المقاربة السيكولوجية للأدب

تمهيد :

لعل الإطار الإشكالي العام الذي يندرج ضمنه البحث له علاقة بفكرة “انتقال المفاهيم والنظريات”، وهو موضوع أصبح يحظى باهتمام كبير في أوساط الباحثين الذين يهتمون بالأفكار والنظريات “الجوالة”، ومجالات التوازي والتقاطع بين اتجاهات التفكير الفلسفية المختلفة، والتمييز بين الثابت في النظرية؛ الذي يشكل عناصرها الأصلية الذاتية، والمتغير فيها الذي يتشكل عبر “حوار” النظرية مع غيرها. ويمكن أن نستعير هنا تعبير “اجتياز الحدود” passage des frontières[1]، وهو التعبير الذي تم اختياره عنوانا لمجموعة من الدراسات التي صدرت ضمن مؤلف جماعي في إطار التوجه التفكيكي. ولعل هذا التعبير دال إلى حد بعيد على ما أصبحت تتميز به المباحث النقدية والفلسفية عموما من تضايق وتمازج

1- الأصول:

1 .1- يقول فرويد مؤرّخاً لبداية اهتماماته النقدية الأدبية :

“انطلق الاهتمام بالتحليل النفسي في فرنسا من صفوف رجال الأدب. وحتى نفهم هذه الواقعة لابدّ أن نتذكر أنّ التحليل النفسي تخطى، مع تأويل الأحلام، حدود الاختصاص الطبي المحض. وبين ظهوره سابقاً في ألمانيا وحالياً في فرنسا شملت تطبيقاته العديدة شتى ميادين الأدب والفن[…] فأكثر تلك التطبيقات وجدت بداياتها الأولى في أبحاثي. وقد أبحتُ لنفسي الخروج بين الفينة والأخرى عن الدّرب المرسوم لأشبع في نفسي ميولي غير الطبية. وما لبث آخرون، لا من الأطباء فحسب بل كذلك من الاختصاصيين في شتى العلوم أن اقتفوا أثري”[2].

تؤرّخ هذه العبارات للمحاولات التأسيسية للتحليل النفسي للأدب: لقد كان همّ فرويد في البداية، هو البحث عن سند لنظريته في اللاوعي؛ ذلك أنّ اهتماماته في مطلع نبوغه العلمي كانت بعيدة عن ميدان النقد الأدبي. ولكنه لمّا صاغ نظرية “تحليل الأحلام” وجد أنّ حقل الأدب –والفن بشكل عام- يسعفه في شرح نظريته.

ونذكر هنا أنّ الدّراسات النفسية قبل فرويد كانت تبحث عن الجوانب الشعورية للنفس البشرية، من منطلق كون بنية النفس البشرية ذات طابع مادّي، يمكن تحليله إلى عناصره الأساسية اعتماداً على عمليات الاستبطان الدّاخلية. في مقابل ذلك يرى فرويد أنّ الجوانب الشعورية لا تشكّل إلّا جزءاً محدوداً بالقياس إلى عالم اللاشعور (اللاوعي)، الذي يشكل محور العمليات النفسية “وقد صاغ فرويد هذا الفرض العلمي الأساسي…حين تبيّن استحالة فهم الظواهر النفسية سواء النفسوية كالهفوات والأحلام، أو المرضية كالأعراض الهستيرية بواسطة معطيات الشعور وحده[…] اللاشعور نظام عقلي له خصائص كيفية مميّزة، قوامه الأفكار والخواطر المعربة عن الدّفعات الغريزية والممثلة لها، والتي لا تستهدف إلا تفريغ شحناتها، فهو إذن دفعات راغبة يحرّكها طلب اللّذة، وتجنّب اللالذة “[3].

من هذا المنطلق سيبحث فرويد عن بعض ما يؤكد هذه الفرضيات في الأدب والنقد، لذلك يقول أحد الباحثين:

“ليس من المدهش إذن أن نَلْقَ عند فرويد مفهوماً للفنان والمبدع والقاص والشاعر، ومفهوماً للأثر وعملياته الإبداعية، ومفهوماً للقراءة والقارئ، فهذه المفاهيم هي في الواقع مرتبطة ببعضهــا البعض”[4].

من خلال هذه القولة يمكن حصر انشغالات فرويد في ثلاثة محاور: محور شخصية المبدع، محور الإبداع والعمليات التي يخضع لها العمل الأدبي، ومحور القراءة.

وسنركز في هذا العرض النظري على المحورين الأول والثاني، على أساس أنّ المحور الثالث لا يهمّنا كثيراً في السياق الذي نحن بصدده.

1 .2- لكي نفهم كلام فرويد في الموضوع لابدّ من تقديم الخطوط الرئيسية لنظرية التحليل النفسي: لقد أسس نظريته هذه، وهو بصدد تفسير ظاهرة “العصاب”. إنّ هذه المرض راجع -في رأيه- إلى ميول وغرائز نفسية ذات صلة بجنس المحارم، كبتت -في الغالب- في لاوعي المريض، وطردت خارج مجال الوعي نظراً لعدم توافقها مع “المواضعات” الاجتماعية والأخلاقية. السبيل إلى شفاء المريض هو الكشف عن “لاوعيه”، من خلال تحليل ما يصدر عنه من أحلام، أو خواطر عابرة، أو نكت، أو أفعال عرضية، أو إبداع فنّي[5]…الخ.

ويرى فرويد أنّ هذه الرغبات الدّفينة في اللاشعور تؤول إلى قناة من القنوات التالية:

– إمّا أن تلبى هذه الغرائز بصورة طبيعية.

– وإمّا أن تخضع الغريزة لسلطان العقل فيلغي الإنسان التفكير في مثل تلك الرغبات.

– وإمّا أن يحرّف هذه الرغبات نحو مجرى آخر عن طريق ما يسمّيه “التسامي” أو “التصعيد” Sublimation فيحلّ محلّ الغريزة الجنسية هدف آخر له قيمة في المجتمع[6].

الحلّ الثالث، هو الذي يهمّنا في إطار تفسير عملية الإبداع من وجهة نظر نظرية التحليل النفسي. إذن فالتسامي له علاقة بالدّافع الشبقي: بمعنى أنّ الإنسان إذا استطاع أن يستبدل بأهدافه القريبة أهدافاً أخرى تمتاز –أولا-ً بأنّها أرفع قيمة من الناحية الاجتماعية، وثانياً بأنّها غير جنسية فقد قام بعملية “تسام”. لذلك يخلص فرويد إلى القول : إنّ “الفنان كالمريض العصبي ينسحب من ذلك الواقع الذي لا يبعث على الرضى إلى ذلك العالم الخيالي، لكنه يبقى وطيد العزم، بخلاف المريض العصبي، على سلوك طريق العودة ليرسخ موطئ قدميه في الواقع”[7].

إن فرويد ينظر إلى الإبداع الأدبي –والفني بشكل عام- بوصفه حالة مرضية، لا فرق بينها وبين حالة العصاب إلا في كونه مقبولاً ومثمناً من طرف الرأي العام، في حين يخلو مرض العصاب من التقدير الاجتماعي.

من الناحية التطبيقية خصّص فرويد لهذا الموضوع كتاباً ترجم إلى اللّغة العربية تحت عنوان “التحليل النفسي والفنّ” [8]. تعرّض في القسم الأوّل منه لـ” ليوناردو دافينتشي دراسة في السيكولوجية”، والقسم الثاني لـ” دستويفسكي وجريمة قتل الأب”. ويهمّنا هنا أن نقف -على الخصوص- عند الدّراسة الثانية، لأنّها مرتبطة بالمجال الذي نحن بصدد دراسته، أعني بذلك مجال النقد الأدبي.

