الاستشراق الأمريكي : طبيعته وخلفياته

  

مقدمة

مازال موضوع الاستشراق الشغل الشاغل للمثقف العربي الذي تحول فجأة – مع أمته – من ذات دارسة مستكشفة ، إلى موضوع تحت المجهر والتشريح ، وما زالت الحاجة تدعو- وبإلحاح يزداد مع الأيام – إلى دراسة الاستشراق وخطاباته عبر تحولاته ، دراسة فاحصة متعمقة للوقوف على تفصيلاته الدقيقة وخلفياته المحجبة ، في أفق ما يسمى بالعولمة ، حيث أصبح العالم قرية تحكم بالنار والحديد ، تضخمت فيها إمبراطوريات الشركات العابرة للقارات حتى أصبحت تتحكم في الدول بعد أن سلبتها السيادة ، في عالِم سيطرت فيه الديمقراطيات الميكانيكية ، وطغت فيه المعلومالية ، وفقدت فيهِ القيم القانونية والإنسانية والأخلاقية ، وتسلط فيهِ الشمال/ الغرب ، على الجنوب / الشرق ، بعد أن استنزفه واستعبده ، ويسعى حاليا إلى تدمير هويته وطمس خصوصياته الدينية واللغوية والحضارية ، باسم العولمة .

” لقد حدد الغرب الشرق كوحدة من النواحي الجغرافية والثقافية والاجتماعية ، عبر تقسيم معين للواقع الإنساني ، يوحي ضمنا بهوية صانع مفهوم الشرق ، وبذلك فإن الغرب بتحديد ما هو شرقي بالنسبة إليه ، إنما يأخذ بمعيار من إنتاجه لمفهوم الاستشراق ، هو الجغرافيا والتاريخ والأوضاع الخاصة بتلك الوحدة / الشرق ، التي يتم النظر إليها على أنها تختلف اختلافا بينِّا عن الغرب” (1)

وبالرغم من تعدد التحديدات التي وضعت للاستشراق ، إلا أنها لا تكاد تخرج عن دلالات ثلاث

1- دلالة أكاديمية : فكل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه ، فهو مستشرق ، ويسمى فعله استشراقا .

2- أسلوب من الفكر القائم على تمييز وجودي = انتروبولوجي ، ومعرفي = ابستمولوجي بين الشرق والغرب .

3- أسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه وامتلاك السيادة عليه ، وهو مذهب سياسي مورس إداريا على الشرق .(2)

ومع أن مصطلح الشرق / الرقعة ، يضم العالم العربي في آسيا وإفريقيا وصولا إلى الهند والصين ومناطق ما وراء البحار ، إلا أن الموضوع سيعنى بمعالجة ما يخص العرب والإسلام في المنطقة العربية ، أي ما اصطلح الاستعمار/ الاستشراق على تسميته شرقا أوسط .

        لقد كان في طليعة الذين قصدوا الشرق كموضوع للمعرفة ، وكميدان للنشاط العلمي ، ولا سيما في القرن التاسع عشر ، شخصيات غربية من الخاصة ( رحالة ومغامرون ومبشرون وجامعيون ورجال أعمال وعسكريون ولغويون وانتروبولوجيون ومؤرخو الحضارات وأركيولوجيون وموظفو الدوائر الحكومية …) وقد أسهم بعض هؤلاء في التعرف على المواقع المحتواة ، أو المرشحة للاحتواء ، وأضيف إليهم منذ أوائل القرن العشرين : التربويون ورجال المخابرات والمؤرخون الاقتصاديون ومتدربو الشركات وخبراء الأسواق التجارية والسياسية وذوو النوايا الطيبة من المهتمين بحوار الشرق والغرب ، وعلاقة المسيحية بالإسلام (3)

        تقترب البدايات الاستشراقية التمهيدية من أن تكون محاولات وأعمالا فردية يمتزج فيها العلم بإنتاج الصور الغرائبية والأساطير والخرافات عن عالم الشرق ، أما البداية الرسمية للاستشراق فيؤرخ لها اعتبارا من صدور ” قرار مجمع فيينا الكنسي ” عام 1312م ، بتأسيس عدد من كراسي الأستاذية في اللغات العربية واليوناينة والعبرية والسريانية في جامعات باريس وأكسفورد وبولونيا…

        وبدأ يزدهر بصورة جدية في فترة ما يسمى : عهد الإصلاح الديني في أوربا خلال القرن السادس عشر ، وقد سجلت الموجة الأولى من الانتشار الجدي للاستشراق تشكيل جمعيات استشراقية ( باتافا 1781 ، الجمعية الملكية الآسيوية بلندن 1843 ، الجمعية الآسيوية بباريس 1822 ، الجمعية الأمريكية الشرقية 1842 )

        وفي المرحلة الثانية ظهرت مؤتمرات المستشرقين التي انعقد أولها بباريس عام 1877 ، وتجاوز عددها حتى الآن ثلاثين مؤتمرا .(4)

            وعلى الرغم من أن الاستشراق يمتد بجذوره إلى ما يقرب من ألف عام مضت ، فإن مفهوم مستشرق orientalist لم يظهر في أوربا إلا في نهاية القرن الثامن عشر ، فقد ظهر أولا في إنجلترا عام 1779م وفي فرنسا 1799م ، وأدرج مفهوم الاستشراق في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام1838 م (5) .

        ثم عرف الاستشراق أوجه عبر تضخم مؤسساته ، وتعدد مناهجه ، وتنوع مشاربه وغاياته

ليبدأ بعد ذلك في الانحسار ، في شكله التقليدي

         1- انحسار الاستشراق التقليدي وظهور الاستشراق المعاصر :

أ  – انحسار الاستشراق التقليدي :

لقد عاش الاستشراق أزهى فتراته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين …وشهدت تلك الفترة جيل العمالقة من المستشرقين ، وأضخم الأعمال في مختلف ضروب المعرفة ، لكن الأوضاع بدأت تتبدل ، ففي عام 1973م عقد مؤتمر المستشرقين الدولي بباريس ليكون آخر مؤتمر دولي يحمل هذه التسمية ، فقد ألغي مصطلح “استشراق ” وأصبح التجمع يحمل اسم ” الجمعية الدولية للدراسات الإنسانية حول آسيا وإفريقيا ” ثم أصبح ” الجمعية الدولية للدراسات الآسيوية والشمال إفريقية ” ، وأصبحت مؤتمراته تحمل اسم ” مؤتمرات العلوم الإنسانية الخاصة بمناطق العالم الإسلامي “

ولعل من الأسباب التي أدت إلى إلغاء المصطلح :

       1- الحمولة السيئة التي دلت عليها كلمة استشراق بعد أن كثرت الكتابات الإسلامية وغير الإسلامية، المنتقدة لأعمال المستشرقين وسلوكهم الاستعماري والتجسسي والعنصري …

        2- لم يعد المستشرقون أنفسهم ينظرون إلى العالم الإسلامي بوصفه مصدرا للعلم والمعرفة، كما دلت التسمية في أصلها وفق المعاجم الغربية ( بعد أن استنزفوا مكتباته ، وهجَّروها وترجموا نفائسها وحققوا مخطوطاتها وطمسوا معارفها وغطوا آثار الجريمة ) .

