الإبدال في العلوم الدقيقة وفي العلوم الإنسانية

– مدخل:

0-1- من البديهي أن موضوع تحديد المفاهيم يشكل أحد الانشغالات الأساسية في الفكر الحديث. وإذا كان المفهوم يلم عناصر وأجزاء تصور ما؛ من خلال عملية تراكم لتصورات تتحصل في الذهن في واقع الممارسة العلمية والفكرية، فإن المصطلح هو الذي يسمي المفهوم، ويخرجه إلى عالم التواصل اللغوي، في حقل من الحقول المعرفة الإنسانية. إلا أن هذه العملية التداولية كثيرا ما تشحن المصطلح بدلالات قد تكون مفارقة للمفهوم الذي وضع له في الأصل. من هنا تأكيد الكثير من النقاد والمحللين الابستيمولوجيين أهمية تحديد المصطلحات والمفاهيم: فمن الشروط التي وضعها “فريج”Frege للخطاب العلمي: أن تكون الأداة الاصطلاحية الموظفة محددة البنية، واضحة المعالم[1]. كما وضع “هايد كوثنر” (Heid Göthner) ثلاثة مقاييس لتحيد طبيعة الخطاب النقدي. يهمنا منها المقياس الثاني، الذي ركز فيه على: “دقة اللغة الاصطلاحية الواصفة”[2]. كما طرح الباحثون ضرورة تحديد الموضوع، في علاقته بالمفاهيم الأساسية: ف”الخطوة الأولى في كل بحث علمي هي تحديد الموضوع والتعرف على طبيعته”[3]. لذلك سنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على أحد المفاهيم المتداولة في الفكر المعاصر؛ يتعلق الأمر هنا بمفهوم “الإبدال” [4]paradigmالذي نظر له الفيلسوف الأمريكي “طوماس كون” Thomas Kuhn(1922- 1996).

0-2- وإذا كان هذا المفهوم قد تبلور أساسا ضمن الأعمال التنظيرية التي اشتغلت على تاريخ العلوم الدقيقة، فقد كانت له امتداداته في حقول معرفية إنسانية عديدة. أما الفكرة التي نروم إثباتها من خلال هذا المقال فهي أن المفهوم الذي عبر عنه “طوماس كون” ب “الإبدال”، قد عبر عنه أيضا مفكرون ونقاد وفلاسفة آخرون بصيغ، ومفاهيم أخرى في مجال العلوم الإنسانية المختلفة: مثل مفهوم النسق، مفهوم العقل المكوّْن، مفهوم الهابيتوس، مفهوم الرؤية للعالم، مفهوم روح العصر، مفهوم الإبيستيمي…إلخ. وعلى الرغم من وجود اختلافات أساسية بينها وبين مفهوم الإبدال -سواء من حيث الأسس الفلسفية التي تقوم عليها، أم من حيث الأدوات الإجرائية التي تتوسل بها- فإنه من المؤكد وجود نوع من “التشارك المفاهيمي” بينها وبين مفهوم الإبدال.

0-3- إن هذا المفهوم الذي نظر له “كون” يندرج ضمن تاريخ العلوم الطبيعية؛ ما سنقوم به عبارة عن تتبع وبحث استكشافي لمجموعة من المفاهيم التي تناولت هذا الموضوع، من داخل حقل العلوم الإنسانية: يمكن تتبع مفهوم الإبدال في النقد الأدبي الحديث من خلال الدراسات التي كانت معنية بالبحث عن التحولات المتعاقبة التي تطرأ على المادة الأدبية. كما يمكن البحث عن هذا المفهوم في علم الاجتماع من خلال النظريات التي ركزت على المخططات والانساق الفكرية التي غرسها المحيط الاجتماعي داخل الفرد في زمان ومكان معينين. كما سنتتبع مفهوم الإبدال في تاريخ الأفكار انطلاقا من بعض النظريات التي ركزت على الشروط القبلية التي تنظم المعارف والمفاهيم وطرق التفكير في عصر من العصور.

1- الإبدال في العلوم الدقيقة:

1-1- شروط الإمكان:

ظهر مفهوم الإبدال في صيغته التنظيرية المتكاملة في كتاب “طوماس كون” بنية الثورات العلمية[5]، سنة 1962. لقد كان الفكر الغربي -قبل هذا التاريخ- يعتبر الفرد مبدأ النظر والعمل. وذلك بعد أن تأسست الثقافة الفردية في الغرب، في كتابات توماس هوبز T.Hobles (1588-1679م)، وجون لوك J.Locke (1632-1704م)، و(جان جاك روسو J .J.Rousseau (1712-1778م)، وغيرهم من الفلاسفة الذين نظروا لمفهوم “العقد الاجتماعي”؛ الذي أصبح فيه الفرد صانعا للمجتمع المدني وللدولة على السواء؛ مما سيرسخ مفهوم الحرية الفردية، كقيمة اجتماعية، إبان عصر النهضة بعد انهيار الإقطاع، ونشوء الطبقة البرجوازية. على النقيض من هذا النوع من التفكير، يبرز “طوماس كون” أثر العوامل الاجتماعية والنفسية في تفكير العلماء؛ بحيث تكون النظريات العلمية وليدة هذه العوامل والمؤثرات، أكثر مما هي وليدة تجارب وملاحظات يقوم بها العالم. إن العلم لا يتغير –من منظور “طوماس كون”- بواسطة فرد بحد ذاته، بل بواسطة متحد من العلماء، أي مجموعة من العلماء الذين يشتركون في تقاليد وقواعد مستمدة من نظرة واحدة إلى العالم. من هنا يؤكد “طوماس كون” أن الإبدال ليس فرديا؛ وإنما هو جماعي.

إن الفكرة الأساس التي يقوم عليها مفهوم “الإبدال” عند “طوماس كون” هي أن ممارسة البحث العلمي مشروطة بمجموعة من الأعراف الذهنية، والالتزامات السلوكية، التي تخضع لها الجماعة العلمية التي ينتمي إليها الباحث. أن العلماء والباحثين -في مجال العلوم الدقيقة- يمارسون عملية البحث العلمي، وهم مؤطرون ضمن جماعات ومؤسسات تحكمها قوانين معنوية ومذهبية معينة. تفرض هذه القيم معاييرها الخاصة على الأطراف الفاعلة في الجماعة العلمية؛ بحيث يشتغل في ضوئها العلماء في بناء النظريات العلمية، وفي تأكيد المواقف من النظريات الأخرى، سواء أكان ذلك في الجامعة، أم في المختبر، أم في النادي العلمي، أم في غيرها من المؤسسات، والمراكز، والمحاضن العلمية التي تحتضن الباحث.

