقت، ومع الاحتفاظ بالمكتسبات وتطويرها وترقيتها عبر العلاقة مع الآخرين، والاستغلال الايجابي لخبراتهم وانجازاتهم، ومنحهم  خلاصة التجارب المتعددة للأمم، لتكون عاملا من عوامل الرقي وانحسار أسباب نشوء الصراعات والحروب .

     وعلى مر تاريخ البشرية، قامت تجارب حضارية كثيرة كان لها الأثر الهائل على مختلف اتجاهات حياة الإنسان العلمية والسياسية والدينية والثقافية ، فكل تجربة بائدة تنهل منها التجربة الجديدة ما يتوافق مع بنيتها الدينية والعلمية والاجتماعية والسياسية، لتبدأ مسيرة ارتقائها بانتهاء ما بلغته سابقتها، وهكذا إلى  أن بلغت مسيرة الإنسانية تجربة الحضارة المعاصرة التي يقودها الغرب اليوم .

    ومما يجدر التنبيه إليه أن الحضارة الإنسانية المعاصرة قامت على ما انتهت إليه التجارب الحضارية السابقة ،خاصة التجربة الحضارية الإسلامية ، وهذه بدأت مسيرتها بعد اتصالها عبر الفتوحات وحركة التجارة والسياسة والثقافة بالأمم المجاورة لها، فنهلت منها على مختلف الصُعد، وأضافت عليها عبر فترات تاريخية متتالية علوم ومعارف ونظم عديدة، حتى إذا ما أفلت التجربة الحضارية للمسلمين وبان عليها الضعف، انتقلت قيادة الحضارة الإنسانية إلى الغرب الذي نهل من تلك التجربة الحضارية السابقة.

وثمة عبارة كتبها الأستاذ Stefano Carboni أمين متحف “المتربوليتان” في نيوورك، تبين نتيجة هذا التواصل في المنجز بين التجارب الحضارية في هذه المنطقة من العالم يقول فيها: “إن حوض البحر الأبيض المتوسط حدود سائلة Liquid Frontiers وذلك وصف دقيق لحركة الثقافة في صنع أحواض حضارية، ثم فيضان هذه الأحواض لتصنع محيطًا حضاريًا عالميًا وإنسانيًا واحدًا. [1][6]

 

2. التجربة الحضارية صورة لهوية الجماعة الإنسانية وعبقريتها.

 يمكن اعتبار المدخل الثقافي أنسب مداخل النظر في مسألة الهوية الخاصة بجماعة إنسانية مخصوصة، غير أن تحرير مصطلح الثقافة نفسه، كثيرا ما يواجه بما يقع من التباس وتضارب بين مفهومي الحضارة Civilization والثقافة Culture في السياق العربي.  إذ هنالك فرقٌ واضح  بين دلالة المصطلحين في اللغات الأوروبية، ولا يتضّح بداية في اللغة العربية إلا في الأصل الاشتقاقي، بعد النظر فيما نعنيه بالمثقف والمتحضر. فالمثقف في اللغة هو المصقول المهذّب. وقيلَ عن الرمح المثقف، أي المقوّم المصقول. كذلك الحال بالنسبة للمتحضر. فهو أيضاً صَقَلَتْهُ حياة الحضر وَنَعِمَ بثمرات المدنية فاتسعت مداركه وتغيرت أساليب فكره وسلوكه بفضل ما استحدثته الحياة الحضرية من طرق وأساليب لا تعرفها حياة البداوة أو الفِطرة.

أما ما تبيّنه لنا اللغات من اختلاف بين معنى الثقافة والحضارة فيظهر من مجرد النظر إلى ما تعنيه الثقافة Culture في أصلها اللاتيني، إذْ نرى أن الأصل فيها هو كلمة Cultura وتُفيدُ معنى الزراعة والإنماء. فهي في حقيقة الأمر تعني في معناها التأويلي تعامل الإنسان مع الطبيعة ورعايته لها وتمهيد الطريق السوي لرعاية ما هو موجود لينمو ويزدهر. وكما تفيد الثقافة في الأصل التعامل مع الطبيعة المادية، فإنها تمتد أيضاً إلى مجال الإنسانيات فتعني رعاية النفس وقواها العقلية والأخلاقية. وقد استخدمها كتّاب الرومان ومفكروهم بهذا المعنى فحدّثنا شيشرون عنثقافة الروح [1][7] Culture Animé.