        لقد أفاد الاستعمار من الاستشراق التقليدي ، الذي كان بمثابة دليل له في شعاب الشرق وأوديته ، بما قدمه إليه من معارف ، فالمعرفة – كما يقول الدكتور محمد البهي – تمنح القوة ، ومزيد من القوة يتطلب مزيدا من المعرفة ، فهناك باستمرار حركة جدلية بين المعلومات والسيطرة المتنامية ” (6)

إلا أن كثيرا من المستشرقين لم يسلموا بأفول نجم الاستشراق الاستعماري بجميع تبعاته ، فالشيء المهدد بالزوال كما يقول رودنسون ، هو سيطرة الدراسات الفيلولوجية ، فقد كان هناك اتجاه سائد في الحركة الاستشراقية لفترة تزيد عن قرن من الزمان ترتكز على التدريب الفيلولوجي بوصفه كافيا لحل جميع المشاكل الناشئة ضمن ميدان لغوي محدد (7)

بمثل هذه الملاحظات ، بدأ الاستشراق يعد نفسه للدور الجديد ، يقول أحد المستشرقين الألمان :” لقد آن الأوان كي يبتعد المستشرقون عن اللهجات العربية ويعدوا أنفسهم لتقبل الدور الجديد كطاقة فاعلة في خدمة العلوم الاجتماعية وكاحتياطيين للقيام بعملية الترجمة والشرح في ميادين العمل المختلفة “

ب- ظهور الاستشراق المعاصر :

لقد قام الاستشراق التقليدي بتغيير جلدته – موضوعا ومنهاجا –  ليتناسب مع المرحلة الجديدة… التي لها علاقة بقضايا العالم الإسلامي والتي لم تعد الفيلولوجيا وتحقيق النصوص التراثية والأدبية تفي بالطلب فيها ، وذلك بالتركيز على :

المناحي السياسية : نشأة الدول العربية الإسلامية ، وأنواع حكوماتها ، وسياساتها الداخلية والخارجية ، والعلاقات بين الحكومات وشعوبها …

الأوضاع الاقتصادية من حيث الثروات الطبيعية ، وبحث سبل الهيمنة عليها تصنيعا وتسويقا ، وإغراق أهلها بالديون …

الصحوة الإسلامية ، التي اعتبرها مزاحما قويا ، ومنافسا حقيقيا يحول وحده دون غيره دون العربدة في ديار المسلمين بالأزياء المختلفة …

توظيف تقنيات وأساليب جديدة في البحث والرصد ، مع استخدام المناهج السوسيولوجية والانتروبولوجية والسيكولوجية والإحصائية والتاريخية واللسانية ، وإعلان النزاهة والجدية والحياد…

وعلى الرغم من المحاولات الجدية المخلصة التي بذلها بعض الباحثين في العصور الحديثة للتحرر من المواقف التقليدية للكتاب المسيحيين عن الإسلام ، فإنهم – كما يقول المستشرق نورمان دانييل –   لم يتمكنوا من أن يتجردوا منها تجردا تاما كما يتوهمون “(8)

          وما تزال ” آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات عدد من العلماء المعاصرين ومستترة وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية ” على حد تعبير برناردلويس . (9)

        وفهم هذه الصليبية الجديدة في الاستشراق المعاصر ليس أمرا عسيرا ، ذلك أن جذور العداء العميقة الموغلة في العقلية الغربية ليس من السهل اجتثاثها ، فهناك أدلة كثيرة تشير إلى الروح العدائية القديمة ، ما تزال تنفث الحياة في كثير من الكتابات التي تمر تحت اللافتة الأكاديمية، ويتضح هذا أيضا في عرض الشئون العربية والإسلامية المعاصرة في وسائل الإعلام الغربية اليومية (10)

         مما سيرسم لاحقا ملامح الاستشراق الأمريكي ، ويطبعه بطابع خاص .

           2- الاستشراق الأمريكي ، النشأة والتوجه :

        يعتبر الاستشراق الأمريكي امتدادا واستمرارا للاستشراق الأوربي ، وارثا مجمل تصوراته الجاهزة عن العالم العربي والإسلامي ، وترجع أولى التفاتات أمريكا إلى الشرق إلى سنة 1810م عبر إرساليات التبشير التي تعد ” الجمعية التبشيرية الأمريكية ” أهم مؤسساتها .

لقد اتسعت أعمال هذه الجمعية اتساعا هائلا حتى بلغت اللجان التي شكلتها من الوطنيين في مناطق التبشير 568 لجنة اشترك فيها 73 ألف مواطن … وقد كانت هذه الجمعية تهتم بأمر التبشير في بلاد تركيا وسوريا وفلسطين ، لأنها لا ترغب في ترك البلاد التي كانت مهبطا للتوراة تحت سيطرة الإسلام .(11)

إلا أن الاستشراق الأمريكي بدأ عمليا بعد الحرب العالمية الثانية ، عندما وجدت أمريكا نفسها مضطرة لتحل محل بريطانيا في المشرق العربي ، يشير مايكلز كوبلاند ضابط المخابرات الأمريكي إلى أن بريطانيا حينما قررت التخلي عن مركزها في الشرق الأوسط ، طلبت من أمريكا أن تحل محلها (12)

وقد وجدت أمريكا رصيدها من معرفة الشرق الإسلامي ضئيلا جدا ، فحاولت الحكومة الفيدرالية استدراك هذا العجز، حيث أصدر مجلس الشيوخ مرسوما عام 1958م باسم ” مرسوم مجلس الدفاع القومي للتعليم ” كان له أثر كبير في تشجيع الاهتمام بالدراسات العربية والإسلامية ، وفي عام 1965م أصبحت اللغة العربية تدرس في خمسة عشر مركزا ، أنشئت بأموال قدمتها الحكومة الفيدرالية ، وتأسست عام 1959″ الرابطة الأمريكية لدراسة الشرق الأوسط “

وفي عام 1964-1965م بلغ عدد الجامعات الأمريكية التي تقدم برامج دراسات عليا حول الشرق الأوسط أكثر من ثمان وعشرين جامعة ، تحتوي برامجها على 850 مادة ، ويصل عدد الأساتذة العاملين بها إلى أكثر من 300 أستاذ . (13)

وقد أصدرت ” رابطة دراسات الشرق الأوسط ” كتاب المعلومات السنوي لعام1992 م ، ويضم بين دفتيه أسماء عدة آلاف من الباحثين في شئون الشرق الأوسط وفي شتى المجالات .