1-2-الأصول:

قبل الحديث المفصل عن مفهوم “الإبدال” عند “طوماس كون”، نقف عند مفاهيم أخرى تحمل هذا المضمون الدلالي نفسه:

فقد تحدث “ألكونا” Y.Elkana عن “ظاهرة الاكتشافات المتزامنة”؛ وبين أن الاكتشافات العلمية الكبرى تنبثق عن خلفية فكرية مشتركة، يتقاسمها باحثون من الحقل العلمي نفسه. لذلك فهم يطرحون فرضيات متقاربة، تخضع للبحث والتحليل والاختبار والتعديل.

كما وقف “لودفيك فلك” Ludwisk Fleck عند ما يسميه “أسلوب التفكير” للدلالة على الأفكار التي تتقاسمها جماعة علمية معينة. إن أسلوب التفكير الذي يتم التعبير من خلاله عن النظريات العلمية هو إنشاء جماعي، وليس شأنا فرديا.

أيضا اهتم “مايكل بولاني” “Michael Polanyi بما سماه “المناخ الفكري المتميز”. إذ في كل فترة تسود – في نظر بولاني- رؤية علمية يمارس العلماء من خلالها البحث. كما تسود فرضيات بأن كل معطى علمي لا يساير الرؤية العلمية السائدة لا يمكن إلا أن يكون خاطئا. لذلك ينبغي استبعاد المعطى المذكور، أملا في أن يكون هذا المعطى غير صحيح.

كما أن “ستيفن طولمين”Stephen Toulmin أكد أهمية “المناخ الفكري” في تأطير البحث، وتوجيه الأفكار وتقديم الفرضيات. لذلك يرى أنه من الضروري – في دراسة تاريخ البحث العلمي- البحث عن الإبدالات التي تستند إليها جماعة العلماء لجعل الطبيعة قابلة للفهم. إن العلم لا يتقدم إلى الأمام بتقديم أفكار وملاحظات جديدة، فحسب، وإنما بإعطاء دلالات معينة لهذه الأفكار. لذلك فإن نتائج البحث العلمي تنطبع بالمناخ الفكري الذي يسود في المؤسسات العلمية.

تحدث “جرالد هولتن” Gerald Holton أيضا عما يسميه “الافتراضات العلمية” أو”الاستلزامات التيمتية” التي تؤثر في مسار العلوم. إن الفاعلية العقلية للعالم لا تشتغل في فراغ، وإنما تكون مسنودة بالخلفية الفكرية التي تؤطر عملية التفكير: على مستوى السببية، والانتظام، وقابلية الطبيعة للمعرفة العقلية…. وغير ذلك من الأفكار والفرضيات التي تطبع مسار البحث من البداية إلى النهاية.[6] 

1-3-الامتدادات:

لكن، يبقى العالم الأمريكي “طوماس كون” هو الذي أفرد لمفهوم “الإبدال” حيزا خاصا؛ من الناحية النظرية والتطبيقية. إلى درجة أن اسم “طوماس كون” عادة ما يقترن بهذا المفهوم، والعكس صحيح. يعني “كون” بهذا المفهوم: مجموع المعتقدات والقيم المتعارف عليها والتقنيات المشتركة بين أعضاء جماعة معينة، والتي تستعمل كأساس لحل الألغاز المتبقية في نطاق البحث العلمي. لذلك يرى “كون” أن التقدم في البحث العلمي لا يسير بشكل متواز مع التنظير. إذ إن التقدم العلمي ليس مجرد تجميع للحقائق فحسب، بل هو عملية تبرز في التغيير النوعي في بنية الأنساق النظرية. فإذا كان هدفنا هو الوصول إلى خلاصات هامة تتجاوز ما هو متعارف عليه فلا يمكن تحقيق ذلك بالاعتماد على الجانب التجريبي دون ضبط للجانب التنظيري، وإلا باتت بنية الأنساق النظرية جامدة وفقيرة، مثلما هو الحال في علم الاجتماع الأمريكي الذي يفتقد إلى الأسس النظرية في تفسير الظواهر الاجتماعية، وفي الربط بين خيوط الظاهرة.

لقد ظهر مفهوم “الإبدال” عند “كون” بشكل أساس في كتابه “بنية الثورات العلمية”، إذ فيه يخضع مفهوم “البارادايم” لتأطير نظري عميق ودقيق. لكن الملاحظ أن “كون” استعمل – في كتب سابقة- مفاهيم أخرى، تحمل المضمون الدلالي للبارادايم. من بين هذه المفاهيم: مفهوم “الإطار المفهومي”، و”الوسط الفكري الأوسع”، و”المناخ الفكري الأوسع”….إلخ.

1-4-الإبدال عند طوماس كون: الماهية والخصائص

يمكن تدقيق أهم خصائص الإبدال عند “كون” بالطريقة التالية:

– الإبدال ليس فرديا؛ وإنما هو جماعي، يمكن اعتبار تصور “كون” هنا تقدما في مجال التفكير الأوروبي والغربي على السواء. لقد كان هذا الفكر يعتبر الفرد مبدأ النظر والعمل. وذلك بعد أن تأسست الثقافة الفردية في الغرب، في كتابات “ج. لوك” و”هوبز” عن العقد الاجتماعي، الذي أصبح فيه الفرد صانعا للمجتمع المدني وللدولة على السواء.

– ليس الإبدال واقعيا على نحو مطلق؛ إذ ليس الكون هو المرجع الأخير والمطلق الذي تقاس إليه النظريات دائما.

– ليس الإبدال نظاما تراكميا من المعارف الجزئية كما هو الحال بالنسبة للرأسمال مثلا، ذلك أن العلم ليس خطا متصلا مؤلفا من مراحل وأجزاء وإنجازات لا انقطاع بينها.

-لا يتغير العلم بواسطة فرد بحد ذاته، بل بواسطة متحد من العلماء، أي مجموعة من العلماء الذين يشتركون في تقاليد وقواعد مستمدة من نظرة واحدة إلى العالم.

– تتحقق بداية التغير في العلم بحصول نظرة جديدة إلى العالم.

– يتحقق التطور العلمي عبر ثورات علمية متلاحقة، ولكل ثورة نموذجها المعرفي الخاص، المستمد من نظرة جديدة إلى العالم، والمتجسد في الحقل المعرفي لمتحد العلماء.

– يؤكد “كون” الطابع التاريخي لمفهوم الإبدال، إذ ينشأ عن الإحساس عند العلماء العاملين في مجال البحث العلمي بوجود أزمات. وتحدث الأزمة عندما يفاجأ هؤلاء العلماء بظاهرة غير متوقع ظهورها، ولا يقدر العمل العادي على شرحها. هنا يحصل انقسام المتحد العلمي إلى فئتين: يتشبث أولهما بالإبدال القائم، في حين تتطلع الفئة الثانية إلى إبدال جديد، ويكون الحاصل ثورة علمية جديدة[7].