ولم يستخدم الإغريقيون القدماء هذه الكلمة ولم يقدموا مرادفاً لها، وإنما كانت الثقافة عندهم ثمرة التربية الحرّة ولا تنفصل عن أسلوب حياتهم نفسها. ولم يكن هنالك فارق بين المثقف وغير المثقف وإنما كان الفارق بارزاً في انشغال المواطن الحر وعنايته بالأمور العامة أو انشغال الحِرَفيين. وهذا النوع من الانشغال هو المرادف لكلمة ثقافة. وقد أُشيرَ إلى هذا النوع من العمل والانشغال بكلمة Bananos.

فالثقافة على ضوء هذا التفسير هي نوعٌ من السلوك والتفكير والإحساس يكسب صاحبه شخصية معينة يتلقاها من بيئته الاجتماعية كما يكتسب الكائن الطبيعي شكله ولونه بما يناسب البيئة التي ينمو بها، وهي تسري إلى الأفراد بلا وعي منهم،كما يقول المفكر والفيلسوف الانجليزي هربرت ريد. فالثقافة تنعكس في أسلوب السلوك والعمل والاستجابة بمعزلٍ عن نصيب الإنسان من المَدَنيّة أو الحضارة. فمن هنا، مثلاً، يمكن أن يُنسَب للفنان عند تزيينه لبيته أو لطريقة بناء المسجد ثقافة خاصة تميّزه. فالثقافة تنعكس إذن في السلوك والإنتاج والأخلاق والفنون،وتنتشر بين أفراد مجتمع معين لتقرّب بينهم وتٌكسِبَهم طابعاً خاصاً يتميزون به عن غيرهم.

ويجمل المفكر المغربي محمد عابد الجابري هذا المعنى في تعريفه الثقافة “بأنها ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطور بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء، وبعبارة أخرى إن الثقافة هي المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم وعن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت،والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل” [1][8].

وبهذا المعنى، يمكن أن نتحدث عن ثقافات مختلفة. وليس الأمر كذلك بالنسبة للحضارة، إذ من التناقض أن نتحدث عن حضارة بدائية  Savage Civilization مثلا، لأن نتاج الحضارة اختراعات واكتشافات وصناعات وهي الشكل الواعي للاكتساب الذي لا يعتمد على أثر البيئة الطبيعية وحدها. ومن هنا تبدو الحضارة الإنسانية مسيرة واحدة متعددة التجارب، والثقافة هي أقرب ما يكون إلى الباعث على تلك التجارب المتتالية والمتنوعة تنوع الجماعات الإنسانية المخصوصة.

وإذا كانت التجربة الحضارية بذلك ناتجا للباعث الثقافي وثمرة له، فلا شك أن محددات الثقافة الخاصة بالجماعة تمثل العنصر الحاسم في ملامح تلك التجربة ومسارها ومصيرها، وأقصد بمحددات ثقافة الجماعة: هويتها الخاصة.

فهوية المجتمع هي خلاصة عبقريته المتحصلة من طبيعته وتاريخه، وقيمه وعقيدته وتصوراته أي ذكاءه الاجتماعي، فضلا عن تجربته التاريخية بكل ما تشمله من قدرة على القبول والاستبعاد، وقابلية للتواصل مع التجارب الأخرى والتفاعل معها بمختلف الصور والأشكال، ومن هنا تمثل الهوية الملمح الأبرز من ملامح التجربة الحضارية لمجتمع من المجتمعات ، والقدر الذي تسهم به جماعة إنسانية في مسيرة الحضارة فتغني به تجارب غيرها، والبصمة الممِّيزة التي تتركها أمة على تاريخ الإنسانية.

 إن التجربة الحضارية هي الصورة الحية لهوية الجماعة الإنسانية، وهي المعبّر عن عبقريتها، ولأجل ذلك كانت أهمية التواصل بين التجارب الحضارية المتعددة، وهو أمر سارت بمقتضاه الإنسانية مسيرتها منذ أقدم العصور، عبر مختلف أشكال التبادل والتنقل والاستكشاف المتبادل، فتمكنت بذلك من إتاحة الفرصة للهويات المتعددة أن تحيى وتتلاقح. غير أن هدف استبقاء التواصل وتنميته، قصد حسن استثماره والإفادة من نتائجه يقف اليوم أمام تحدٍّ حقيقي، فواقع التعدد الثقافي اليوم يكشف عن إرادة هيمنة من قبل أطراف ترى أحقيتها في السيادة، ويمكن إيراد مثال ما يشهده واقع الحقل اللغوي من اختلالات تؤكد وجود إرادة مقصودة للهيمنة اللغوية.