البحث في جوهره محاولة لتعيين الأسباب اللاشعورية الفاعلة في السلوك. هذه الأسباب يرى فرويد أنّ لها طابعاً جنسياً، وقد ظهرت في مرحلة الطفولة، ولم تسمح “النظم الاجتماعية” –في رأيه- بإشباعها، فظلّت هاجعة في اللاشعور، لكنها ظلّت تمارس عملها بطريقة غير مباشرة في توجيه السلوك خلال مختلف مراحل العمر. وقد حاول إيجاد السند لنظريته هذه من خلال دراسة الروائي الروسي دستويفسكي. فالمعروف عن هذه الروائي أنّه كانت تنتابه نوبات من الصرع،مصحوبة بفقدان الشعور. ومن خلال تتبّعه لتطور هذا الصرع في حياته يلاحظ أنّ هذا العصاب كان خفيفاً في طفولته، ليشتد ّ بعد السنة الثانية عشرة من عمره بعد مقتل أبيه، ثم انقطعت عنه هذه النوبات فيما بعد أثناء منفاه بسيبريا.

يفسّر فرويد هذا التطور في المرض من خلال تفاعلات “عقدة أوديب”[9] في نفس الروائي دستويفسكي (الرغبة في قتل الأب وامتلاك الأمّ): ففي المرحلة الأولى كان يتمنّى موت الأب، وقد داهمه المرض –في البداية- في صورة اكتئاب مفاجئ، وشعور قال عنه لصديقه أنّه يشعر كما لو كان على وشك الموت. وقد كان لهذه النّوبات – في رأي فرويد- دلالة الموت: إذ كان ينذر بها خوفاً من الموت[10].

في المرحلة الثانية أصبح هذا الشخص الآخر (الأب)، وقد أمات نفسه تكفيراً عن الذنب الذي ارتكبه في تمنّي مقتل أبيه، وفي المرحلة الثالثة انتهى بخضوع تامّ لأبيه البديل –القيصر- الذي أخرج معه في الواقع كوميديا القتل[11].

لقد اعتمد فرويد في تقديمه لهذه الخلاصات عن “عقدة أوديب” على رواية “الإخوة كارامازوف” لدوستويسكي، ومن خلالها حاول تعميم هذه الظاهرة على نصوص أدبية أخرى. يقول:

” لا يمكن بسهولة أن نرجع إلى الصدفة كون أكبر الأعمال الأدبية في جميع الأزمان –مأساة أوديب لـ”سوفوكليس”، وهاملِت لـ”شكسبير”، والإخوة كارامازوف لـ”دوستويفسكي”- تتعرّض كلها لنفس الموضوع أي قتل الأب. وفضلاً عن ذلك نجد في الأعمال الثلاثة أنّ الدّافع إلى ارتكاب ذلك –وهو المنافسة النسبية على المرأة- معروض بشكل صريح”[12].

1 .3- من جهة أخرى، سنجد فرويد يهتم بمفهوم الإبداع، وهو يبلور نظريته في “تفسير الأحلام”. لقد اعتبر تفسير الأحلام التقنية الأساس في التحليل النفسي، وإذا كان قد حدّد هذا العلاج بوصفه محاولة لاستكشاف اللاوعي، فإن الحلم حسب تعبيره “هو الطريق الملكي إلى اللاوعي”.

إنّ نمط التعبير في الحلم يختلف اختلافاً تاماً –في نظر فرويد- عن أنماط التعبير المباشرة؛ ذلك أنّ نمط التعبير في الحلم لا يخضع لقوانين المنطق والعقل، لذلك فهو يقول : “إنّ أفكار الحلم les pensées du rêve ومحتوى الحلم le contenu du rêve يظهران أمامنا كترجمتين تؤدّيان في لغتين مختلفتين، أو بعبارة أصح: إنّ محتوى الحلم يبدو لنا كأنّه نقل لأفكار الحلم في نمط من التعبير يمكن رسم حروفه وقواعده، وذلك بالمقارنة بينه وبين الأصل” [13].

في إطار التمييز بين المضمون الكامن للحلم ومضمونه الظاهر، يتحدّث فرويد عن “عمل الحلم” le travail du rêve، وعن أهمّ العمليات التي تخضع لها “أفكار” الحلم حتى تتحوّل إلى لغة ثانية، أو لغز مصوّر يصعب تفكيكه بطريقة مباشرة، تتمثّل هذه العمليات في التكثيف [14] condensation، والإزاحة déplacement[15]، والتصويرية [16] figuration ، والرمزية [17] symbolisation.

إنّ الحلم لا يقوم على لغة المفاهيم، بل يتميّز أساساً بقابليته للتصوير والرمزية، لذلك تكون العلاقة بين الدّال والمدلول اعتباطية. ومن هنا سيعتمد فرويد -بشكل كبير- على نصوص أدبية لشرح هذه الخصائص التي تميّز الحلم. من هذه النصوص أشعار “شيلر” Schiller[18] ، و”كوته” [19]Goethe ، و”ألفونس دوديه” ….[20] A.Daudet. وقد بيّن أنّ هذه النصوص الأدبية تعتمد على الآليات نفسها التي يقوم عليها الحلم: التكثيف، والإزاحة، والتصويرية، والرمزية.

فعلى سبيل المثال، في تحليله لآلية “التكثيف” في الحلم يعرض فرويد مقطعاً من رواية “سافو” Sapho لألفونس دوديه، لتأكيد التشابه بينه وبين حلم سبق أن عرضه : “لقد ذكرني ذلك الحلم الذي يبدأ فيه الصعود صعبا، ليسهل في النهاية [….] بالمقدّمة الشهيرة لرواية ألفونس دوديه، كان هناك شاب يصعد السلم حاملاً حبيبته بين يديه، كانت تبدو له جدّ خفيفة في البداية، لكن كلّما صعد أثقلت بين يديه. وكأن هذا المشهد يرمز إلى مصير العلاقة بينهما”[21].

في إطار تفسيره للأحلام، يقف في مواضع كثيرة عند مجالات الائتلاف والاختلاف بين الإبداع الأدبي والأحلام. يقول في كتابه “حياتي والتحليل النفسي”:

” وما إبداعاته [أي الفنان] إلا تلبيات خيالية لرغبات لاشعورية، مثلها مثل الأحلام التي تجمعها وإيّاها سمة واحدة، وهي أنّها بمثابة تسوية وحلّ توفيقي، لأنّها ملزمة هي أيضاً بأن تتحاشى الصراع المكشوف مع قوى الكبت”[22].

إذن، فنقطة التشابه بين الأحلام والأعمال الفنية تكمن –في نظر فرويد- في كونهما معاً وسيلة ملتوية للانفلات من الرقابة الاجتماعية. لكن هناك نقطة اختلاف بينهما، أشار إليها بقوله:

” ولكنها [أي الأعمال الفنية] بخلاف منتجات الحلم النرجسية اللااجتماعية، تستطيع أن تعتمد على تعاطف الناس الآخرين بحكم قدرتها على أن تبتعث وتشبع لديهم الصبوات الرغبية اللاشعورية عينها. وفضلاً عن ذلك تستخدم على سبيل “المكافأة المغرية” اللذة التي تنبع من الإدراك الحسي للجمال الشكلي”[23].

كما تناول فرويد موضوع الأحلام في علاقته بالإبداع في دراسة له حول رواية “غراديفا” Gradivaلـ”ف.جنسون” Jensen. وقد ذكر في تحديد الهدف من إنجاز هذه الدّراسة:

” لقد تسنّى لي أن أثبت بالاستناد إلى رواية قصيرة ليست عظيمة القيمة بحدّ ذاتها، هي “غراديفا” لمؤلّفها ف.جنسون أنّ الأحلام التي يختلقها الكاتب قابلة للتأويل بمثل ما تؤوّل به الأحلام الفعلية، ومن ثمّ إنّ النّشاط الإبداعي لدى الشاعر تتحكّم به الإواليات اللاشعورية عينها التي تعرّفناها من خلال عمليات إخراج الحلم”[24].