لقد خططت الولايات المتحدة لدورها الاستعماري الجديد بعناية، ووظفت الاستشراق ورسمت لذلك ما أسمته ” سياسة العلاقات الثقافية ” ، وقد أفصح مرتيمر جراف عن جانب هذه السياسة الثقافية قائلا : ” إن العملية الهائلة لتجميع المطبوعات المتميزة في لغات الشرق الأدنى الصادرة منذ 1900م وحتى اليوم ، والنظر فيها وفحصها ، إجراء يتعلق بالأمن القومي الأمريكي ، وهو من أجل فهم أمريكي أفضل للقوى التي تناوئ أو تنافس الفكرة الأمريكية ، وأهم هذه القوى … الإسلام ” (14)

ومنذ ذلك الحين تمحور النشاط الاستشراقي الأمريكي حول السبل التي تتيح للولايات المتحدة بسط هيمنتها على المنطقة العربية والعالم الإسلامي ، فأصبح كل ما يطلب إلى الاستشراق أن يؤديه، هو مساعدة المؤسسة الأمريكية على إنجاز تطلعاتها في الهيمنة على مقدرات الشرق ، وضمان الحماية الكاملة لإسرائيل .

3- طبيعة الاستشراق الأمريكي :

لقد كان الاستشراق الأمريكي على اتصال وثيق بالاستشراق البريطاني ، مما جعل خصائص الثاني تكاد تنتقل بكاملها إلى الأول ، مع تفرد الاستشراق الأمريكي بمجموعة من الخصائص التي حددت طبيعته سلبا وإيجابا،وقد تضمنت عددا كبيرا من المظاهر الإيجابية التي اتسمت بالحث العلمي الموضوعي في كثير من الحالات ، وقادها باحثون على قدر كبير من النزاهة العلمية . وأشير إلى أنني أفدت في هذا العنصر من البحث من المجهود الطيب الذي بذله الدكتور مازن مطبقاني – أستاذ الدراسات الاستشراقية –  في تشريح الاستشراق الأمريكي من خلال أطروحته ” الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي “، أو من خلال مقاله ” الاستشراق والقضايا المعاصرة “، أو من خلال موقع ” مركز المدينة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق ” على شبكة الإنترنيت ،  ويمكن إجمال خصائص الاستشراق الأمريكي  في النقط الآتية :

أ – استقطاب الطاقات البشرية لخدمة الأمن القومي عبر الاستشراق :

استقدمت الجامعات الأمريكية كثيرا من المستشرقين الإنجليز لدعم الدراسات العربية والإسلامية لديها ، وكان من هؤلاء هاملتون جب الذي استقدمته جامعة هارفرد ليؤسس قسم دراسات الشرق الأوسط ، كما استقدمت جامعة كاليفورنيا المستشرق جوستاف فون جرونباوم ، وقدمت دعوات لأساتذة زائرين كان من أبرزهم برنارد لويس .(15)

كما استعان الكونجريس الأمريكي بخبرات المستشرقين الذين عملوا في العالم الإسلامي ، لتقديم ثمرة خبراتهم له في جلسات خاصة ، وكان من بينهم مستشرقون يهود بصفتهم الأوربية لا اليهودية، وقد نشرت محاضر الجلسات في كتاب بلغت صفحاته 442 صفحة .

كما توسع الاستشراق الأمريكي في الاستعانة بالباحثين العرب ، ليس في مجال تدريس اللغة العربية فحسب ، بل في مختلف المجالات العلمية ، ولعل من أقدمهم :

  فيليب حتي : مؤسس قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون ورئيس هذا القسم وقد جاء إلى برنستون بتأثير من الرئيس ويلسون وصديقه بايارد دودج رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت، وكذلك بتأثير جمعيات تنصيرية .

– ومن هؤلاء أيضا : جورج حوراني ، وشارل عيساوي ، وجورج مقدسي ، وفوزي متري نجار ، وفضل الرحمن ، وكان رئيسا لقسم الدراسات الإسلامية  وعبد الله حمودي المغربي ، وحسن مدرسي الإيراني …(16) وقد تفاوتت آراؤهم حيث وجد من بينهم المنصف والمجاهر بالعداء.

ب- استمرار الأهداف والأنشطة التنصيرية :

تكاد معظم الدراسات العلمية التي أرخت للاستشراق تجمع على أنه نشأ في رحم الكنائس ، وترعرع في أحضان الأديرة النصرانية ، يقول الدكتور محمد البهي:” إن الحروب الصليبية تركت في نفوس الأوربيين ما تركت من آثار مرة و عميقة وجاءت حركة الإصلاح الديني ، فشعر المسيحيون الأوربيون بحاجات ضاغطة لإعادة النظر في شروح كتبهم الدينية لمحاولة تفهمها على أساس التطورات الجديدة التي تمخضت عنها حركة الإصلاح ، ومن هنا اتجهوا  إلى الدراسات العبرانية ، وهذه أدت بهم إلى الدراسات العربية فالإسلامية ، لأن الأخيرة كانت ضرورية لفهم الأولى ، وبمرور الزمن اتسع نطاق الدراسات الشرعية حتى شملت أديانا ولغات وثقافات أخرى . ومن جهة أخرى رغب المسيحيون في التبشير بدينهم بين المسلمين ، فأقبلوا على الاستشراق ليتسنى لهم تجهيز الدعاة وإرسالهم إلى العالم الإسلامي ، والتقت مصلحة المبشرين مع أهداف الاستعمار ، فمكن لهم واعتمد عليهم في بسط نفوذه في الشرق “(17)

ولهذا يمكن القول مع بوسوورث   Bosworth :” إن تاريخ الاستشراق في مراحله الأولى هو تاريخ للصراع بين العالم النصراني الغربي في القرون الوسطى والشرق الإسلامي على الصعيدين الديني والإديولوجي (18)

 وقد سبقت الإشارة إلى أن الاهتمام الأمريكي قد انصب منذ البداية على الحملات التبشيرية التي قذف بها إلى الشرق للتبشير بالمسيحية ،  مقتفيا آثار الاستشراق الأوروبي ، حيث أسست البعثة العربية سنة1889م التي حدد هدفها بتنصير الجزيرة العربية انطلاقا من الساحل ، واستمرت بالعمل حتى عام 1971م .

كما عقد في ولاية كولورادو ” مؤتمر أمريكا الشمالية لتنصير المسلمين”  في 15/10/1978 حضر ه أكثر من150 مندوبا من طائفة المسيحيين البروتستانت  يمثلون دولا وكنائس من جهات مختلفة ، وحتى تتضح الصورة سوف نلقي نظرة عجلى على أهم الموضوعات التي أثيرت في المؤتمر :

 الكنائس التعاونية الديناميكية في المجتمع الإسلامي .