فمعلوم أن هذا النوع من الهيمنة ليس مجرد تمدد لسني بل هو تمدد ثقافي أيضا، لأن الأنساق اللغوية ليست مجرد دوال لفظية للاستعمال، بل هي رموز مثقلة بالدلالات الثقافية. وهذا ما تؤكده الملاحظات الأنثروبولوجية حتى على مستوى الإطار الجغرافي المحدود والمتقارب، فالباحث الأنثروبولوجي مايكل كاريذرس يقول في هذا السياق “في جزيرة غينيا الجديدة وحدها 700 لغة، ومن ثم هناك بالمقابل 700 شكل مختلف من أشكال الثقافة والمجتمع”.

وتأسيسا على ما سبق، وإبرازا لخطر التنميط المهدد لواقع التعدد الثقافي،يكفي أن نستحضر هنا إحصائيات اليونسكو حول الواقع اللغوي، إذ تشير تلك الإحصائيات إلى وجود حوالي 6000 لغة، لكن المفارقة أن 96% من سكان العالم يتحدثون 4% فقط من تلك الآلاف من اللغات!. وتؤكد الإحصائيات أن 90% من لغات العالم غير موجودة على مستوى الإنترنت. وعلى مستوى الاستعمال والتداول اللسني الواقعي ثمة مئات من اللغات في طور الانقراض الفعلي!

في هذا السياق يغدو الدفاع عن التعددية الثقافية مطلبا أساسيا للبشرية جمعاء، لا بد من الدفاع عنه سياسيا وفكريا. وهذا راجع إلى قيمة المكون الثقافي وأهميته في بناء الإنسان والمجتمع. فالثقافة هي الإطار الرمزي الحامل للمحدد العقدي والقيمي للوعي الجمعي، حيث تشكل مرجعية للتفكير وقيمة معيارية ناظمة للسلوك داخل المجتمع المنتهج لها، وبوصفها كذلك يصح القول: لا شيء ينفلت من المحدد الثقافي [1][9].

وذلك كله يستدعي تحوّل التواصل بين الثقافات والتبادل بين التجارب الحضارية المختلفة، إلى صيغة منظمة ومؤسسية واعية، عبر جهد فكري إنساني قاصد، يمكن تعلُّم أسسه واستمداد فلسفته من تجارب التاريخ التي تهبنا خلاصة حكمته.

                                 

3. الحوار انعكاس للتجارب الحضارية المتعددة وطريق التعارف

واحد من أكثر الأسئلة التي تلح على راهن الإنسان وحضارته، هو ذلك المتصل بإمكان تحقق التعارف بين التجارب الإنسانية المتعددة لتلك الحضارة، والطريق المؤدية إلى ذلك التعارف، والقيم الباعثة على سلوك هذا الطريق.

وفي نص يفيض بالأدب والحكمة من التراث الإسلامي ترد قصة بليغة تعكس مقدار ما يعود به التواصل بين تجارب الشعوب والأمم، من فائدة على مجموع المتواصلين، يرويها الشاعر الفارسي الكبير “جلال الدين الرومي” (604هـ/ 1207م -672 هـ /1273م) في ديوانه الشهير “المثنوي”، وهي قصة تنافس أهل الروم وأهل الصين في علم التصوير التي تروي أن الصينيين قالوا: “نحن أكثر مهارة في النقش، وقال أهل الروم: بل نحن أصحاب الكر والفر فيه. وقال السلطان: وأنا أريد امتحانا في هذا الموضوع، لنرى من المبرّز منكم في دعواه؟.

وعندما حضر نقاشو الصين والروم، كان الروم أكثر وقوفا على هذا العلم.

وقال نقاشو الصين: ليخصص لنا منزل ولكم منزل، وكان المنزلان متواجهين، أخذ أحدهما نقاشو الروم، وأخد الآخر نقاشو الصين.

وطلب نقاشو الصين مائة لون من الملك، ففتح خزائنه…، وكان لنقاشي الصين كل يوم من خزانة الألوان جعل معين.

وقال نقاشو الروم: لا نقش ولا لون جدير بهذا العمل، اللهم إلا صقل الصدأ. وأغلقوا الباب وظلوا يصقلون، وصار [ما صقلوه ] كالسماء بسيطا صافيا… وعندما فرغ نقاشو الصين من العمل، أخذوا يدقون الطبول فرحا. ودخل الملك فرأى صورا في ذلك المكان، كانت تسلب العقول والألباب. ثم انتقل صوب نقاشي الروم، فكشفوا ستارة كانت موضوعة أمامه، فانعكست تلك الصور وتلك الأعمال على تلك الجدران الصافية.