  1. 4- لقد تعرّضت مدرسة التحليل النفسي لانتقادات كثيرة أجملها في نقطتين:

أولاهما: أنّ الممارسة النقدية –في التحليل النفسي-تخرج من الإبداع إلى المبدع، ذلك أنّ هذا المنهج ينظر إلى العمل الأدبي باعتباره أداة لإدراك كيان غريب عنه، إنّه كيان الأديب الذي أبدع هذا العمل، لذلك يقول تودوروف (T.Todorov):

“لقد أنجز فرويد تحليلات للآثار الأدبية، وهي أبحاث لا تنتسب للأدب، ولكن للتحليل النفسي. والعلوم الإنسانية الأخرى يمكن أن تستفيد من الأدب كمادّة أوّلية من أجل تحليلاتها، وفي حال ما إذا كانت الأبحاث ممتازة فإنّها ستؤلّف جزءاً من العلم المعني وليس وثيقة أدبية”[25].

وهنا لم يخرج النقد النفساني عن السبيل التي رسمها النقد الذي يسخر كلّ الوثائق لإعادة بناء حياة الأدباء الشخصية. فعوض أن تردّ الآثار إلى الأحداث اليومية التي يعيشها الكاتب صارت تردّ إلى لاوعيهم وما في بواطنهم من عقد ومركبات. والنتيجة من ذلك أنّ الأثر يظلّ ثانوياً إذ نتّخذه تعلّة لمعرفة ذات أخرى لعلها أجنبية عنه[26].

ثانيهما: تشديدها على مرضية المبدع وعصابيته، مع أنّ مواطن اهتمام الطبيب النفساني تختلف عن مواطن اهتمام النقاد. وإذا فسّرنا الصور الأدبية بما يعتلج في بواطن النفس، فإنّ ذلك قد لا يعدّ تفسيرا، لأننّا أرجعنا ما نعلم إلى ما نجهل من جهة، ولأنّ الأدب قد ينبع من وراء الانفعال الباطني، من جهة ثانية، فلنا جميعاً عقد ومركبات مثلما لنا جميعاً قلوب وكلى. وبالتالي فإنّ إرجاع الإبداع الأدبي إلى اللاوعي قد لا يقدّمنا كثيراً في فهم الروائع الأدبية، فإذا كانت وراء الأثر العظيم حتماً عقدة نفسية، فإنّ العقدة النفسية ليست أبداً أثراً عظيماً. “وماذا عساه يصبح النقد الأدبي إذا نحن رأينا في كلّ تجويف امرأة وفي كل نتوء رجلاً”[27].

ستؤدّي هذه الانتقادات إلى ظهور مقاربات جديدة داخل النقد النفسي، وهي مقاربات استهدفت بالأساس الربط بين الدّراسات اللغوية الحديثة والتحليل النّفسي. كما أنّ مناهج أخرى حاولت استيعاب معطيات النقد النفسي ضمن أطرها المعرفية والمنهجية مما يفسح المجال للحديث عن موقع النقد النفسي ضمن المناهج النقدية المعاصرة المختلفة. وذلك ما سنتناوله ضمن القسم الثاني من هذا البحث الذي هو تحت عنوان : الامتدادات.

2- الامتدادات:

2 .1- النقد النفسي والمقاربة البنيوية:

تنطلق البنيوية من فكرة “النص المغلق”، مستبعدة بذلك لما يسمّيه البنيويون “خارجيات النص”[28]، وهذا ما يجعلها –منذ البداية- على اختلاف مع التوجهات المنهجية للتحليل النفسي. وقد كان من بين العوامل التي ساهمت في تقوية الاهتمام بالجوانب الدّاخلية للنصوص ما لوحظ من سيادة للمناهج التي تنظر إلى الأدب من الخارج، حتى قيل: إنّ الأدب كان أرضاً لا مالك لها ! وهكذا رُفع شعار “النص ولا شيء سوى النص”، وأُرجع الأدب ،بذلك، إلى مالكه الحقيقي الذي هو الدّرس اللغوي. لقد ظهر هذا المنحى مع الشكلانيين الروس وترسّخ أكثر مع البنيويين:

لقد ركّز الشكلانيون في أبحاثهم على الخصائص التي تجعل من الأدب أدباً بالفعل، ولخصوا مجموع تلك الخصائص في مصطلح جامع هو “الأدبية” La Littérarité[29]. الانشغال بالكشف عن أدبية النص الأدبي دفع البنيويين إلى اعتماد الدّراسة المحايثة للنصوص الإبداعية، دون النظر في علاقتها بما هو خارج عنها، مثل المؤلف، وسياق التأليف، والجوانب النفسية والبيوغرافية…إلخ. وقد عبّر “رولان بارت” بصيغة متطرفة عن فكرة استبعاد الكاتب من المقاربة النقدية بعبارة “موت المؤلف”. يقول في هذا الإطار:

“إنّ اللسانيات قد مكّنت عملية تقويض المؤلّف من أداة تحليلية ثمينة، وذلك عندما بيّنت أنّ عملية القول، وإصدار العبارات عملية فارغة في مجموعها، وأنّها يمكن أن تؤدّي دورها على أكمل وجه دون أن تكون هناك ضرورة إسنادها إلى أشخاص متحدّثين، فمن الناحية اللسانية ليس المؤلّف إلّا ذلك الذي يكتب، مثلما أنّ الأنا ليس إلّا ذلك الذي يقول أنا. إنّ اللغة تعرف الفاعل ولا علاقة لها بالشخص”[30].

ونذكر هنا بأنّ الدّراسة المتأنّية لبعض كتابات فرويد قد تخفف قليلاً من غلواء الانتقاد الموجّه إلى التحليل النفسي، باعتباره منهجاً يركّز على الجوانب الخارجية للنّص. هذه هي الملاحظة التي يمكن أن يصل إليها القارئ، وهو يطّلع على النقد الذي كتبه “فرويد” حول رواية “غراديفا” Gradiva لـ: ف.جونسن [31] F.Jensen.

لا نريد أن نفصل الحديث في طبيعة المنهج الذي اعتمده، وحسبنا أن نشير في هذا المقام إلى بعض الملاحظات التي تؤكّد الفكرة العامة التي نريد إثباتها هنا، وهي المتعلّقة بإبراز طابع التحليل الدّاخلي الذي أنجزه “فرويد” في نقده لرواية “غراديفا”. ويمكن تقديم هذه الملاحظات بالطريقة التالية:

– التزم في عمله هذا حدود النّص الروائي المدروس، ولاشيء غيره. لذلك يمكن اعتبار هذه الدّراسة مثالاً للدّراسة النفسية المحايثة، لأنّ فرويد لا يخرج عن نطاق النّص، سواء إلى صاحبه، أو إلى ظروفه النفسية. وإذا كان يمارس التحليل النفسي العلاجي فهو يمارسه على الشخصية المتخيّلة. لذلك فإنّ هذا العمل يعدّ وثيقة نقدية في تطبيق التحليل النفسي الداخلي على الأعمال الإبداعية “من هنا تأتي أهمّية هذه الدّراسة كما تأتي مشروعية انتسابها إلى النقد الروائي”[32].