إن تاريخ العلم عند كون يسير على هذه الصورة: تصدر نظرية علمية ما وتحظى بقبول المختصين شيئا فشيئا، حتى تتحول إلى شبكة متكاملة من النظريات والتطبيقات والأدوات التي أصبحت تعطي الجواب الحاسم في مجالها، ويصبح الغالبية من العلماء يفكرون من خلالها، وينشغلون في داخلها. هكذا تصبح النظرية في هذه الحالة “إبدالا”، أي نموذجا للاحتذاء داخل الجماعة من العلماء، وإلا يتم استبعادهم وتجاهلهم. تستمر الأمور على هذه الحال حتى يبدأ هذا الإبدال في التأزم حين يصبح عاجزا عن الإجابة على أسئلة معينة. في البداية يتم الالتفاف على هذه الأسئلة من أجل الإبقاء على الإبدال. لكن، مع ظهور باحثين جدد، ومع تزايد الأسئلة تحين الثورة العلمية التي تبدأ بتصورات ونظريات خارج إطار الإبدال السابق بل ومعارضة له، وتحمل تصورا للكون والمجال يختلف عن التصور السابق، وبهذا يتكون إبدال جديد… وهكذا. وتسمى المرحلة التي يتعثر فيها بناء النظرية الجديدة “مرحلة ما قبل الإبدال”. كما تسمى أيضا “مرحلة ما قبل العلمية”. عندما يتشكل نظام معرفي جديد، فإن هذا يعني تحقق “تحول الإبدال”. يستعمل “كون” أحيانا مصطلحات أخرى مثل الثورة العلمية.

هناك أمثلة كثيرة للتدليل على “تحول الإبدال”، أو الثورة العلمية بالمعنى الذي استعمله كون، منها ما يلي:

– التحول من الرؤية البطلمية ( نسبة إلى بطليموس ) للكون ، إلى الرؤية الكوبرنيكية (نسبة إلى كوبرنيكوس).

– تحويل الفيزياء الكلاسيكية على يد نيوتن إلى رؤية ميكانيكية متماسكة للعالم.

– التحول من فيزياء نيوتن إلى نسبية آينشتاين.

– ظهور نظرية داروين في التطور عبر الاصطفاء الطبيعي، بدلا عن رؤية “لامارك” التي ترى وراثة الصفات المكتسبة.

لقد كان مفهوم التطور في العلوم الطبيعية خاضعا لتصور آخر قائم على “الضرورة العقلانية”: بمعنى أن الانتقال من نظرية علمية إلى أخرى يتم بالضرورة نتيجة لاكتشاف معطيات جديدة. إن التطور العلمي من منظور هذا الاتجاه قائم على فعالية منطقية ومتعالية غير خاضعة للمؤثرات السوسيولوجية والثقافية والمؤسسية. وفقا لكارل بوبر-مثلا- فإن اكتشاف خطأ النظرية العلمية السابقة، يكون أساسا لظهور النظرية العلمية الجديدة. إن تحول النظريات العلمية هنا يخضع لمقولات “الصدق”، و”الحقيقة”، ويعتمد أساسا على الممارسات التحليلية القائمة على “الاستنباط”، و”الاستقراء”، و”التحقق”. كما يتطور العلم أيضا وفق فكرة التقدم “التراكمي المتصل”.

في حين ينطلق “كون” من تصور مخالف؛ فقد جاء بتحليل ينظر إلى العلم كفاعلية لأفراد مؤطرين ضمن “مؤسسة علمية”، خاضعة لالتزامات مذهبية وقوانين مؤسسية. لذلك فإن كون يهون من دور المنطق الصوري، والتحليل العقلاني في نمو المعرفة العلمية. إن هذا النوع من النمو يتحقق من خلال جملة من الشروط التي تحكم السياق الثقافي العام الذي تشتغل فيه الجماعة العلمية؛ هذا السياق الثقافي العام هو الذي يشرط عمليات البناء الاستدلالي من حيث أدوات التجريب، وإجراءات القياس، وطريقة استعمال الآلات، وآليات المراقبة، وتنظيم النتائج…إلخ.

2-الإبدال في العلوم الإنسانية:

حينما نريد البحث في العلوم الإنسانية عن تصورات ومفاهيم قريبة مما عبر عنه “طوماس كون” بالإبدال يمكن أن نجد نظريات كثيرة. لذلك سنحاول البحث في بعض حقول المعرفة الإنسانية عن هذه التصورات والمفاهيم. لا ندعي أن هذه التصورات والمفاهيم مترادفة؛ فهي متباينة، بل قد تكون أحيانا متضاربة، سواء على مستوى أطرها المرجعية الفلسفية، أم على مستوى وسائلها الإجرائية. لكننا سنعتمد هنا على ما يسمى مبدأ “الاشتراك المفهومي”؛ بمعنى أن هذه المفاهيم -على اختلافها – تشترك في بعض الجوانب الدلالية التي سنقف عندها.

2-1- النقد الأدبي:

يمكن تتبع مفهوم الإبدال في النقد الأدبي الحديث من خلال الدراسات التي كانت معنية بالبحث عن التحولات المتعاقبة التي تطرأ على المادة الأدبية. تكون هذه التحولات مرتبطة بقيم معنوية خاصة، تؤطر تاريخ الأدب بطريقة غير مباشرة. أشير هنا تحديدا إلى ثلاثة مفاهيم:

– مفهوم المهيمن في نظرية الشكلانية الروسية.

– مفهوم الرؤية للعالم في نظرية البنيوية التكوينية.

– مفهوم “أفق الانتظار” في نظرية التلقي.

2-1-1- نبدأ ب “مفهوم المهيمن” la dominante: من المعروف أن الشكلانيين الروس قدموا تصورا جديدا لمفهوم تاريخ الأدب. وهو تصور يتجاوز المناهج الكلاسيكية التي كانت سائدة في تاريخ الأدب، التي كان يغلب عليها الطابع الإخباري أونوادري أوالحدثيHistoire anecdotique événementielle[8]؛ من حيث الانشغال بالأخبار والوقائع المرتبطة بالكتاب، وأخبارهم الفردية، وعلاقاتهم العائلية، وصداقاتهم، ومعارفهم. في مقابل هذا النوع من التأريخ، دعا الشكلانيون الروس إلى الاهتمام بتاريخ الأشكال الفنية، مثل القواعد البلاغية، والتقنيات السردية، والبنيات الشعرية..إلخ. في هذا السياق سيسعى الشكلانيون إلى البحث عن العنصر المهيمن على النظرية الأدبية في كل عصر من العصور. على نحو تغدو معه الأشكال الأدبية متغيرة بتغير العنصر المهيمن، ويغدو معه تاريخ الأدب “تاريخا للمهيمنات في كل عصر من العصور”. وقد ذكر “ياكبسون” أن المقومات الفنية أو الأشكال الإنشائية تحتفظ بنفس المركز في كل النصوص الفنية، فالعناصر “التي كانت في الأصل ثانوية، في إطار مجموع معين من القواعد الإنشائية العامة –تغدو على العكس- أساسية في المقام الأول. وخلافا لذلك، فالعناصر التي كانت، في الأصل مهيمنة لا تعود لها سوى أهمية صغرى فتغدو اختيارية… إن سُلَّمية الأنساق الفنية تتبدل في إطار نوع إنشائي معين، فيؤثر هذا التبدل في سلمية الأنواع الإنشائية أو في الوقت نفسه، في توزيع الأنساق الفنية فيما بين أنواع مختلفة”[9]. لن نطيل في الوقوف عند التنظيرات المختلفة التي قدمها الشكلانيون الروس لهذا المفهوم، وهي تنظيرات قدمها على الخصوص كل من الناقدين الشكلانيين “ياكبسون” و”إيخنباوم”.