وكل ما رآه هناك، انعكس هنا أفضل، فكانت تخطف العيون من محاجرها ” [1][10].

إن هذا النص على قصره يعطينا عددا من الدروس في إدارة العلاقة بين التجارب الحضارية المتعددة، فضلا عن الحكمة من التعدد المغني في الخبرات الحضارية للأمم، ومحصلته أن الحضارة الإنسانية تغنى بكافة التجارب (صينية ورومية)، ويرقى المنجز الحضاري بالتفاعل بين تلك التجارب (عبّرت القصة عن هذا التفاعل بانعكاس الصورة في عمل الآخر واكتمال جماليتها به وفيه)، وبالتالي بلوغ الهوية مستواها الأرقى في مقام التواصل مع الآخر وتجلي منجزها الحضاري بالتفاعل البناء معه.

 إن الحدود الحقيقية للهوية [1][11] لا تتجلى إلا بالتواصل الإيجابي مع غيرها. ولا تظهر ميزاتها بالنسبة لذلك الغير، ولا قيمتها في ميزان الحضارة ومقدرتها على إثراءها (قيمتها المضافة) إلا بسلوك الإنسان-كيفما كانت هويته الجماعية وانتماؤه المجتمعي وتجربة أمته- مسلك التواصل الذي يؤدي، ما إن تنضج ظروفه الفكرية والنفسية، إلى التحاور، ولعل الفيلسوف العربي الكبير طه عبد الرحمن  كان بليغا في التعبير عن هذه الحالة التواصلية وأهميتها بالنسبة للإنسان، هويته ومستقبله حين اعتبر أن” الهوية فرع عن الأصل الذي هو الغيرية. [1][12]

 

4. الحوار  وتحقق الهوية: من التعاون إلى التعارف .

تتجلى أهمية الدفع باتجاه مستوى الحالة  الحوارية من مسار الإنسان، في أنها الحالة التي تضمن تأسيسا واعيا لتواصل بناء بين مختلف تجارب الحضارة، ما يتيح لها فرصا للرقي، غير أن التواصل فضلا عن ذلك يمس جانبا آخر لا يقل أهمية من جوانب حياة الإنسان وفرص عيشه المستقبلية، وهو بلوغه منزلة التعاون، وهذه درجة من حسن تدبير العلاقة بين أطراف الجماعة الإنسانية لا تُبلغ إلا بمستوى من الوعي يستوعب التعدد كحالة طبيعية وسنة كونية، ويؤسس على هذا الوعي استثمارا لفضائل ذلك التعدد، وأهمها التفاوت بالضرورة في مستويات الإفادة من إمكانات الوجود، وتفاعل الملكات الإنسانية معها إصلاحا وابتكارا وإعمارا وإزهارا، وهو ما يؤدي إلى الحاجة المتبادلة بين مختلف المجتمعات والأمم تبعا لذلك التفاوت بينها كل في مجال، وضرورة التعاون بينها  لإفادة كل منها من التجارب الرائدة، والخبرات السابقة لغيره من الأمم.

وعند هذا المستوى، لا شك أن أفقا جديدا للحوار يتجلى، وهو هنا غير الحوار بوصفه  تناظرا استدلاليا شرطه الارتكاز على المثال الأعلى، بل الحوار بين فهوم متباينة وتطبيقات متنوعة تحاور بعضها بعضا من خلال قدرة الجماعة على التعاون بالاستفادة من فهم غيرها وتطبيقه لمنظومة أفكاره، وبالتالي اقتباس كل تجربة خاصة من غيرها أفضل ما عنده، أو أنسبه لها.

  وإذا كان الحوار سبب التعاون، فإن التعاون بدوره هو طريق التعارف، وهو منزلة لا تضاهيها في سلم التواصل بين الإنسان منزلة أخرى، إذ أن التعاون نفسه يمكن أن يساء استخدامه، إما بالتعاون على غير ما يحقق للإنسان الخير والسلم من قيم، أو بالتواطؤ على غير ما يحقق العدالة من مواقف وأحكام.  ولذلك جاء تخصيص مجال التعاون بين الناس في القرآن الكريم على البر والتقوى، أي على الأخلاق الإنسانية السامية وقيم الإحسان ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، كما ورد التحذير من التعاون على ما يناقض تلك القيم، أو يؤدي إلى اختلال موازين العدالة بالظلم والاعتداء ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الِإثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.