– لقد كان فرويد واعياً بالتفاوت بين الشخصية الفنية، ذات الطابع الخيالي وبين الشخص من لحم ودم، ومن ثم كان حريصاً على تخليص الشخصية من الوهم المرجعي. يقول في هذا الصدد:

“إنّ المهتــــمّ بالشخصيـــة ليــــس لــه من سند إلا ما يَرِد في الرواية ذاتها من تفاصيل عن هذه الشخصيات”[33].

ولا شك في أنّ هذا الفهم قريب من التصوّر الذي ظهر عند النقاد البنيويين الذين ينظرون إلى الشخصيات باعتبارها كائنات من ورق على حدّ تعبير الناقد الفرنسي “ت.تودوروف” T.Todorov [34]أو هي “نتاج عمل تأليفي”على حدّ تعبير رولان بارت [35]R.Barthes.

– اعتمد فرويد منهجية علمية داخلية متماسكة، بحيث كان حريصاً على وضع الأحلام التي حلّلها ضمن السياق العام لمجموع النص الروائي[36]، رافضاً بذلك للنزعة التجزيئية الضيقة التي تحلّل الحلم ضمن موقعه الخاص في العمل الأدبي، ورافضاً في الوقت نفسه الرأي الذي ينظر إلى الحلم بوصفه زينة وزخرفة. يقول:

“فمن أي نقطة ينبغي أن نتناول ذلك المنام لندمجه بالمجموع، إذا كنّا لا نريد له أن يبقى مجرّد زخرف لا طائل فيه من زخارف القصّة”[37].

لكن مع ذلك تبقى هذه الدّراسة في حدود الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة حول غلبة الطابع البيوغرافي على التحليل النفسي للأدب.

إذا كانت العلاقة المتطرفة التي أقامها التحليل النفسي بـ”المؤلف”، قد ولّدت ردّة فعل متطرفة أيضاً في استبعاد هذا المؤلّف، و”قتله”(!)، فإنّ الاكتفاء بالتحليل الدّاخلي للنص –في إطار المدرسة البنيوية- قد أدّى إلى مقاربات سكونية مغلقة لا تحيط بالنّص الأدبي في أبعاده الشمولية. لذلك ظهرت اتجاهات نقدية تنفتح –في الوقت نفسه- على الدّراسات اللّغوية وعلى التحليل النفسي. المقاربات من هذا النّوع كثيرة، لكن يبقى الجامع بينها أنّها تنطلق من النّص –في مستواه اللغوي- لتنتقل بعد ذلك إلى السياق النفسي، في إطار ما يمكن أن نسمّيه “نفسانية النص”.

يمكن الوقوف –في البداية- عند أطروحة ”النقد النفساني : la psychocritique ” لـ ”شارل مورون : Charles Mauron”، الذي قدم مشروعه في كتاب تحت عنوان : ”من المجازات الحصرية إلى الأسطورة الشخصية”[38].

لقد كان هدف “مورون” من خلال كتابه هذا تقديم بديل نقدي يمكن من تجاوز المأزق الذي وقع فيه النقد النفسي الفرويدي، وذلك حينما حول النقد الأدبي إلى ”علم سريري” يعنى بالجوانب المرضية في شخصية المبدع، مع إهمال للنص المدروس. وهذا ما نبهت إليه ”آن كلانسيير A. Clancier” في تقديمها لمنهج ”مورون” :

”يعتقد شارل مورون أن الإبداع الفني تحكمه متغيرات لها تأثير : الوسط وتاريخه، شخصية المبدع وتاريخها، اللغة وتاريخها. يتقيد النقد النفساني بدراسة جزء من المجموعة الثانية : الشخصية اللاواعية للمبدع”[39].

إن الهدف من دراسة الشخصية اللاواعية هو تحديد ما يسميه ”مورون” الأسطورة الشخصية للمبدع. وما يعنيه بالأسطورة الشخصية هي مجموعة من الخصائص الدفينة في لا شعور المبدع. وهي في نظره حقيقة داخلية لا يعرف عنها الوعي إلا صورة شاشوية Image Ecran[40].

إلى هنا لا يكون ”شارل مورون” قد أضاف جديدا بالقياس إلى ما طرحه فرويد في نظرية التحليل النفسي للأدب. لكن، الجديد الذي جاء به ”مورون” يتمثل في ”منهج” الوصول إلى الأسطورة الشخصية للمبدع. فما هي المراحل التي يقترحها للوصول إلى هذه الأسطورة؟

يتم ذلك من خلال الخطوات التالية :

– تنضيد النصوص، وذلك اعتمادا على تحديد شبكة من ”التداعيات” الملحة، التي تتبدى في شكل صور تحيل على اللاوعي.

– إعادة تركيب هذه الصور، من خلال تحديد طريقة انتظامها داخل النص.

– البحث عن الأسطورة الشخصية للمبدع؛ ذلك أن التركيب السابق يوقف على عناصر متماثلة تكون شبكة دلالية، تحيل على الأسطورة الشخصية للمبدع.

– تقويم النتائج المحصل عليها، مع ربط ذلك بالإبداعات الأخرى للمؤلف، مما من شأنه أن يؤكد وجود الأسطورة الشخصية التي تحدث عنها الناقد[41].

بهذا يمكن القول إن ”شارل مورون” قد حاول – في الوقت نفسه- استيعاب وتجاوز التحليل النفسي الفرويدي. وعموما يلاحظ وجود خلفية ”ألسنية” تحكم هذه القراءة النقدية، ويتجلى ذلك في تركيزه على النص في استخلاص ما يسميه ”الأسطورة الشخصية للمبدع”.

ومن المحاولات التي يمكن إدراجها في هذه الإطار أيضا ما قدمه ”جاك لاكان : J. Lacan” في ”كتاباته” Ecrits[42] . لقد كان ”لاكان” واحدا من تلامذة ”فرويد” . و حاول إعادة صياغة مقولات التحليل النفسي الفرويدي، اعتمادا على مفاهيم ”علم الألسنية”.

< P style=”TEXT-ALIGN: justify; TEXT-INDENT: 43.35pt; MARGIN: 0cm 0cm 0pt” dir=rtl class=MsoNormal>لقد أشار ”لاكان” –في مواضع عدة من كتابه- إلى أن دراسته هذه ليس فيها جدة، وأن هدفه هو إبراز أصالة التحليل النفسي الفرويدي[43]. ورغم إصراره على نفي طابع الجدة عن خطابه، فإنه يمكن القول مع أحد الدارسين : إن ”خطاب لاكان لا يشكل مجرد عودة بريئة إلى الكتابات الفرويدية، بل يشكل تفسيرا لهذه الكتابات، وهو تفسير ما كان من الممكن إنجازه دون اللجوء إلى مفاهيم خاصة بعلم برز في بداية هذا القرن عنينا بذلك الألسنية”[44].

وتجدر الإشارة هنا إلى أن “فرويد” قد أولى عناية كبيرة لـ ”الأحلام” باعتبارها ”الطريق الملكي إلى اللاوعي” على حد تعبيره. وقد ميز بين المضمون ”الظاهر” للحلم، ويتمثل في أحداث الحلم كما يتذكرها الحالم، والمضمون ”الكامن”، الذي يقصد به المعنى الذي يتوصل إليه المحلل وهو يفسر الحلم. هذا المعنى لا يمكن الوصول إليه بطريقة مباشرة بسبب الأقنعة والحواجز التي يخضع لها، وتتمثل في : التكثيف-النقل- التمثيل التصويري-الرمزية…إلخ. إن الحلم بهذا المعنى له بعد رمزي، وهذا هو مجال اهتمام ”لاكان”؛ أي الأبعاد الرمزية لمنتجات اللاوعي.