 صدام القوة في تحويل المسلم عن دينه.

 محاولات نصرانية جديدة لتنصير المسلمين .

 تحليل مقاومة واستجابة الشعوب الإسلامية .

الصدام النصراني الإسلامي وكيف الحل ؟

الوضع الحالي لترجمات الإنجيل إلى لغات المسلمين .

شبكة المخيمات التبشيرية في البلاد الإسلامية .

استخدام الغذاء والصحة كعنصرين في تنصير المسلمين …(19)

كما اهتمت المؤسسات التبشيرية بالجانب الإعلامي ، حيث أصدرت عددا من المجلات التي تخدم أهدافها نذكر منها :

– مجلة ” جمعية الدراسات الشرقية ” أنشأها المستشرقون الأمريكيون بولاية أوهايو ، وكان لها بعض الفروع بأوربا وكندا .

– مجلة ” شئون الشرق الأوسط ” تصدر بامريكا ، ويحررها عدد من المستشرقين المعروفين بعدائهم للعرب والمسلمين .

  مجلة ” الشرق الأوسط ” …(20)

ولعل من أبرز المبشرين العاملين  :  الدكتور لايسنج ، وجيمس كانتين ، وصمويل زويمر ، وفيليب قليس …

يقول المستشرق ميدا يرل أحد أساتذة التاريخ الإسلامي في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة : ” ماذا يمكن أن يقال عن أعمال التبشير الأمريكي في الشرق الأدنى بعد قرن كامل من الدهر ؟ يمكننا أن نحشد إحصاءات هائلة تتعلق بملايين الدولارات ، وبألوف النفوس التي ضحت في هذا السبيل … إن نفرا من هؤلاء الرجال والنساء أمثال : سبرسن هملن ، ودانيال بلس ( أول رئيس للجامعة الأمريكية في بيروت ) وماري ميلر باتريك …كانوا علماء وضباط احتياط بين الشرق والغرب ، وكذلك كان نفر آخرون منهم معلمين كبارا وأطباء مرموقين يشترط فيهم طول الأناة والصبر ” (21)

ج – العناية الفائقة بالظاهرة الإسلامية :

يقول المستشرق ساذرن :” لقد كان الإسلام يمثل مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم النصراني في أوربا وأمريكا على حد سواء ” (22) وقد عبر ماكسيم رودنسون عن مثل هذا بقوله : ” كان المسلمون خطرا على الغرب قبل أن يصبحوا مشكلة ، كما كانوا في نفس الوقت عامل اهتزاز شديد في بناء الوحدة الروحية للغرب ، وأنموذجا حضاريا يجتاز بتفوقه وبحركته الإبداعية ، وقدرته الهائلة على الانفتاح والاستيعاب ، إذ أنه ، وفي مواجهة تقدم هذا النموذج عبّر مثقفوا  الغرب عن شعور عام بالاندهاش أمام الإسلام ، وبدا لهم وكأنه خطر على المسيحية “(23)

واعتبر في الحاضر عائقا حديديا في طريق بسط النفوذ ، لذلك أولته الدوائر الحكومية والاستشراقية عناية خاصة ، ونظرت إليه على أنه مزاحم قوي يجب اجتثاثه وتجفيف منابعه ، وبدأت حربها الإسقاطية بتحويل مصطلحات الأصولية والتطرف والإرهاب بحمولتها المسيحية اليهودية إلى الحركات الإسلامية ، عبر الماكينة المعرفية والإعلاميةالأمريكية .(24)

ولم يكتف الاستشراق الأمريكي بدراسة الإسلام وصلته بالتصوف كما فعل الاستشراق التقليدي ، بل انتقل إلى دراسة المجتمعات الإسلامية ذاتها دينيا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا …كما درس العلاقة بين الشعوب والمجتمعات الإسلامية والخلافات القائمة والكامنة فيها ، ومدى صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق كما ركز المستشرقون على ما أسموه بالإسلام السياسي والحركات الإسلامية ومناقشة برامجها وطموحاتها …

يشير أليسوا في كتابه ” اختفاء الهلال ” ، إلى أن الأمريكيين قد ورثوا عن أوربا المسيحية شبح الإسلام كدين ولد من طغيان ، يؤيد القمع الديني والسياسي  والجمود الاقتصادي ، وبناء على هذه الفرضية ، لم يهتم الأمريكيون بما إذا كان هذا الوصف للإسلام صحيحا أم لا ، ولكنهم أخذوا به لأنه مناسب لهم سياسيا (25)

ويكشف أليسوا أن استطلاعا للرأي أجراه معهد جالوب سنة 1994م – لمقارنة آراء الشعب الأمريكي وزعمائه الذين يتولون مراكز رفيعة – عن الإسلام أن شريحة من الأمريكيين تبلغ 36% قالت : إن توسع الأصولية الإسلامية يمثل خطرا بالغا على المصالح الحيوية الأمريكية ، وفي المقابل أوضح الاستطلاع أن الزعماء الأمريكيين أكثر ميلا من الجمهور لاعتبار الأصولية خطرا إذ أجاب 52%  بأنها تهدد المصالح الأمريكية .(26)

يقول ريجان الرئيس الأسبق لأمريكا : ” لا أعتقد أنكم تستطيعون المغالاة في تقدير أهمية ظهور الأصولية الإسلامية بالنسبة لبقية العالم في القرن المقبل ، خاصة إذا وضعت أشد عناصرها تعصبا – وهذا يبدو ممكنا – يدها على أسلحة نووية وكيماوية ، ووسائل إطلاقها ضد أعدائهم “

وقد أوحى تجار السياسة من المستشرقين للمؤسسات الأمريكية بالتوصيفات التالية  :

” لا بد من دعم أي جهة تسعى إلى محاربة هؤلاء الأصوليين الإسلاميين ، حتى لو تطلب ذلك دعم القمع ، وانتهاك حقوق الإنسان ، وإضعاف العملية الديمقراطية  والتحالف مع الشيوعيين بل حتى المنظمات الإرهابية …كذلك لا بد من اتباع سياسة نشطة قادرة على احتواء وإضعاف ما يمكن اعتباره مكاسب حققها الإسلام الأصولي …من خلال كفاح عسكري تقدمي ضد الإسلاميين لا اعتذار فيه ، وعدم المطالبة راهنا في الشرق الأوسط بالديموقراطية ، حتى تخمد حركة المد الإسلامي المزاحم ، أو يتم قمعها من قبل الأنظمة الشمولية المتسلطة المدعومة من أمريكا “(27)

          وهكذا فقد أخذ الاستشراق المعاصر على عاتقه مهمة التحرش ضد القوى المناوئة للفكرة الأمريكية ، وعلى رأس هذه القوى كما حددها جرافز ، الشيوعية والإسلام ، أما وأن الشيوعية اليوم قد اندحرت ، فإن الإسلام قد بقي ليمارس الاستشراق المعاصر ضده التشويه والتحريض!