2-1-2- ننتقل إلى مفهوم نقدي آخر، يحمل دلالات قريبة من “الإبدال” كما نظر له “طوماس كون”. يتعلق الأمر بمفهوم “الرؤية للعالم” كما بلورتها التنظيرات التي قدمت ضمن المنهج البنيوي التكويني”، مع الناقد الفرنسي “لوسيان غولدمان” Lucien Goldmannm على الخصوص. يرى “غولدمان” أن الأعمال الأدبية، وكذا الفلسفية تحمل رؤية للعالم. ويعني بهذه الرؤية مجموع الأفكار والمشاعر والإحساسات التي تجمع بين أعضاء جماعة ما، وتجعلها في تعارض مع الجماعات الأخرى[10]. نشير هنا إلى أن “غولدمان” كان قد استمد هذا المفهوم من الناقد المجري “جورج لوكا تش”، الذي سبق له أن عبر عن هذا التصور ب “المفهوم التاريخي والفلسفي”[11]. وقد أطر غولدمان هذه المقولة تأطيرا نظريا وإجرائيا جديدا.

يشير “غولدمان” إلى أن هذه الرؤية تتكون أصلا في وعي الجماعة الاجتماعية. إذ لا يمكن لهذه الرؤية أن تنتج “إلا عن النشاط المشترك لعدد مهم من الأفراد الموجودين في وضعية متماثلة، أي من الأفراد الذين يشكلون زمرة اجتماعية ذات امتياز والذين عاشوا لوقت طويل وبطريقة مكثفة مجموعة من المشاكل وجدوا في البحث عن حل ذي دلالة لها”[12].

وقد قدم “لوسيان غولدمان” من خلال كتاباته نماذج تطبيقية لهذا المفهوم، ففي كتابه “الإله الخفي” le Dieu caché[13] ـ مثلا- يكشف عن رؤية كانت مهيمنة على مسرحيات الكاتب المسرحي الفرنسي “راسين”، وكذا كتابات الفيلسوف والمفكر الديني “بليز باسكال”. وقد سمى هذه الرؤية “الرؤية المأساوية:

لقد كان كل من “راسين” و”باسكال”يصدران ـحسب غولدمان- عن رؤية تشاؤمية قاسية ميزت الحركة الدينية المعروفة في القرن السابع عشر في فرنسا باسم “الجانسينية” Le Jansénisme. والمعروف عن هذين الكاتبين أنهما كانا يعتنقان هذا المذهب الصارم، لذلك هيمنت هذه الرؤية على الكتابات الإبداعية والفلسفية للكاتبين السابقين.

يتم تحديد “الرؤية للعالم” في الأعمال الإبداعية في إطار إحدى الخطوات التي يرتكز عليها المنهج البنيوي التكويني، التي اصطلح عليها بـ “الفهم والتفسير”. يقول غولدمان:

“إن الفهم مسألة تتعلق بالتماسك الباطني للنص وهو يفترض أن نتناول النص حرفيا، كل النص ولا شيء سوى النص، وأن نبحث داخله عن بنية شاملة ذات دلالة، أما التفسير فمسألة تتعلق بالبحث عن الذات الفردية أو الجماعية […] التي تمتلك البنية الذهنية المنتظمة للإنتاج الأدبي بالنسبة إليها طابعا وظيفيا”[14].

إن تحليل العمل ينبغي أن يتوجه-في مرحلة الفهم- إلى الكشف عن البنية الداخلية للعمل المدروس، وذلك من أجل استخلاص البنية الدالة المحايثة لهذا العمل. وبعد ذلك يتم الانتقال إلى المرحلة الثانية، مرحلة التفسير، وذلك من خلال التركيز على الجوانب المفسرة لحدوث العمل المدروس. أي محاولة إدماج البنية المحايثة ـ باعتبارها عنصرا تكوينيا ووظيفيا- في بنية أوسع، تتضمنها مباشرة وتساعد على معرفة أصول تكون ذلك الإنتاج.

ويتوجب على المحلل أن لا ينتقل من الفهم إلى التفسير إلا بعد أن يكون قد استقصى البنيات الداخلية للنص، واستخلص مجموع الأنساق المتبنية فيه. ولا ينبغي أن يغيب عن ذهن المحلل أن الفهم يكون دائما محايثا للنص، عكس التفسير الذي يشمل الجوانب الخارجية (التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسيكولوجية…الخ. ).

هكذا أنجز غولدمان دراسته لأعمال “مالرو” من خلال خطوتين متكاملتين: قام في أولاهما بتحليل ووصف الأعمال من الداخل، من خلال الكشف عن العناصر والعلاقات المتحكمة فيها، وذلك في نطاق “الفهم”. ثم قام -بعد ذلك- بربط البنى الجمالية للأعمال الفنية بالبنى الذهنية التي تشكل الوعي الجماعي، خاصة ما له علاقة بأزمة القيم الفردية، الناتجة عن التحولات التي عرفتها المجتمعات الرأسمالية، وهذا في نطاق عملية “التفسير”.

اعتمد غولدمان الخطوات نفسها في دراسته لمسرحيات “راسين” و”أفكار” باسكال: فبعد تحديد الرؤية للعالم المتمثلة هنا في ما يسميه “الرؤية المأساوية “، عمد إلى تفسير هذه الرؤية من خلال عدة مستويات: المستـــوى الديني (المتعلــق بالحركــــة الجنسينيـة Le Jansénisme )، المستوى التاريخي (ظهور نبالة الرداء La noblesse de robe في القرن 17)، والمستوى الاجتماعي (العلاقات الاجتماعية في المجتمع الفرنسي في القرن 17)، والمستوى الفكري (الجانسينية في “أفكار” باسكال).