ويمكن الوقوف هنا على الخصوص عند الفصل الذي خصصه لدراسة قصة ”الرسالة المسروقة” لـ ”إدكار ألان بو” E.A.POE. الفصل تحت عنوان : “حلقة دراسية حول الرسالة المسروقة”[45].

قدمت هذه القصة – كما أشار إلى ذلك لاكان- في حلقيتين :

تقع أحداث الحلقة الأولى في صالون الملك، حيث تتوصل الملكة برسالة تحاول إخفاءها عنه. لكن الوزير ينتبه إلى قلق الملكة ويتمكن من أخذ الرسالة، ويستبدلها برسالة أخرى تحت أنظار الملكة التي لم تستطع فعل شيء ما مخافة أن ينتبه الملك إلى الأمر.

في حين تجري أحداث الحلقة الثانية في مكتب الوزير، حيث يفشل مدير الشرطة في العثور على الرسالة في مكتب الوزير. لكن أحد المخبرين – وهو ديبون- يتمكن من سرقة الرسالة واستبدالها برسالة أخرى مشابهة.

يشتغل ”لاكان” هنا على البنى اللغوية للقصة؛ بحيث يرى أن الكيفية التي يستخدم بها ”إدكار ألان بو” اللغة يضع القصة في سياق جديد. ذلك أن محتوى الرسالة لا يتحدد بطريقة مباشرة، ولكن يتحدد من خلال موقعها ضمن الذوات الثلاث (الملك-الملكة-الوزير).

تقوم الرسالة هنا بدور ”الدال” على النوايا غير الواعية لهذه الذات؛ إن ما يمثل الذات تمثيلا حقيقيا –في نظر لاكان- هو اللاشعور. يحقق الفرد ذاته عندما يصنع عالما خياليا انطلاقا من شبكة الرموز الموجودة في اللاشعور. هكذا يتخذ ”لاكان” من هذه القصة مثالا لتوضيح فكرة أساسية في التحليل النفسي، مفادها أن النظام الرمزي هو الذي يحدد الذات.

2 .2- النقد النفسي والمقاربة السوسيولوجية:

سأركّز الحديث هنا على موقف البنيوية التكوينية، ولن أتحدّث عن السوسيولوجية التقليدية أو “السوسيولوجية المبتذلة” Sociologie vulgaire، كما يسمّيها “لوسيان غولدمان” Lucien Goldman، القائمة على نظرية الانعكاس. نشير هنا –في البداية- إلى أنّ “غولدمان” يدرج كلّاً من التحليل السوسيولوجي والتحليل السيكولوجي ضمن الإطار البنيوي التكويني العام؛ لأنّ المنهجين معاً يعتبران الإنتاج الثقافي بنية دالّة، يمكن البحث عن أصولها التكوينية. لكن نقطة الاختلاف الأساسية بين البنيوية التكوينية والمنهج النفسي تتعلّق بالموقف من المبدع: فبينما يركّز الاتجاه النفسي على “الفاعل الفرد”، ينطلق البنيويون التكوينيون من فكرة “الفاعل الجماعي”. فهم يرون أنّ النص الأدبي ليس من إبداع فرد واحد، بل من إبداع فئة اجتماعية، فهو تعبير عن وعيها العميق، ورؤيتها المتميّزة[46]. وينحصر دور المبدع في إعطاء صورة لهذا الفكر الجماعي، مع تقديمه في شكل صياغة خيالية تبدو في الظاهر وكأنّها جديدة كل الجدّة، وذلك لأنّ المبدع هنا يستفيد مباشرة من تجاربه الفردية الخاصّة. وقد خصّص لهذا الموضوع مقالة تحت عنوان: “فاعل الإبداع الثقافي”[47]، وفيها يقارن بين المقاربة النفسية والمقاربة البنيوية التكوينية. يرى غولدمان أنّ التحليل النفسي ينظر إلى الإبداع في علاقته بما يسمّيه “حوافز الأنا”، وهي حوافز لا شعورية موجّهة لسلوك الفرد أو تكون مدفوعة بطاقة حيوية يمكن تعيينها بمصطلح “الليبيدو”. أمّا البنيوية التكوينية فتنظر إلى الإبداع من منظور ما يسمّيه “الفاعل الجمع”. وهو فاعل متكوّن من العلاقات الناشئة بين مجموع الأفراد الذين يكوّنون الجماعة الاجتماعية. وهذا الفاعل الجمع هو الذي يعدّ الإطار النظري الذي تتكوّن من خلاله “الرؤية للعالم”. من هذا المنطلق لم تهتمّ البنيوية التكوينية كثيراً بشخصية الكاتب وتجاربه وسيرته الذاتية. فتجربة الفرد الواحد –كما يقول “غولدمان”- هي “تجربة أكثر إيجازاً وأكثر تقلّصاً من أن تقدر على خلق بنية ذهنية من هذا النّوع، ولا يمكن لهذه الأخيرة أن تَنْتُج إلا عن النشاط المشترك لعدد من الأفراد الموجودين في وضعية متماثلة، أي من الأفراد الذين يشكّلون زمرة اجتماعية ذات امتياز، والذين عاشوا لوقت طويل وبطريقة مكثّفة مجموعة من المشاكل وجدّوا في البحث عن حلٍّ ذي دلالة لها”[48].

إنّ العمل الأدبي العظيم هو الذي يستطيع استيعاب فكر الجماعة التي ينتمي إليها المبدع “فكلّما كان العمل تعبيراً صادراً عن مفكر وعن كاتب عبقري كلّما أمكن فهمه في ذاته دون أن يلجأ المؤرّخ إلى سيرة الكاتب ونواياه، ذلك أنّ الشخصية الأكثر قوّة هي التي تتطابق بكيفية أفضل مع حياة الفكر أي مع القوى الجوهرية للوعي الاجتماعي في مظاهره الفعالة والمبدعة”[49].

وقد أوضح غولدمان أنّ قوانين التفسير والتأويل في كل من المنهجيين جدّ مختلفة وذلك لأنّه يستحيل فصل التأويل عن التفسير حين يتعلّق الأمر بالليبيدو، في حين أنّ هذا الفصل ممكن في التحليل السوسيولوجي، فليس ثمّة تأويل محايث لحلم معتوه ما أو لهذيانه، وذلك لأنّ الوعي لا يمتلك ولو استقلالاً ذاتياً نسبياً على صعيد الليبيدو، أي على صعيد السلوك ذي الذات الفردية، الموجّه مباشرة نحو امتلاك الموضوع. وعلى العكس من ذلك فحين تكون الذات مفارقة للأفراد يأخذ الوعي أهمّية أكبر من ذلك بكثير ويسعى إلى إنشاء بنية ذات دلالة[50].

لكن مع ذلك فإنّ غولدمان يُقرّ بأنّ البنيوية التكوينية تشترك مع التحليل النفسي في ثلاثة عناصر على الأقلّ هي:

” أ- التأكيد على أنّ كلّ سلوك بشري يشكل جزءاً على الأقلّ من بنية واحدة ذات دلالة.

ب- أنّه لأجل فهم هذا السلوك ينبغي إدراجه في تلك البنية التي ينبغي على الباحث الكشف عنها.

ج- التأكيد على أنّ هذه البنية لا يمكن فهمها حقاً إلا إذا أحيط بها في تكوينها، الفردي أو التاريخي على التوالي”[51].

هناك حضور للجوانب النفسية أيضاً في المقاربات النقدية التي جاءت لتطوير الإرث البنيوي التكويني في إطار ما يسمّى “علم اجتماع النّص” La Sociologie du texte . يمكن الإشارة بشكل سريع إلى أهمّ هذه المساهمات: فقد أشار “جاك لِنهارت J.Leenhart” إلى وجود بعض جوانب الائتلاف بين المقاربة الاجتماعية عند غولدمان، والمقاربة النفسية عند “شارل مورون”. خاصة على مستوى طريقة تحليل وتأويل الوقائــــع الخارجيــــــة للأدب Extralittéraire، التــــي تشكــــل معنــى تراجيديا “راسين”، وهي وقائع ذات طبيعة نفسية واجتماعية[52].