          وما زالت هذه الصورة المشوهة المشحونة بالعداء تتنامى في الدراسات الاستشراقية ، وفي وسائل الإعلام بوجه عام ، وفي أمريكا بوجه خاص (28)

           د- العناية بالدراسات الإقليمية :

تعتبر الدراسات الإقليمية/ دراسة المناطق ، تطورا ومنحى جديدا في الدراسات الاستراتيجية الأمريكية ، فقد أصبح لهذه الدراسات أقسام خاصة بها في كثير من الجامعات الأمريكية ، وقد كتب مورو بيرجر دراسة قدمها لرابطة دراسات الشرق الأوسط ، نشرت سنة 1967 حدد فيها أهداف الاستشراق الأمريكي المعاصر ، كما حدد مجالات الدراسات الإقليمية  ، فمن ناحية الأهداف ،  ذكر أنها تتلخص في معرفة المنطقة وفهمها كما هي الآن ، بما في ذلك اختلافاتها الداخلية والمظاهر المشتركة للمؤسسات الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية والكيان السياسي ، والحياة الروحية والفكرية ، وتأثير صناعة النفط والسكان والتعليم ، وعلاقات الجماعات والقوميات … والتأكيد على الوضع الحالي لإعطاء الشعب الأمريكي نقطة البدء في تقرير ما يحتاج إلى معرفته(29)

ومن المستشرقين البارزين الذين ركزوا جهودهم على الدراسات الإقليمية :

– ليونارد بايندر ، صاحب كتاب ” دراسة المناطق : إعادة تقويم نقدية ” والذي يقول فيه: “إن دافعنا السياسي الأساسي ، هو تحقيق النفوذ في هذه المناطق  ومحاربة القوى المعادية ” ، ويشير مع غيره إلى عدم اعترافهم بالدراسات الأوربية التي كانت أهدافها إمبريالية فاضحة .

– مورو بيرجر ، الذي عمل أستاذا لعلم الاجتماع ودراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون  وكان رئيسا لرابطة دراسات الشرق الأوسط ، ومن أبرز أعماله : ” العالم العربي اليوم ” وتقرير  بعنوان:  ” دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا : التطور والاحتياجات ” .

– جون إسبوزيتو ، الذي عمل أستاذا للدراسات الدينية بكلية الصليب المقدس ، وقد اهتم بدور الإسلام في السياسة والمجتمع ، ومن مؤلفاته” الإسلام والسياسة ” و” الإسلام والتنمية ”

هنري كلمنت مور ، المتخصص في السياسة المقارنة بين الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، ونظم الحكم والتوسع السياسي ، والنظريات السياسية (30)

هـ – التركيز على العلوم الاجتماعية / بدل الفيلولوجيا :

تميز الاستشراق الأمريكي أيضا بالإفادة من العلوم المختلفة ، كعلم الاجتماع والعلوم السياسية وعلم الاقتصاد والجغرافيا وعلم الإنسان / الأنتروبولوجيا وغيرها …وتوظيفها في دراسة شعوب العالم العربي والإسلامي .

وتأتي خطورة العلوم الاجتماعية واستخدامها في الدراسات الاستشراقية في كونها تهدف إلى تقويض التركيبة الاجتماعية للمجتمعات الإسلامية من داخلها  خلافا للاستشراق التقليدي الذي اعتمد التشويه والتدليس منهجا له .

وقد شاركت جمعيات العلوم الاجتماعية في الاهتمام بهذا الجانب حيث قام ” مجلس بحوث العلوم الاجتماعية ” بتكوين لجنة الشرق الأدنى والشرق الأوسط بالتعاون مع مجلس الجمعيات العلمية  ومهمتها : بحث مشكلات واحتياجات البحث في كل الجوانب الخاصة بدراسة الشرق ، ومصادر البحث فيه ، والتدريب ومساندة العلماء الباحثين .(31)

وهكذا فإن المستشرق لا يبدأ بإتقان أسرار لغة الشرق ، بل يبدأ متدربا في العلوم الاجتماعية وينطلق لتطبيق علمه على الشرق، وهذا بالنحديد هو الإسهام الأمريكي في تاريخ الاستشراق .

ومن أشهر المستشرقين الذين اهتموا بالجانب الاجتماعي وبالدراسات الاجتماعية :

– برنارد لويس ، الذي كان مهتما بالمجتمعات الإسلامية وقضايا التحديث ، وبالفكر السياسي في الإسلام .

– كليفوردجيرتس ، الذي درس التطور الديني في أندونيسا والمغرب ، ونشر ذلك في كتابه” ملاحظة الإسلام “سعى فيه إلى تصوير المعايير المميزة لكل بلد  والمصير الذي يواجه المسلمين المتمسكين بالنصوص الدينية، ونتائج الاستعمار على المؤسسات الدينية وعقول الناس .

– وليام جوزيف أولس، الذي عمل باحثا مشاركا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدراسات الدولية بجامعة جورج تاون ، كما عمل محللا لشئون الشرق الأوسط في مكتبة الكونجرس سنة1982 م ، وفي عام1983 م  أصبح كبير المحللين للأمن الإقليمي في معهد الدراسات الاستراتيجية في كلية الحرب الأمريكية .

هرمان فريدريك أليتس ، الألماني الأصل ، حصل على الماجستير في الدراسات العربية والشرق أوسطية ، وعمل في الجيش الأمريكي ، وهو عضو في مجلس أمناء الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، وهو أيضا عضو في اللجنة الاستشارية لمركز سلطان بن قابوس في معهد الشرق الأوسط بواشنطن ، ومن مؤلفاته : الاعتبارات الأمنية في الخليج الفارسي “

 -مانفرد هالبن ، صاحب كتاب ” سياسات التغيير الاجتماعي في الشرق الأدنى وشمال إفريقيا ” ، وغير هؤلاء كثير .    

و‌-   الإهمال شبه الكلي لدراسة اللغة والآداب الشرقية :

لقد كان اهتمام الاستشراق الأمريكي بدراسة الأقاليم والاعتماد على الدراسات الاجتماعية على حساب الاهتمام بالدراسات الأدبية واللغوية ، وإن لم تخل جهودهم وجهود بعض مؤسساتهم من تقديم دراسات جادة وحصيفة في مجالي اللغة والأدب .