2-1-3- دائما في إطار النقد الأدبي ننتقل من الرؤية للعالم إلى مفهوم آخر، أرى أن له حمولة دلالية قريبة مما رأيناه في ما يتعلق بالإبدال، وهو مفهوم “أفق الانتظار” Horizon d’Attente، كما تبلور ضمن تنظيرات نظرية جمالية التلقي في ألمانيا. فإذا كان “لوسيان غولدمان” يتحدث عن الرؤية للعالم التي يصدر عنه المؤلف، أو الكاتب، أوالفيلسوف، فإن الناقد الألماني “هانس روبير ياوس” H. R. Yauss قد تحدث عن الرؤية للعالم التي تحكم القارئ في تعامله مع النصوص الأدبية. وقد سمى هذه الرؤية “أفق انتظار”[15]Horizon d’Attente. وأشير هنا إلى ملاحظة مهمة، وهي أن “ياوس” كان صريحا في إثبات علاقته ب “توماس كون” صاحب مفهوم الإبدال. بمعنى أن ما نظر له “توماس كون” في إطار العلوم الطبيعية، هو ما حاول “ياوس” إثباته على مستوى النظرية الأدبية. فبين أن القراء في عصر من العصور، وفي سياق حضاري معين يصدرون في استقبالهم للأعمال الأدبية عن تصور معين أو عن رؤية معينة سماه –كما ذكرنا سابقا- “أفق الانتظار”. يتشكل هذا الأفق من ثلاثة عناصر أساسية:

ـ التجربة السابقة للجمهور مع الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل.

ـ الأشكال والموضوعات التي يفترض وجودها في هذا العمل.

ـ التعارض بين اللغة الشعرية واللغة العملية langage poétique et langage pratique ، وبين العالم الخيالي و ا لواقع اليومي[16].

هذا الأفق لا يمكن أن يسود إلى الأبد، فقد يحدث ما يسميه ياوس “تحول الأفق” changement d’horizon؛ يحدث هذا التحول نتيجة لما سماه “ياوس” “الانزياح الجمالي “l’ écart esthétique ، يعني ذلك وجود أعمال تخرج عن “أفق الانتظار” السائد؛[17] مما سيؤدي إلى “تحول في أفق الانتظار” كما ذكرنا. يذكرنا هذا التمييز بالمصطلحات التي وظفها “طوماس كون” للتمييز بين مراحل الإبدال: فقد سمى المرحلة التي يتعثر فيها بناء النظرية الجديدة “مرحلة ما قبل الإبدال”. كما سماها أيضا “مرحلة ما قبل العلمية”. أما المرحلة التي يتشكل فيها النظام المعرفي الجديد، فيسميها مرحلة “تحقق تحول الإبدال”.

2-2- التاريخ: 

أيضا يمكن تتبع مفهوم الإبدال في الفكر الاجتماعي الذي كان يبحث عن التحقيبات التاريخية في علاقتها بالأفكار والنظم السائدة في كل مرحلة. من هنا كان هناك سعي إلى الكشف عن الكلي والشمولي في المسار التاريخي البشري:

2_2-1- من المناسب الإشارة هنا إلى أن الإرهاصات الأولى لهذا النوع من التفكير ظهرت مع ابن خلدون، ونظريته حول “الدورات التاريخية المتعاقبة”؛ وهي النظرية التي تمثل جوهر فكره:

“فالدولة في الغالب لا تعدوا أعمار ثلاثة أجيال، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسيط، فيكون أربعين، الذي هو انتهاء النمو، أو النشوء إلى غايته. قال تعالى: حتى إذا بلغ أشده ويلغ أربعين سنة. ولهذا قلنا إن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل؛ ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بني إسرائيل، وأن المقصود بالأربعين فيه، فناء الجيل الأحياء، ونشأة جيل جديد آخر، لم يعهدوا الذل ولا عرفوه”[18].

وكل جيل من الأجيال الثلاثة ينتظم ضمن قيم خاصة: فالجيل الأول هو جيل البداوة والخشونة: “فهم لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم فحدهم مرهف وجانبهم مرهوب والناس لهم مغلوبون”[19].

والجيل الثاني هو جيل الترف: حيث يتحول حالهم “من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف إلى الترف والخصب ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد وكسل الباقين عن العي”[20].

أما الجيل الثالث فهو جيل هرم الدولة وانقراضها: “فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم الترف غايته بما تيقنوه من النعيم ومن غضارة العيش”[21].

2-2-2- كما يمكن البحث عن الإرهاصات الأولية لمفهوم “الإبدال” في مجال التاريخ في ما يصطلح عليه بنظريات “الوحدة والتقدم” في علاقتها بما يسمى “روح العصر” أو”المناخ السيكولوجي” أو”الحرارة المعنوية” لكل عصر. وهي نظريات ظهرت في أوربا القرن الثامن عشر والتاسع عشر. لقد كانت هذه الاتجاهات معنية بالبحث عن التحقيبات التاريخية في علاقتها بالأفكار والنظم السائدة في كل مرحلة تاريخية. من هذا المنظور كان يرى المفكرون أن لكل عصر مناخه السيكولوجي المتميز، الذي يسم النظريات والمفاهيم والأفكار التي تظهر في ذلك العصر.

تعني فكرة “الوحدة” هنا الإقرار بوجود قوانين واحدة تحكم المسار التاريخي للأمم والشعوب، بما يمكن أن يؤدي إلى وحدة التاريخ الإنساني. لذلك فإن نظرية “الوحدة” كانت تبحث عن النسق الذي يحكم التاريخ الإنساني بشكل عام. وقد تبنى المفكرون ضمن هذا السياق مناهج العلوم الطبيعية وأدواتها البحثية التي سادت في أوربا في القرن التاسع عشر الميلادي؛ وذلك رغبة في التخلص من النزعات المثالية في تفسير الظواهر الإنسانية، وتأسيس البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية على منهج دقيق، يقارب مستوى الدقة في العلوم الطبيعية.

نشير هنا إلى جيوفاني بابتيس فيكو (J.P. Vico) (1668-1744)، الذي وضع الملامح الأولى لما أصبح يعرف فيما بعد ب”علم اجتماع المعرفة”. يرى “فيكو” أن الإنسان ليس مجرد عقل محض، وإنما هو عضو في جماعة. وبما أن العلوم الطبيعية لا يمكن أن تفسر تاريخه، فهو يقترح علما جديدا، يعتبر نفسه مبتكرا له، وهذا ما يفهم ضمنيا من العنوان الذي اختاره لكتابه: “العلم الجديد في الطبيعة المشتركة بين البشر”[22].