كمـــــا خصــــــّص “بييـــــــــر زيما P.Zima” فصـلاً من كتابه “الموجز في النقد الاجتماعي” لمحاولة التقريب بين النقد الاجتماعي والتحليل النفسي. وقد استهلّ الفصل بتقديم الأساس المنهجي لهذه المحاولة، وطرح فيه “مشكلة الوظيفة النفسية (الاجتماعية) للأبنية اللغوية داخل النص الأدبي”، كما قدّم منظوراً يتخذ فيه شكل معيّن للغة –مثل لهجة جماعية ما- معنى خاصاً بالنسبة لنفسية الكاتب والجماعة التي ينتمي إليها”[53].

كما تستلهم “جوليا كريستيفا J. Kristeva” بعض عناصر التحليل النفسي في إطار ما تسمّيه “التحليل الدّلالي” Sémanalyse، ويقتضي هذا التحليل تناول النصوص المدروسة من خلال:

– مستوى النص المكون Géno-texte: وهو يحيل على الضغوط النفسية والثقافية والاجتماعية.

– مستوى النص الظاهر Phéno-texte: يتمثل في النسيج اللغوي والتركيبي[54]. والجدير بالذكر أنّ هذه المنهجية التي تقترحها “كريستيفا”، عبارة عن تركيب بين الماركسية والتحليل النفسي، والدّراسات الألسنية الحديثة، ممثلة في النحو التوليدي، خاصة ما يتعلّق بمفهوم “القدرة” La compétence، و”الإنجاز” La performance[55].

2 .3- النقد النفسي والمقاربة الموضوعاتية:

حينما نبحث في علاقة التحليل النفسي بالموضوعاتية نجد أنفسنا أمام مفارقة: فمن جهة نجد النقاد الموضوعاتيين لا يخفون معارضتهم للتحليل النفسي، ذلك أنّ هذا الأخير يركّز على اللاوعي، ويرجع الإبداع إلى العمليات اللاشعورية للمبدع، في حين نجد أنّ النقد الموضوعاتي –المحكوم بالخلفية الفلسفية الظاهراتية- يركز على الوعي، وعلى الأفكار والمضامين باعتبارها مظاهراً لوعي الكاتب. لذلك فإنّ الظاهراتية تقدّم في الفكر النقدي المعاصر باعتبارها “فلسفة للوعي وفلسفة للذات بالمعنى التقليدي للكلمة”. وقد عبّر “هوسرل” – فيلسوف الظاهراتية- عن هذه الفكرة بقوله: ” كل وعي هو وعي بشيءٍ ما…الشيء الذي يجعل الذات قاصدة لموضوعها…وتَوَجُّه الذات نحو الشيء الذي تريد أن تعيه هو ما نسمّيه بالقصدية. فالقصدية هنا هي وعي الأنا الذي يفكر في غير ذاته”[56].

في مقابل هذا التوجه، فإنّ التحليل النفسي يحكم “اللاوعي في الوعي”، بمعنى أنّ ما يظهر على مستوى الوعي، لا يعبّر بالضرورة عن الحقيقة الذاتية التي تبقى متوارية في اللاشعور، بسبب الرقابة الصارمة التي تتعرض لها المعلومات والتجارب والذكريات الخاصة[57]. من هنا نفهم طبيعة النقد الذي يوجهه “جان بيير ريشـــــارد” J.P. Richard إلى منهج التحليل النفسي في النقد بقوله: “هذا المنهج سليم من وجهة نظر علم النفس، لكن أُسيء استعماله من وجهة النقد الأدبي بشكل فقد معه كل فائدة. إنّ تفسير العمل الأدبي في ضوء الظروف النفسية الواعية – اللاواعية لا يزيد من استيعابنا له، بل يشتت الجمالية الفنية التي تؤسّسه كنص. ثمّة عناصر بارزة في النص مردّها إلى الطفولة وإلى تعقيدات المواقف الماضية. لكنها لا تستطيع أن تحول الأثر الأدبي بكليته إلى بلورة اجتماعية لعقدة نفسية، تكون مرضية في أغلب الأحيان”[58].

في المقابل نجد “شارل مورون Charles Mouron”، ينتقد الموضوعاتية –من زاوية التحليل النفسي- واصفاً الوعي الذي تستهدفه بالاضطراب، بسبب اعتمادها على الحدس بدل التقنيات العلمية[59].

لكن هذا الاختلاف لم يمنع بعض النقاد الموضوعاتيين من استلهام مقولات التحليل النفسي، وذلك ضمن مبدأ “الانفتاح” الذي يشكل ثابتاً من ثوابت الممارسة النقدية الموضوعاتية[60].

إنّ “جان بيير ريشار” نفسه يقرّ بإمكانية الاستفادة من علم النفس في دراسة التأثيرات التي تمارسها الكتابة على نفسية القراء، وليس فقط في شرح شخصية الكاتب من خلالها. لذلك نجد بعض النقاد الموضوعاتيين يستثمرون مصطلحات التحليل النفسي، مثل: العقل الباطني، والسادية، والمازوشية، وعقدة أوديب، والشعور واللاشعور…كما يتبنى النقد الموضوعاتي بعض مسلمات التحليل النفسي، مثل تركيز بعضهم على أهمية الطفولة في تشكيل أفكار الإنسان، وتأثير بعض الوقائع على اللاوعي. يقول “جون بول فيبر” في هذا الإطار: “التيمة هي الأثر الذي تخلّفّه ذكريات الطفولة في ذهن، الكاتب، إلى الحدّ الذي يغدو فيه ذلك الأثر محوراً لمجمل “مكوّنات العمل الأدبي”[61].

أمّا الناقد الموضوعاتي الذي تأثر كثيراً بالتحليل النفسي فهو “غاستون باشلار” G.bachelard وقد قرأ لـ “فرويد” وأعجب بـ” يونغ”، وأكّد ضرورة التحكم في معطيات التحليل النفسي العلمية. يقول في هذا الإطار:

“ثمّة ضرورة لثقافة طبية إضافة إلى تجربة كبيرة في مجال الهوامات. بالنسبة إلينا، لا نملك سوى وسيلة القراءة لمعرفة الإنسان، القراءة التي تسمح بالحكم على الإنسان من خلال ما يكتبه”[62].

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أوّل كتاب ألّفه “باشلار”، هو “التحليل النفسي للنار”[63].يتأسس التحليل النفسي الذي يقدّمه هنا على مفهوم “ما قبل الشعور Le préconscient”، ويحدد لهذا المفهوم منطقة وسطى بين الشعور واللاشعور. يقول:

“يبدو لنا أنّ مميّزات تحليل المعرفة الذي نقترحه يتمثل في تبين منطقة أقل غوراً من تلك التي تدور فيها الغرائز والدّفعات الأوّلية، وباعتبار هذه المنطقة متوسطة الموقع، فهي ذات تأثير كبير على الفكر”[64].

كما يصل “باشلار” بين مفهوم “ما قبل الشعور”، ونظرية “النماذج Archétypes” لـ “يونغ Jung” التي تحيل على الأطر الخيالية الأوّلية المرتبطة باللاشعور الجمعي.