يقول ساسي الحاج عن الدراسات الاستراتيجية الأمريكية :” إنها تفتقر إلى دراسة معمقة ورصينة للآداب العربية ، واستتبع إهمال الأدب العربي ضعف الدراسات الأمريكية المتعلقة بضعف اللغة ، ذلك أن معظم الدراسات الحديثة التي يقوم المستشرقون الأمريكان بها في هذا المجال ، ضئيلة وسطحية ، ولا ترقى أبدا إلى أعمال المستشرقين الأوربيين الكبار ” (32)

فالمعرفة اللغوية التي احتاجها الاستشراق الأمريكي ، لم تخرج – في الغالب – عن مدارس اللغة في الجيش الأمريكي التي أسست خلال الحرب وبعدها على حد تعبير إدوارد سعيد ، كما أن الأمريكيين نظروا إلى اللغة على أنها أداة من أجل أهداف ليست قراءة النصوص من بينها ، فضلا عن النظرة الاستعلائية والعنصرية لسائر اللغات البشرية .

          وقد ترتب عن هذا الإهمال حاجة الإدارة الأمريكية دائما إلى مترجمين من العربية وإليها ، وسوء تأويل وفهم للمترجَم ( تحطم الطائرة المصرية ، شريط بلادن الأخير …

4- الاستشراق الأمريكي والخلفية التوراتية ( الصهيونية ) :

أولى المستشرقون المعاصرون في الولايات المتحدة عناية فائقة لدراسة الأوضاع القائمة في المنطقة العربية منذ قيام إسرائيل حتى الآن ، وذلك لتلبية احتياجات وتطلعات السياسة الأمريكية في هذه المنطقة، كما احتل الاهتمام بإسرائيل مكانة خاصة في الاستشراق الأمريكي المعاصر ، انطلاقا من أهمية الدور الوظيفي الذي تؤديه إسرائيل في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية ، حيث انصبت غالبية نشاطات المستشرقين الأمريكيين على مجالات الأبحاث الصراعية باتجاه تعزيز مواقع إسرائيل على جبهة المواجهة مع العرب .(33)

وأصبح هؤلاء المستشرقون ، ممن يطلق عليهم عادة ” خبراء شئون الشرق الأوسط ” يلجأون

إلى تقديم الخدمات المباشرة إلى صانعي القرار في التحالف الإسرائيلي الأمريكي ، وتزويدهم بالمادة البحثية المناسبة ، وتتمحور توجهات المستشرقين المعاصرين تجاه إسرائيل في :

– التركيز على أهمية إسرائيل الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة والغرب ، وتحريض المؤسسات الأمريكية على الاستجابة لحاجات إسرائيل العسكرية وتمكينها من وسائل التفوق على دول الجوار / الشرق .

– النظر إلى إسرائيل على أنها ” واحة الديموقراطية ” الوحيدة في المنطقة ، وإظهار التحالف الأمريكي الإسرائيلي كما لو أنه نابع من التزام أخلاقي تجاه دولة صديقة .

– التوحد مع إسرائيل ، سواء في السياسة الإسرائيلية العليا أو في المواقف والأحداث اليومية واللجوء في معظم الأحيان إلى البحث عن تبريرات للتوجهات والممارسات الإسرائيلية . 

– تبني الدعاوى الغيبية والذرائعية للصهيونية وكيانها ، والتماثل مع الطريقة الصهيونية الإسرائيلية في النظر إلى الأمة العربية والشعب الفلسطيني .

– الترويج لما يسمى ” المعجزة اليهودية ” في بناء الدولة ، وفي الصمود أمام التحديات ، وإضفاء صورة ذهنية مذهلة على إنجازات إسرائيل الذاتية !

                وفي الطرف الآخر ، وجد المستشرقون اليهود مناخا مناسبا للعمل ضمن الاستشراق الأمريكي ، وذلك لعدم وجود ذكريات الاضطهاد اليهودي في هذا المجتمع ، وثانيا لأن اليهود الصهاينة أدركوا أن مراكز البحث والجامعات الغربية وبخاصة الأمريكية ذات نفوذ في صناعة القرار السياسي ، لذلك عملوا على السيطرة على مراكز ومعاهد الدراسات الإسلامية والعربية والشرق أوسطية ، يوجهونها الوجهة التي تثبت أقدامهم في فلسطين المحتلة (34)

كما نجح اليهود في تهويد المسيحية الغربية ، بإقناع المسيحيين أنهم أقرب الناس إليهم ، لذلك تم الاتفاق بينهم على ضم التوراة إلى الإنجيل باعتبار أن التوراة هي كتاب العهد القديم ، والإنجيل هو كتاب العهد الجديد ، وسمي الاثنان بالكتاب المقدس ، وبذلك أفلح اليهود في جعل المسيحيين تبعا لهم يأتمرون بأمرهم في أمور الدين ، فسهل عليهم التسلط عليهم في أمور الدنيا (35)

وعلى المستوى العملي ترجم الأصوليون المسيحيون ، الأوربيون والأمريكيون عقيدتهم إلى عمل ، فشعروا أن من واجبهم لعب دور عملي نشيط في تحقيق النبوءات وتسريع المجيء الثاني للمسيح ، سعيا وراء إنشاء المملكة الألفية السعيدة التي تنبأ بها يوحنا العراف في رؤياه (36)

ولم يكن هذا الحماس المتجدد منحصرا فقط على المستوى الشعبي ، ولا على مستوى الكهنوت والدعاة ، ولكن تجاوزه إلى الزعماء السياسيين وكبار القادة والمستعمرين والرحالة والأكاديميين .

فقد كان الأمريكيون الأوائل في هجرتهم من أوربا إلى أمريكا يشبهون أنفسهم بقبائل بني إسرائيل التائهة ، ومن قبيل المجاز أو الاستعارة ، قارنوا المحيط الأطلسي بصحراء سيناء ، والأرض الجديدة بأرض كنعان الموعودة .(37)

ولما كلف كل من الرئيسين الأمريكيين السابقين جون آدمز و توماس جفرسون – ضمن لجنة لانتقاء شعار للأمة الأمريكية الجديدة ، أوصى كلاهما أن يكون الشعار : صورة النبي موسى وهو يقود اليهود الهاربين من فرعون مصر ، ورأى الديبلوماسي الأمريكي بنيامين فرانكلين أن يكون الشعار : صورة موسى وهو يشق البحر الأحمر بعصاه (38)

ولما كانت الخطة الإلهية عند الغرب تقتضي المجيء الثاني للمسيح ، فيلزم بالضرورة أن يسبقه ” الشعب المختار ” إلى فلسطين تمهيدا لعودته … فالمسيح لن يعود إلى فلسطين إلا إذا عاد اليهود إليها حسب اعتقاد الأصوليين المسيحيين ، وذلك لأن نهاية التاريخ التي تنبأ بها بولس منذ ألفي عام ترتكز أولا و آخرا  على إنشاء وطن يهودي في فلسطين يستطيع المسيح أن يعود إليه .