اهتم “فيكو” بدراسة الأنساق المعرفية في صلتها بالأنساق التاريخية. وذلك من خلال إقامته للصلة أو التناظر بين الأنساق الثقافية عامة وبين الأنساق التاريخية. تناول “فيكو” هذه الأنساق ضمن ما سماه “الدورات الحضارية المتعاقبة”؛ ومفاد هذه النظرية أن الأمم جميعها تمر بثلاثة أطوار:

– طور الآلهة: الذي يمثل المرحلة “البدائية” في حياة الأمة، حيث تسود الخرافات والأساطير والخوف من الظواهر الطبيعية، والأرواح الخيرة أو الشريرة التي تتحكم في مصائر البشر.

– طور الأبطال: حيث تدخل الأمة في مرحلة أرقى من الطور السابق؛ إذ تنجب أفرادا عظاما، يقودون الأمة في مختلف مجالات الحياة التشريعية والفلسفية والفكرية.

– طور الإنسان: الذي يتم فيه الاعتراف بالمساواة بين الناس ويصبح الحكم قائما على مؤسسات منبثقة من حاجات أفراد المجتمع.

وقد وضع “فيكو” في كتابه “العلم الجديد” مجموعة من “المسلمات” التي ينهض عليها العلم الجديد(حوالي مئة وأربعة عشرة مسلمة)، تمثل النسق العام المشترك بين الأمم. نكتفي بالإشارة هنا إلى أربعة مسلمات[23]:

– تأكيد دور الإنسان في خلق عالمه الاجتماعي وعلاقاته ومؤسساته، وكذا فنونه، ذلك أن طبيعة التنظيمات الاجتماعية وخصائصها تتحدد وفق أسلوب نشأتها وزمن هذه النشأة وظروفها، وأن العقل البشري يتوفر على ميول فطرية لخلق الأساطير وإبداع الشعر. لذلك يرى فيكو أن المجتمع لا يقدم ببساطة مسرحيات وأشعارا وروايات، ولكنه ينمي أدبا وأدباء يستخلصون أعمالهم ومهاراتهم الفنية ونظرياتهم منه.

– تأكيد نسبية الإنجازات الإنسانية، في علاقتها بالواقع الذي عاش فيه صاحبها، وما يتميز به هذا الواقع من سمات فكرية واجتماعية وسياسية.

– أما الأطروحة المركزية في كتاب “فيكو” فتتمثل في ما سماه “الحكمة الشعرية”؛ لقد بدأت هذه الحكمة دينية، ثم بطولية، وانتهت إلى حكمة بشرية، ممثلة في حكمة الفلاسفة. مفادها أن تاريخ الشعوب بدأ بداية شعرية، وأن حكمتهم كانت شعبية عملية، ستتطور – بعد ذلك – مع تطور العقل البشري، في أنماط مختلفة.

سيقوم هاردر J.G. Herder (1703- 1744) بجمع هذه الشذرات وإعادة صياغتها في كتابه “أفكار في التاريخ الفلسفي للإنسانية”. يسعى هاردر في هذا الكتاب إلى إثبات “وحدة الشعوب” و “وحدة التاريخ”؛ بمعنى أن هناك نسقا عاما يحكم المسار التاريخي للأمم والشعوب. إذ على الرغم مما يبدو ظاهريا من مظاهر التفكك والتباين في المسار التاريخي للبشرية، فإن الشعوب أشبه بأعضاء في مجموعة كبيرة: فالحضارات القديمة تمثل طفولة الإنسانية، والحضارة الإفريقية والرومانية تمثل شبابها، والحضارة الجرمانية تمثل كهولة الإنسانية ونضجها[24] . لذلك فقد اعتبر أحد المفكرين كتاب هاردر “بمثابة عقد الميلاد الرسمي – في الفكر الغربي- لما يدعا فلسفة التاريخ”[25].

2-2-4- ستبلغ هذه التصورات مداها مع هيغل Hegel (1770- 1831)، الذي انطلق من منظومة فلسفية متكاملة تقوم على فكرة الجدل: إن التاريخ عند هيغل ليس خليطا أعمى من المصادفات، وإنما هو تطور، يتم وفق آلية الديالكتيك، التي تتضمن ثلاثة عناصر: الموضوع، نقيضه، مؤلف الموضوع المركب من كليهما[26].

استعار كارل ماركس K.Marks (1818- 1883) دياليكتيك هيغل ليقرر أن إنتاج الأفكار في الحقول المعرفية المختلفة عملية مرتبطة بالتطور المادي والاجتماعي للبشر.

2-3- علم الاجتماع:

في سياق تتبع مفهوم “الإبدال” في الحقول المعرفية الإنسانية المختلفة، ننتقل إلى حقل آخر، هو علم الاجتماع. سنكتفي هنا بمفهوم واحد، على كثرة المفاهيم التي يمكن تقديمها في هذا الإطار. يتعلق الأمر بما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو”Bourdieu P. الفرنسية Habitus. أشير هنا إلى أن بعض الباحثين العرب ترجم هذا المصطلح – الذي له أصول لاتينية – ب “التطبع”، أوالسجية، أوالسَّمْت. لكن هذه الترجمات ليست وفية لكل المضامين التي يحملها المصطلح عند “بيير بورديو”؛ لذلك سنحافظ على المصطلح كما هو في اللغة الفرنسية Habitus. وهو واحد من ثلاثة مفاهيم نجدها حاضرة في الجهاز التحليلي لبيير بورديو، في إطار ما يسميه “نظرية الممارسة”La théorie de la pratique. تتمثل هذه المفاهيم في: – مفهوم الحقل Le champ- مفهوم الرأسمال Capital- مفهوم الهابيتوس Habitus. ماذا يعني بهذا المفهوم الهابيتيس؟

إن الحياة الاجتماعية – من منظور “بيير بورديو”- قائمة على مجموعة من الأنساق التنافسية. كل نسق منها يعمل وفقا لمنطقه الداخلي الخاص؛ يتألف من مؤسسات وأفراد يتنافسون على الرهان نفسه، المتمثل في الحصول على الحد الأقصى من السيادة داخل النسق. حين يتم تحصيل هذه السيادة، ويتم الاعتراف بها اجتماعيا تتحول إلى رأسمال رمزي. يتمثل الهابيتوس هنا في مجموع القيم المعنوية، والاستعدادات المكتسبة،التي تؤطر النسق من الخلف. هو النظام المعنوي المولد للاستجابات، المتكيف مع متطلبات مجال معين. إنه نسق من مخططات الإدراك والتقويم والفعل التي غرسها المحيط الاجتماعي داخل الفرد في زمان ومكان معينين؛ فهو بهذه الصورة أشبه باللاوعي الثقافي. الهابيتوس شرط ضروري لكل ممارسة يقوم بها الفرد في علاقته بالجماعة. إنه آلية نقل تتجسد بواسطتها البنى الاجتماعية ومعايير النظر والفكر في النشاط الفردي اليومي. يستعمل “بورديو” هذا المصطلح في مجمل دراساته، باعتباره مفهوما يتخذ عدة أبعاد: بعد نفسي يتمثل في الجوانب ذات العلاقة بالذوق والشعور والوجدان. بعد عقلي له علاقة بالأفكار والفهم و التحليل. بعد أخلاقي مرتبط بالسلوك و المواقف و القيم[27]. يستعمل “بورديو” أحيانا مفاهيم أخرى ذات علاقة بالهابيتوس، مثل”إيتوس” Ethos باعتباره بنية من الاستعدادات ذات البعد الأخلاقي. و هي من المبادئ العملية التي ينطوي عليها الهابيتوس[28]. وكذلك مفهوم ” إيكسيس “Hexis الذي يتمثل في المبادئ، وقد تحولت إلى أوضاع وحالات وقابليات للجسم في حركات و أوضاع[29].