عموماً، يمكن القول إنّ “باشلار” نموذج للنقد القائم على الوصل بين المنهج الظاهرتي الموضوعاتي والتحليل النفسي. ويرى الدكتور فؤاد أبو منصور أنّ المشروع الباشلاري يندرج في مرحلتين متكافئتين:

المرحلة الأولى، تجسّد تأثّره بالتحليل النفسي، وتضمّ “التحليل النفسي للنار” و”الهواء والهوام” و”الأرض وهواجس الإرادة” و”الأرض وهواجس الهدوء”. وتدور المرحلة الثانية حول “شاعرية الفضاء” و”شاعرية أحلام اليقظة” وهما مؤلّفان ينتميان إلى الظاهراتية والتحليل النفسي[65].

2 .4- النقد النفســـي ونظريـــات القــراءة :

في كتابه “حياتي والتحليل النفسي” يشبّه “فرويد” العمل الأدبي بالأحلام معتبراً إيّاه تلبية خيالية للرغبات اللاشعورية. فإبداعات الفنان ما هي إلا تلبيات خيالية لرغبات لاشعورية، مثلها مثل الأحلام التي تجمعها وإياها سمة مشتركة واحدة وهي أنّها بمثابة تسوية، وحلّ توفيقي، لأنّها ملزمة هي أيضاً بأن تتحاشى الصراع المكشوف مع قوة الكبت، ولكنها بخلاف منتجات الحلم النرجسية اللااجتماعية تستطيع أن تعتمد على تعاطف الناس الآخرين، بحكم قدرتها على أن تبتعث وتشبع لديهم الصبوات الرغبية اللاشعورية عينها. وفضلاً عن ذلك تستخدم على سبيل “المكافأة المغرية اللّذة التي تنبع من الإدراك الحسي للجمال الشكلي”[66].

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ “فرويد” لم يكن يستبعد القارئ من اهتمامه. وقد ظهرت فيما بعد كتابات ركزت الاهتمام على القارئ وسكولوجيته وسأكتفي بالإشارة إلى ثلاثة أعمال متميزة في هذا الإطار :

– التحليل النفسي للفن لـ “شارل بودوان” [67]Charles Baudoin

– نحو لا شعور النص لـ “جان بلمان نويل” J.B.Noél[68]

– فعل القراءة لـ ” فولفغانغ إيزر” W.g. Iser[69]

2-4-1 . يرى “شارل بودوان” أنّ الهدف من التحليل النفسي للفن هو البحث عن العلاقات التي يباشرها الفن مع العقد، سواء أكان ذلك عند الفنان المبدع، أو عند المتأمل للعمل الإبداعي. لذلك نجد الكاتب يقسّم كتابه إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل يخصصه لعمليات الإبداع.

القسم الثاني للتأمّل.

القسم الثالث، يخصصه لوظائف الفن.

الذي يهمّنا كثيراً في هذا الكتاب هو القسم الثاني، وقد خصصه لما يسمّيه “بردّ الفعل ما تحت الشعوري للقارئ [70] Subconscient. ومن خلال تقنية “التداعي” يكشف لنا عن الترابط الذي يربط القارئ بالمبدع. لقد كانت التداعيات -في السابق- تربط بالحلم، لكنها عند “شارل بودوان” تربط بالعمل الفني، وحين يختار المتأمّل رموزاً معيّنة من العمل الفني فإنّه بذلك يعبّر عن عقده الخاصة، وهو ما يجعلنا نعتقد بأنّه هو الكاتب، أو أنّه هو الحالم للعمل. وبهذه الطريقة فإنّ القرّاء يسقطون صراعاتهم النفسية على العمل الأدبي، ومن هنا ينشأ الإحساس باللّذة.

ومن المقاربات التي يمكن إدراجها في هذا الإطار أيضا ما أطلق عليه ”جــــــون بيلمــــان نويـــل : J. B.Noël” التحليل النصي : Textanalyse. وهو يبحث من خلال هذا التحليل عما ما يسميه ”لاشعور النص”[71]، في مقابل التحليل النفسي الذي كان يهتم ب ”لاشعور المبدع” أو ”لاشعور الشخصيات” في أحسن الأحوال. وقد بلور ”بيلمان نويل” مشروعه النقدي من خلال عدة دراسات أهمها :

– نحو لا شعور النص : Vers l’inconscient du texte.

– التحليل النفسي والأدب :La psychologie et la littérature.

– الحكايات واستيهاماتها : les contes et leurs fantasmes.

ويمكن الاعتماد –على الخصوص- على ما جاء في الكتاب الأول، حيث يحاول الباحث تحديد مفهوم ”لاشعور النص”. لكن الملاحظ أن هذا المفهوم يكتنفه كثير من الغموض، كما أشار إلى ذلك الباحث نفسه[72].

وقد انتقد ”بلمان نويل” الدراسات النفسية السابقة عليه : انتقد نظرية ا لتحليل النفسي لـ ”فرويد”، باعتباره كان يركز على الجوانب البيوغرافية للمبدع. كما انتقد نظرية النقد النفساني لـ ”شارل مورون” لأنه يركز على ”لاشعور المبدع”.

وفي المقابل يدعو ”بلمان نويل” إلى إهمال مؤلف العمل الأدبي، والتعامل مع النص في استقلال تام عن صاحبه. وإذا كان النص الأدبي من إبداع كاتب ما فهذا لا يعني أنه ملك له. لذلك فهو يرى أن تحليل حياة الكاتب من أجل دراسة عمله الأدبي يماثل القيام بتحليل نفسي لأم المريض بدل المريض نفسه[73]. عندما نقول ”لاشعور النص” لا يعني ذلك – في نظر بلمان نويل- أن هناك رسالة مبعوثة من مرسل إلى متلق. ليس هناك –في نظره- من نرسل إليه ”تلغرافا”، ولا مستقبلا يفك الألغاز. هناك فقط الرغبة الباعثة على الكلام، وبه ينجز النص إشباعه الوحيد. فهو لا ينتظر من يجيبه أو يتجاوب مع حبه أو يحبه.

ويتمثل ”لاشعور النص” – في نظر بلمان نوبل- في تلك الفراغات التي يحتوى عليها النص الأدبي، وهي فراغات يمكنها أن تصرخ في صمت، وهي في ذلك شبيهة بصراخ الغرائز من أعماق اللاشعور . يحيل هذا المفهوم على إمكانيات التدليل في النص أكثر مما يحيل على شيء محدد فيه، لهذا فإن ”لاشعور النص” يشمل كل القيم الدلالية التي يخفيها النص، ولهذه القيم قابلية للظهور عند كل قراءة متجددة.

ويبقى هذا المفهوم –في الحقيقة- غامضا، في غياب الأدوات الإجرائية التي يمكن أن تسعف في الوصول إليه في النص. وقد أشار ”بلمان نويل” نفسه إلى أن ”لا شعور النص” ليس جسما كيماويا، يحتوي على خصائص معينة.

نشير هنا إلى أنّ هذه النظريات التي تعرّضت لمفهوم القراءة والقارئ، خرجت –بشكل أو بآخر- من معطف التحليل النفسي. من المهم الوقوف الآن عند إحدى النظريات النقدية الحديثة التي اشتغلت على القراءة، في إطار ما يترجم له في النقد الحديث بـ “جمالية التلقي”. نشير هنا –على الخصوص- إلى فولفغانغ إيزر Wolfgang Iser وكتابه “فعل القراءة”، الذي اعتبر فيه التحليل النفسي مصدرا من المصادر المنهجية للنظرية التي اعتمدها لصياغة نظرية “الاستجابة الجمالية”[74].