والأكثر عجبا أن المسيحية الغربية – مُوجَّهةً من قبل الاستشراق العنصري – لم تيئس حتى يومنا هذا من تحقق المجيء الثاني ، وحتى في أمريكا القرن العشرين نجد ما لا يقل عن 53% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية ، بمن فيهم الرئيس الأسبق ريجان ، يؤمنون بأن المجيء الثاني للمسيح ، ونهاية التاريخ على وشك الحدوث ، فلا غرابة والحالة هذه أن يتمكن هال ليندسي من بيع عشرين مليون نسخة من كتابه ( كوكب الأرض العظيم الفائت ) ، والذي حدد فيه النبوءة بنهاية التاريخ ، وجزم أن العالم حاليا يعيش في مناخ مهيأ لظهور عدو المسيح الأكبر الذي رمزت إليه الرؤيا برقم 666 – (رؤيا13/18)

كما أن الكثير من الأمريكيين الذين كانوا في السابق معادين لليهودية بحجة أن اليهود رفضوا المسيح وقتلوه – بزعمهم –  تحولوا إلى أنصار متحمسين لليهود ولإسرائيل ، نظرا للدور الذي يُفترض أن يقوم به اليهود في خطة المجيء الثاني وتحقق النبوءات .(39)

وأصبح من يعتبرون أنفسهم حجاجا إلى فلسطين من المسيحيين الأمريكيين ، يضعون على صدورهم لوحة صغيرة كتب عليها ” نحن نحبك يا إسرائيل لأن الله يحبك ”

والواضح أن الوعاظ الأصوليين من أمثال جيري فالويل نجحوا في أن يجعلوا من رؤيا يوحنا نوعا من التقديس لإسرائيل … فكان أن تكيفت السياسة الأمريكية نحو الشرق الأوسط عموما ونحو فلسطين خاصة إلى درجة أن جعلت مصير أمريكا مرتبطا بمصير إسرائيل ، وقد قال فالويل ما يشبه ذلك : ” لو أهملنا إسرائيل فلن يكترث بنا الله ” ، وباختصار فقد أصبحت إسرائيل هي العمود الفقري للعقيدة المسيحية الأصولية في الغرب (40)

والمخيف أن زعماء الأصولية يتغلغلون في السياسة الأمريكية لدرجة أن الواعظ الأصولي المشهور بات روبرتسون رشح نفسه للرئاسة الأمريكية عام 1988م ، والمشهور عن هؤلاء اعتقادهم بضرورة نشوب حرب نووية ، أو حرب عالمية ثالثة ، ما دامت تعجل بمجيء المسيح ، وقد صرح وزير الداخلية الأمريكي جيمس واط  أمام مجلس النواب قائلا : ” إنه باعتبار العودة الوشيكة للمسيح  ونهاية العالم ، فليس من مبرر للقلق على البيئة ، ولا التذمر من تخريب الموارد الطبيعية والبيئية ”

وكذلك كان تصور كل من الرؤساء الأمريكيين ( وودرو ولسون ، وهاري ثرومان ، وجيمي كارتر، ورونالد ريجان ) (41)

وقد كانت وما تزال تصريحات الإدارة الأمريكية تعبر عن انحياز غريب لإسرائيل لا يمكن فهمه إلا في إطار الخلفية الصهيونية التي استطاع الاستشراق الأمريكو- صهيوني أن يرسخها في الذهنية المسيحية ، وقبل ثلاث سنوات ، 1998م ، صرح مارتن إنديك مساعد وزير الخارجية الأمريكي قائلا : ” إن تعبير الوسيط المتوازن بين إسرائيل والعرب لا وجود له في القاموس السياسي الأمريكي ، لأن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل خاصة جدا ” (42)

          ونتيجة لهذه العلاقة الخاصة جدا ، الدينية جدا ،  تضع أمريكا تحت تصرف إسرائيل مواردها الاقتصادية الهائلة ، وآلتها الحربية الضخمة ، وتستعمل حقها في  نقض ما أجمع المجتمع الدولي على صوابه ، باستخدامها للفيتو ، ضد شعب أعزل أكثر من نصفه مهجَّر ..

           5- الاستشراق الأمريكو- صهيوني والعراق :  

          وصف العراق في الكتب اليهودية القديمة بأقبح الصفات ، ونعت يوحنا العراف بابل  في رؤياه ، بأنها ” أم العاهرات ونجاسات الأرض “  ومنذ ذلك ، أصبحت بابل ( العراق ) رمزا لكل رذيلة ، ولكل شيء بغيض عند اليهود وعند الأصوليين المسيحيين ، وما من شك في أن يوحنا العراف كان متشربا روح العهد القديم ، في النص الحاقد الذي يتحرق فيه شوقا لسحق رؤوس الأطفال البابليين بالحجارة ، فقد جاء في المزامير 137/8-9 ” طوبى لمن يجازيك يا بابل كما جازيتنا ، طوبى لمن يمسك أطفالك ويسحقهم على الصخور “

          ومنذ قام يوحنا بوصم بابل في رؤياه بـ”أم العاهرات ونجاسات الأرض ” أصبح العراق مرتبطا في أذهان اليهود والمسيحيين الأصوليين في الغرب بكل أوصاف الرذائل والفساد …

واليوم نجد في الغرب وفرة في الكتب التي تصرح بالعلاقة بين عراق اليوم وبين بابل أم العاهرات ونجاسات الأرض ، ومن أشهرها :

كتاب شارل تايلور ” صدَّام بابل العظيمة “

– وكتاب شارل داير ” صعود بابل ” ، الصادر عن ندوة دالاس اللاهوتية ، وعلى غلافه صورة صدام حسين .

وحتى بعد هزيمة العراق ، وقتل الملايين من أطفاله وسحقهم وتدمير بنيانه ، ما زال شارل تايلر يعتقد ” أن العراق قد يبرز من جديد بدور بابل أم العاهرات ، وأن صدام نفسه قد يعود إلى الظهور بصورة وحش الرؤيا عدو المسيح …(43)

فلا يستغرب أن تستمر العقوبات الصارمة على العراق ، لأنها قربة دينية يتقرب بها المسيحيون الأصوليون لليهود وللرب ، آملين أن تتحقق رؤيا يوحنا ! راكبين ظهر الولايات المتحدة المقتنعة برؤيا يوحنا والمترسخة في أذهان وأرواح المستشرقين الأمركيين على مدى القرون

وهكذا يقدم الاستشراق الأمريكي المعاصر وجها جديدا و دليلا آخر على التدني الذي وصل إليه الاستشراق عبر العجرفة والاستخفاف بالقوانين الدولية والأعراف ، ونهج سياسة الاستعلاء والفوقية ، وتنميط البشرية باتجاه معالم الرجل الأبيض . ومن أقرب الأمثلة وأبسطها ، تمكين الصهيونية وكيانها العنصري في فلسطين لمواصلة المسلسل الاستعماري الذي سنه الغرب في ديار الإسلام .