وقد وقف “بورديو” في العديد من كتاباته عند استراتيجيات تكون مفهوم الهابيتوس، المتمثلة أساسا في الشروط الاجتماعية لتشكل الفرد باعتباره ذاتا اجتماعية (مثل بنية العائلة، وتاريخها، وطبقتها، التاريخ الجمعي للعائلة، وتاريخ الطبقة..)؛ وكذلك الشروط التعليمية (مثل النظم الدراسية والتعليمية، والمناهج التربوية)، تجارب الطفولة، المدرسة والنظام التعليمي…الخ)….إلخ. لقد تناول “بورديو” النظام التعليمي والتربوي الفرنسي، في علاقته بهذا المفهوم (مفهوم التطبع أوالهابيتيس). في عدة كتب، من أهمها ” الورثة [30]Les héritiers، و”إعادة الإنتاج[31] la reproduction وبين كيف يعمل النظام التعليمي على إعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية. كما بين أن حظوظ النجاح في هذا النظام ليست واحدة للجميع؛ لذلك فإن هذا النظام يعمل على تكريس الامتيازات وتأبيدها، وإضفاء طابع المشروعية عليها.

2-4- التحليل النفسي:

من المهم الوقوف هنا عند أطروحات “ميشيل فوكو” Michel-Foucault (1926-1984) حول الجوانب التي تحكم النظريات والمعارف المختلفة في عصر من العصور. سيستفد “فوكو” –في هذا الإطار- من منجزات التحليل النفسي، كما بلورتها دراسات وأبحاث “سجموند فرويد”Sigmund Freud (1856- 1939) لذلك يشكل التحليل النفسي بالنسبة إليه “كنزا لايفنى”[32] فهو يحتل مركزا مرموقا في المعرفة الحديثة، بعد أن أرسى وضعيته بشكل أفضل من العلوم الإنسانية الأخرى؛ إن ما أصبح يخترق الفكر الحديث كله هو قانون التفكير في اللامفكر فيه.

لقد برهن “ميشيل فوكو” على وجود نسق، عبارة عن نظام إبستمولوجي عميق يجمع بين مختلف المعارف السائدة في فترة زمنية معينة. يطلق “فوكو” على هذا النظام تسميات متعددة منها: “إبيستيمي” Epistème” و”إواليات تاريخية” A priori historique و”شروط الإمكان” ….إلخ. يعني بهذا النظام مجموع الشروط القبلية التي تنظم المعارف والمفاهيم وطرق التفكير في عصر من العصور[33] . يمثل هذا النسق الشروط القبلية والمعايير المسبقة التي تكون وراء المعارف. إنه التنظيم الخفي والعميق الذي يربط في عصر من العصور بين مختلف النظريات والمفاهيم والعلوم.

من المفيد الإشارة هنا إلى أن الإطار المرجعي الذي يستند إليه فوكو في هذه الأطروحة هو الفلسفة البنيوية. لذلك يستند التحليل الذي يقدمه فوكو إلى التمييز في خطاب المعرفة بين مستويين مختلفين:

– مستوى ظاهري سطحي، يتحقق في السياق العملي التجريبي للعلوم والأفكار والمفاهيم. يمثل هذا المستوى محور اشتغال تاريخ الأفكار.

– أما المستوى الثاني فيتمثل في ما يسميه “شروط الإمكان”، وهي عبارة عن مبادىء قبلية ناظمة لمستويات وأشكال التفكير المختلفة في مرحلة تاريخية معينة. هذا المستوى هو الذي يبحث فيه ما يسميه “علم الأركيولوجيا”. 

لذلك يؤكد “ميشال فوكو” أنه ليس المهم في تاريخ المعرفة هو الآراء، وليس كذلك ما يمكن أن يقوم بينهما من تشابه عبر العصور، بل المهم … هو شروط الإمكان الداخلية.

فهناك في ثقافة كل عصر “نظام عام” خفي وصامت تنشأ عنه بالضرورة طرق الرؤية إلى الأشياء، يعتبر هذا النظام شرط إمكان الأشكال المعرفية المختلفة. يوجد هذا النظام خارج وعي المساهمين في إنتاج المعرفة. هذا النظام “هو الذي يشكل الأرضية التي تتأسس عليها المعارف ولا يوجد إلا في صورة ما لا نعرفه؛ هو الذي يخلق شروط التفكير ولا أحد يفكر فيه؛ هو الذي يمنح كل واحد القدرة على الكلام ولا أحد يتكلمه”[34].

ليس هناك سوى “إبستيمي” واحد في ثقافة معينة، وفي فترة تاريخية محدودة، هي التي تحدد شروط الإمكان بالنسبة لكل معرفة، سواء تلك التي تظهر في نظرية ما، أو تلك التي تستثمر بصمت في الممارسة.

لقد كانت المحاولة البارزة التي عمل فيها فوكو على تطبيق هذا المنهج هو كتابه “ميلاد العيادة”. يهدف فوكو في هذا الكتاب إلى إنجاز “دراسة بنيوية تحاول داخل كثافة التاريخين قراءة وفك رموز التاريخ نفسه”.

يمهد فوكو لهذا النوع من التحليل بانتقاد المناهج التقليدية المعتمدة في تاريخ الأفكار. تعتمد هذه المناهج -في نظره- على التأويل والشرح والتعليق، ومحاولة فك رموز التاريخ. لذلك فهو يفترض أن النصوص تكون محملة بمعنى متخف وعميق. ويكمن دور المحلل في محاولة الوصول إلى هذا المعنى، معتمدا في ذلك على معارفه. لذلك فإن قدرة المحلل على النفاذ تعود أساسا إلى سعة ثقافته؛ إذ كلما كان المحلل موسوعي التكوين والثقافة إلا واستطاع الوصول إلى المعاني المتخفية والعميقة للنص.