أما التعارف فهو الغاية من التعدد في الجماعات البشرية التي أوجد الله عليها العالم، ليس فحسب لأن ذلك التعدد قانون كوني إنساني ينبغي تدبيره، بل لأن التعارف منزلة إنسانية أخلاقية وحضارية راقية، يُحفز الإنسان على بلوغها، ذلك أنه عند هذا المستوى من الرشد في العلاقات بين المجتمعات تزول مخاطر التعاون، بل التواطؤ على الجور أو الحيف أو أنواع الرذائل، لأن المقام مقام تعارف أي اتفاق وتلاق وتواصل وتعاون على المعروف والعرف، وهي المبادئ والقواعد الجامعة لمعاني الخيرية والأخلاق الفردية والمجتمعية.  ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ (الحجرات.13).

     والخلاصة أن الإجابة على سؤال الهوية، بل التحقق الإنساني للهوية بكل ما يواجهه من تحديات مشتركة في عالم اليوم، لا طريق له إلا طريق الحوار الذي يؤسس التواصل الإنساني فيستحيل تعاونا، ثم يرقي حينئذ إلى مستوى يحفظ للإنسان كما لكل جماعة إنسانية هويتها، في ظل سعي مشترك إلى تحقيق الإفادة المتبادلة مما عند الآخر. بل إلى إثراء تلك الهوية بالتحالف على المثل والقيم العليا، التي تنادي بها  الفطرة السليمة للإنسان – مطلق الإنسان-، وذلك هو مقام التعارف.

            

          

 

 


[1][1] أنظر على سبيل المثال:                            Régis Debray, Un mythe contemporain : le dialogue des civilisations, CNRS Editions, 2007.

 

[1][2]    ويل ديورانت قصة الحضارة ج 3 ص 214

[1][3]    نفس المصدر ص 215

[1][4]   المصدر السابق ص 215

   [1][5] راجع للتفصيل: د.نصر محمد عارف، الحضارة المدنية .. اختلاف الدلالات باختلاف الحضارات.

. نقلا عن مجلة “وجهات نظر” نوفمبر 2007، عدد 106 College Oxford University October 29, 2007 .Mohamed H. Hikal [1][6]  

[1][7]  ماركوس توليوس شيشرون Marcus Tullius Cicero – ، الكاتب الروماني وخطيب روما  ولد سنة 106 ق.م، صاحب إنتاج ضخم يعتبر نموذجا مرجعيا للتعبير اللاتيني الكلاسيكي.  أثارت شخصية شيشرون الكثير من الجدل والتقويمات المتضاربة وخاصة في الجانب السياسي من حياته، ولكنه يعد بحسب بيير كريمال الجسر الذي عبره وصلنا جانب مهم من الفلسفة اليونانية.

[1][8]  محمد عابد الجابري، “العولمة والهوية الثقافية” ،مجلة فكر ونقد العدد السادس  سنة 1998.

[1][9]  راجع : د. الطيب بوعزة، في الدفاع عن التعدد الثقافي، وجهات نظر، الجزيرة نت.

[1][10]  مولانا جلال الدين الرومي، المثنوي، ترجمة وشرح وتقديم د. إبراهيم الدسوقي شتا، طبعة المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ج 1، ص: 313-314.

[1][11]  ينصرف معنى الحد هنا إلى المعنى الاصطلاحي للكلمة في الاستعمال التراثي العربي وهو التعريف، فحدود الهوية هي أبعادها التي تبين ماهيتها وتعطيها حقيقة معناها وتمنع اختلاطه وتضاربه بغيره من المعاني,

[1][12] أسس طه عبد الرحمن لفلسفة الحوار، فقد جعله الأصل في كل كلام، و طريقا في بناء الإقناع والتعقل والاجتهاد. واعتبر أن كل حوار يقوم على الاختلاف. وحدد خصائص الاختلاف وضوابطه. وجعله من أسس بناء الجماعة الإنسانية، التي عليها يقوم الميثاق بين شعوبها، وبه يتجدد الشعور بالمسؤولية بين الأقوام حيث يصرف عنها الخلاف والفرقة، ويضمن لها الوفاق والألفة والانسجام، راجع: طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ط1 [بيروت، المركز الثقافي العربي، 2002].