الإحــــالات :

 

 

 (1) إبراهيم عبد الكريم ، الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل ص 19- دار الجيل للنشر و الدراسات والأبحاث الفلسطينية – عمان – 1993

 (2) إدوارد سعيد – الاستشراق ص37 وما بعدها – ترجمة كمال أبو ديب – مؤسسة الأبحاث العربية – بيروت 1981 وإبراهيم عبد الكريم ص20

 (3) إبراهيم عبد الكريم ص20-21

 (4) محمد عبد الله الشرقاوي – الاستشراق : دراسة تحليلية تقويمية ص30

 (5) محمد حمدي زقزوق – الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ص21 – مؤسسة الرسالة – الطبعة الثانية 1985

 (6) محمد حمدي زقزوق 48

 (7) محمد حمدي زقزوق 52

 (8) محمد حمدي زقزوق 53- محمد عبد الله الشرقاوي ص12

 (9) محمد عزت إسماعيل الطهطاوي ص15

 (10) عبد اللطيف الطيباوي – المستشرقون الناطقون بالإنجليزية : دراسة نقدية ، و محمد عزت إسماعيل الطهطاوي ص53

 (11) محمد عزت إسماعيل الطهطاوي ص196-197

 (12) مازن مطبقاني ص51 ، و إبراهيم عبد الكريم ص49

 (13) إبراهيم عبد الكريم ص50 و مازن مطبقاني ص52

 (14) محمد عبد الله الشرقاوي ص15  ، وينظر : محمد عزت إسماعيل الطهطاوي ص14

 (15) مازن مطبقاني ص52

 (16) مازن مطبقاني ص

 (17) محمد البهي – المبشرون والمستشرقون وموقفهم من الإسلام ص125-126 – مجلة الفكر العربي – السنة الخامسة ن العدد32 ، أبريل 1983

 (18) محمد عزت إسماعيل الطهطاوي – التبشير والاستشراق : أحقاد وحملات ص54 ، الزهراء للإعلام العربي _ ط1- 1991      

 (19)  محمد عزت إسماعيل الطهطاوي 179

 (20) محمد عزت إسماعيل الطهطاوي 209

 (21) محمد عزت إسماعيل الطهطاوي 95

 (22) محمد حمدي زقزوق ص21

 (23) محمد عبد الله الشرقاوي ص36 – 32

مازن مطبقاني _ الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي ص31-32 الرياض

1995-

 (24)  ينظرhtt//www.islamweb.net/article.asp?article=6160

 (25) ينظر:htt//www.islamweb.net/article.asp?article=6160

     وينظر : شوقي أبو خليل : الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين

 (26) http://syriagate.com/nihadsiress/jaridah/mak-018.htm

 (27) ينظر في هذا السياق كتابا رسول محمد رسول : الغرب والإسلام قراءة في رؤى ما بعد الاستشراق ، وكتاب فواز جرس  أمريكا والإسلام السياسي : صراع حضارات أم تضارب مصالح ، فهما من الكتب التي تكشف عن خبايا السياسة الأمريكية تجاه عالم الإسلام ، وتفسر الكثير من المواقف الغامضة والغريبة للسياسة الأمريكية تجاه ما يجري في الشرق العربي الإسلامي .

 (28) مازن مطبقاني ص55

 (29) محمد عبد الله الشرقاوي ص11-12-54

 (30) مازن مطبقاني ص53- 56

 (31) مازن مطبقاني ص 58- 59  ، وينظر : رسول محمد رسول : الغرب والإسلام قراءة في رؤى ما بعد الاستشراق ص18 – دار الفارس للنشر والتوزيع ط1 سنة2001

 (32) مازن مطبقاني ص59-60-64

 (33) اعتمدت في هذا المبحث الأطروحة المتميزة للباحث إبراهيم عبد الكريم: الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل ، ينظر ص 50-51

 (34) محمد حمدي زقزوق ص49 و مازن مطبقاني 64

 (35)  محمد عزت إسماعيل الطهطاوي ص99

 (36) محمد فاروق فارس الزين – المسيحية والإسلام والاستشراق ص262 – دار الفكر ، دمشق ، سنة 2000م

 (37) محمد فاروق فارس الزين ص 263

 (38) محمد فاروق فارس الزين ص 265

 (39) محمد فاروق فارس الزين ص244

 (40) محمد فاروق فارس الزين ص 249

 (41) محمد فاروق فارس الزين ص 246 ، و إبراهيم عبد الكريم: الاستشراق وأبحاث      الصراع لدى إسرائيل ، ينظر ص 50

 (42) محمد فاروق فارس الزين ص 249-250

 (43) محمد فاروق فارس الزين ص 251

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الأستاذ الفاضل الدكتور محمد عبد الله المطوع

                              رئيس تحرير مجلة شؤون اجتماعية                          المحترم

 

 

تحية طيبة أما بعد ،،،

 

 

فقد سعدت برسالتكم عن مقالي : ” الاستشراق الأمريكي : طبيعته وخلفياته ”

التي تضمنت موافقة المحكمين على نشره ، وملاحظاتهم العلمية التي أخذتها بعين الاعتبار، وأنا إذ أقدم لكم البحث في صورته المعدلة ، أعتذر عن هذا التأخير الراجع إلى سفري خارج الإمارات .

 

        وإليكم ملخصا بالتعديلات التي أجريتها على البحث :

 

1- بخصوص التركيز على الجوانب الإيجابية لدى بعض المستشرقين فقد أضفت بعض العبارات التي تشير إلى أن بعض  الدراسات كانت تتسم بالعلمية والموضوعية والإنصاف في مقاربتها للظاهرة اللغوية والأدبية في مجال الاستشراق  ( ص4 – 5 – 6)

 

2- الإشارة إلى بعض الجهود التي أنصفت العرب لغة وحضارة وآدابا ، مع الإشارة إلى إمكانية الرجوع إلى مصادر أفاضت في ذلك .

 

3- الحكم على فضل الرحمن بأنه عدو للإسلام والمسلمين ، هو حكم للدكتور مازن مطبقاني وقد استغنيت عنه ، وأضفت ما يشعر بأن المستشرقين لم يكونوا على نمط واحد ، فقد كان منهم المنصف ، والمعتدل ، والجائر …

 

4- أضفت عبارات تشير إلى أن الاستشراق الأمريكي كان له اهتمام باللغة العربية وآدابها ، إلى جانب المجالات الدراسية الأخرى ، وإن غلب عليه دراسة الأقاليم وغيرها … هذا ما أقره كثير ممن لهم صلة بالاستشراق الأمريكي ، وهذا ما يصدقه الواقع .

 

    و تقبلوا فائق تقديري واحترامي ، سائلا الله تعالى لكم التوفيق وحسن السداد .

 

 

                                                                                    د/ رشيد بلحبيب

 

جامعة الإمارات – كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية

قسم اللغة العربية ( محمول 0507534615 )

 

 

مجلة شؤون اجتماعية

ص ب 3745

دولة الإمارات العربية المتحدة

الشارقة