في مقابل هذا النوع من التحليل يقترح فوكو منهجا تحليليا بنيويا، يتحرر فيه من الشرح والتعليق والتأويل، كما يتحرر أيضا من الأسلوب القائم على الربط بين الأفكار، القائم على تأكيد ارتباط السابق منها مع اللاحق. يعمد فوكو إلى دراسة الخطاب من خلال إبراز العلاقات القائمة بن عناصره. تكون هذه العناصر نسقا قائما على التقابل والاختلاف[35]. اعتمادا على هذا المنهج يعتقد فوكو إمكانية الكشف عن نظام الخطاب الذي يتعين بالكلمات. ويفترض في هذا الإطار أن الخطاب الطبي الحديث، لايرجع الفضل في نشأته إلى التخلي عن النظريات والآراء القديمة، بل يعود الفضل إلى تنظيم صوري جديد وعميق للخطاب ذاته.

نخلص إلى القول: إن مفهوم الإبدال من أهم المفاهيم التي اشتغلت على تاريخ العلوم، وقد تبلور هذا المفهوم ضمن الدراسات التي اهتمت بالتنظير لأشكال ومستويات التطور في العلوم الطبيعية. وانطلاقا من مبدأ الاشتراك المفهومي تتبعنا بعض المفاهيم التي ظهرت في مجال العلوم الإنسانية، وبينا جوانب التشارك الدلالي بين هذا المفهوم المركزي الذي هو الإبدال، ومفاهيم الأخرى في العلوم الإنسانية: مثل مفهوم النسق، ومفهوم العقل المكوّْن، ومفهوم الهابيتوس، ومفهوم الرؤية للعالم، ومفهوم روح العصر، ومفهوم الإبيستيمي… وعلى الرغم من وجود اختلافات أساسية بينها -سواء على مستوى الأسس الفلسفية التي تقوم عليها، أم على مستوى الأدوات الإجرائية- التي تتوسل بها، فإن بينها نوعا من التشارك المفهومي.

[1]Isabelle Stengers, D’une science à l’autre: Les concepts nomades, Paris, Seuils, 1987, P : 70-71.

[2] إضافة إلى المقياس الأول والثالث، المتمثلان في:

– الوضوح النظري.

– إمكانية البرهنة على الإثباتات النظرية. أنظر:

Heid Göthner, Méthodologie des théories de la littérature, in théorie de la littérature, Picard, Paris, 1981, P : 17.

[3] د. محمد عابد الجابري، التراث ومشكلة المنهج ، ضمن كتاب: المنهجية في الآداب والعلوم الإنسانية، دار توبقال للنشر، ط: 1 : 1986، ص : 71

[4] تُرجم هذا المصطلح إلى اللغة العربية باصطلاحات عدة، نذكر منها: الإبدال، جريدة، استبدال، جذوري، النموذج الإرشادي، النموذج الفكري، والنموذج المعرفي، والنموذج الإدراكي، والنمط الفكري….إلخ. وهناك من حافظ على المصطلح الأجنبي كما هو “البارادايم”.

[5][5] تعددت ترجمات كتاب “توماس كون” إلى اللغة العربية، نذكر من هذه الترجمات:

– ترجمة الدكتور علي نعمة، الصادرة عن دار الحداثة، بيروت 1986.

– ترجمة الدكتور شوقي جلال الصادرة ضمن سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دجنبر، الكويت، 1992.

– ترجمة الدكتور حيدر حاج إسماعيل، الصادرة عن المؤسسة العربية للترجمة، بيروت، 2007.

[6] للمزيد من التفاصيل حول هذه المعطيات يمكن الرجوع إلى:بناصر البعزاتي، “مفهوم الإبدال (البرادايم)”، ضمن: المفاهيم تكونها وسيرورتها، تنسيق: محمد مفتاح وأحمد بوحسن، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة: ندوات ومناظرات، رقم:87، ص:41 وما بعدها. 

[7] مقدمة الدكتور حيدر حاج إسماعيل لكتاب توماس كون، بنية الثورات العلمية، المؤسسة العربية للترجمة، بيروت، 2007.

[8] يمكن الرجوع هنا إلى: G.Genette, Figures III, Seuil, Paris, 1972, P:14.

[9] نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الشركة العربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الأبحاث العربية، 1982، ص85.

[10] L.Goldmann , Marxisme et sciences humaines, Gallimard, Paris

[11] جورج لوكاتش، الرواية التاريخية، ترجمة: د.جواد كاظم، دار الطليعة، بيروت، 1978، ص: 26.

[12] L.Goldmann, Marxisme et sciences humaines, Gallimard, Paris

[13] L. Goldmann, le Dieu caché, Gallimard, Paris, 1979.

[14] L.Goldmann, Marxisme et sciences humaines, p:63-64.

[15] H. R. Jauss, pour une esthétique de la réception, Gallimard, Paris, 1978, 49-52

[16] Ibid,PP:49-52.

[18]مقدمة ابن خلدون، دار القلم، بيروت، لبنان، 1978، ص: 170. 

[19] نفسه.

[20] نفسه، ص: 171.

[21] نفسه، ص:171.

[22] Giambattiste Vico, Principes d’une sciences nouvelle relatives à la nature commune des nations, Traduit par:Alain Pons, Fayard, 2001. 

[23]Ibid, PP:202- 221.

[24] أنظر: د. أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، 1990.

[25] د. محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1: 1991، ص: 97

[26] للمزيد من التفاصيل: أنظر: هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ، ترجمة: إمام، عبد الفتاح إمام، دار الثقافة، القاهرة، 1986

[27] P. Bourdieu, Question de sociologie, Minuit, Paris, 1980. 

[28] ibid, p:133.

[29] Ibid.

[30] P. Bourdieu, Les héritiers, les étudiants et la culture, Minuit, Paris ,1964.

[31] P. Bourdieu, et j. C. Passeron, la reproduction, élément pour une théorie du système d’enseignement, Minuit, Paris, 1970.

[32] ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع الصفدي، د. سالم يفوت، د. بدر الدين عرودكي، د. جورج أبي صالح، كمال اسطفان، مركز الإنماء القومي، 1990، ص: 304.

[33] ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، تر : سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1986.

[34] د. عبد الرزاق الدواي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، 1992، ص: 144. 

[35] للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى:

– عبد الرزاق الدواي، عبد الرزاق الدواي، “الجنيالوجيا” وكتابة التاريخ، ضمن مؤلف جماعي بعنوان: كتابة التواريخ، تنسيق: محمد مفتاح، وأحمد بوحسن، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة: ندوات ومناظرات، رقم: 81، ص:57 وما بعدها.

– عبد الرزاق الدواي، موت الإنسان في الخطاب المعاصر(هيدجر، ليفي ستراوس، ميشيل فوكو)، دار الطليعة، بيروت، 1992، ص:135.