2-4-3. إنّ الانفتاح على نظريات التحليل النفسي –كما يؤكّد ذلك “إيزر”- يأتي في سياق وصف التأثيرات المبنيّنة للنص الأدبي، وكذا وصف التجاوبات معه. يشير -في هذا الإطار- إلى وجود نظريتين كاملتين للتجاوب الأدبي تقدّمان دلائلهما انطلاقاً من قاعدة التحليل النفسي، وهما نظرية “نورمان هولند N.Holland” و “سيمون ليسر O.Lesser”[75] :

ينظر “نورمان هولند” إلى الأدب باعتباره تجربة. وإذا كان المرء يمكنه أن يتحدّث عن الأدب كشكل من أشكال التواصل، كتعبير أو كصنيع أدبي، فإنه -مع ذلك- من أجل توضيح الأهداف الخاصة لهذا الكتاب، يرى “نورمان هولند” أنّ الأدب تجربة، وعلاوة على ذلك فهو تجربة متصلة بالتجارب الأخرى. يمكن للمرء أن يحلل الأدب بطريقة موضوعية، لكن كيف ولماذا تصوغ الصور والبنيات المتكررة تجاوبه الذاتي؟ ذلك هو السؤال الذي يحاول كتاب “نورمان هولند” الإجابة عنه[76].

أمّا “النظرية العاطفية” لـ “سيمون ليسر” فقد ضمّنها كتابه “التخييل واللاوعي”[77]. إنّ الأدب –بالنسبة لـ “ليسر”- يوفّر الخلاص، لكن هذا الخلاص لا يمكن أن يكون ملائماً إلّا إذا قدّم العمل الوسائل المختلفة لإشباع ذاته. وهنا يصوغ “ليسر” نموذجاً للتواصل يمكّنه من وصف الخلاص الذي يحدث لدى القارئ، ولهذه الغاية يستعمل أدوات علم النفس التحليلي. ومن أجل انفتاح القارئ على العالم التخييلي، يجب على العمل أن يستدعي الأنا الأعلى والأنا والهو. وكلّ مكوّنات النّفس هذه يجب أن يتمّ تحريكها. هكذا يصبح العمل الفني دالاً -في نظر “ليسر”- بقدر القوة التي يشرك بها كل الأجزاء المكوّنة للنفس. يعتمد هذا الإشراك على شرط أساس: إنّ الاستدعاءات المختلفة التي يقوم بها العمل يجب أن تكون بشكل من الأشكال في الدّرجة الصفر، حيث أنّها كلّما كانت مباشرة، كان التأثير الذي ستمارسه على المتلقي أقلّ درجة، وسيقوى تأثيرها أكثر كلّما تراكبت باستمرار وقنعت نفسها وبعضها البعض، واتخذت درجة التعقيد الضروري لتفتح الصراع القديم، الذي سبق أن تقرر في الحياة الواقعية، بين الأنا الأعلى والأنا والهو[78].

خا تمة

حاولنا من خلال ما سبق تتبع مسارات النقد النفسي المعاصر، في أصوله المرتبطة بمدرسة التحليل النفسي، ثم في امتداداته في المدارس النقدية المختلفة. وبالنظر إلى سعة هذا الموضوع ، فقد اكتفينا هنا بتحديد مفاصله الأساسية، من خلال إبراز علاقة النقد النفسي بالمناهج النقدية، وتتبع مواطن التماس والتقاطع بين هذه المناهج من جهة، ومواطن التمايز والتوازي من جهة أخرى. وإذا كان بعض الباحثين يرون أن انتقال المفاهيم والنظريات من سياق إلى آخر، هو في الوقت نفسه شكل من أشكال موتها التدريجي، فإن ما حاولنا إثباته هنا –بخصوص النقد النفسي- هو أن هذا الانتقال كان –في كل مرة- يكسبه مضامين جديدة، وحياة جديدة. وقد تبيّن من خلال هذا البحث مدى ثراء هذا النقد وقابليته للتكيف والملاءمة مع مختلف المقاربات النقدية، التي يصدر بعضها عن أطر معرفية ومنهجية مناقضة له . لقد كانت مفاهيم التحليل النفسي بحق مفاهيم “جوالة”، انتقلت عبر شبكة من الخطابات في اتجاه حقول معرفية متعددة. وكانت تكتسب داخل كل حقل معرفي وجودا خاصا، ومضامين جديدة. ولاشك في أنّ الدّراسات من هذا النوع يمكن أن تفتح آفاقاً لازالت مغلقة أمام النقد العربي الحديث، الذي لم يعرف اهتماماً كبيراً بالدّراسات النّفسية، سواء في إطار نظرية التحليل النفسي أم في إطار علم النّفس العام­.

الهوامش :

[1] Ouvrage collectif, le passage des frontières, Ed Gallilée,paris, 1992 

[2] سيجموند فرويد، حياتي والتحليل النفسي، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت ، 1981، ص: 86.

[3] انظر مصطلح “لاشعوري” في: معجم العلوم الاجتماعية للدكتور إبراهيم مذكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975، ص : 192

[4] جون لوي بودري، فرويد والإبداع الأدبي، ترجمة موريس أبو ناظر، الفكر العربي المعاصر، عدد 23، 1983، ص: 126.

[5] للمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى فصل “اللاشعور” في كتاب:

– S.FREUD, Métapsychologie, Ed.Gallimard, Paris , 1968, p: 65.

[6] فرويد، خمسة دروس في التحليل النفسي، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة والنشر، بيروت، ط1، 1979، ص: 64-65.

[7] سيجموند فرويد، حياتي والتحليل النفسي، ص: 87.

[8] فرويد، التحليل النفسي والفن (دافينتشي-دوستويفسكي)، ترجمة: سمير كرم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ،ط2: 1979

[9] حول مفهوم هذه العقدة من الناحية النظرية يمكن الرجوع إلى فصل “الأوديب: العقدة، الوضعية، البنية” في كتاب: فيكتور سمير نوف، التحليل النفسي للولد، ترجمة: الدكتور فؤاد شاهين، المؤسسة الجامعية للدّراسات والنشر والتوزيع،بيروت ، ط1: 1980، ص: 189-222.

[10] فرويد، التحليل النفسي والفن (دافينتشي-دوستويفسكي)، ص: 101.

[11]المرجع نفسه، ص: 108.

[12] فرويد، التحليل النفسي والفن (دافينتشي-دوستويفسكي)، ص: 109. أشير هنا بأنّ هناك باحثة حولت إثبات وجود علاقة بين “عقدة أوديب” ومختلف أنواع الإبداع في جميع العصور انظر: -M.ROBERT, Roman des origines et origines du roman, Gallimard, Paris, 1981,p: 62.

[13]- S.FREUD, L’interprétation des rêves, Traduction: I. MEYERSON, Presses Universitaires, 1967, p: 241.paris

[14] Ibid, P : 242

[15] Ibid, p: 263.

[16] Ibid, p: 267.

[17] Ibid, p: 300.

[18] Ibid, p: 96.

[19] Ibid, p: 275.

[20] Ibid, p: 281.

[21] Ibid, p: 248.

[22] سيجموند فرويد، حياتي والتحليل النفسي، ص: 87.

[23]المرجع نفسه.

[24] سيجموند فرويد، الهذيان والأحلام في الفن، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1 : 1978 ، ص: 88.

[25] T.TODOROV, Théorie du symbole, Points, seuil, Paris, 1977 p: 339.

[26] د. حسين الواد، في مناهج الدراسات الأدبية، منشورات الجامعة،البيضاء ، ط2 : 1985 ص: 17.

[27]المرجع نفسه ، نفسه، ص: 16.

[28] R.BARTHES, Essais critiques, ed du Seuil, Paris, 1970, p: 9-27.

[29] T.TODOROV, Théories du symboles, Points, Seuil, Paris, p: 339.

[30] تعتمد هنا الترجمة التي قام بها لهذا المقال القصير عبد السلام بنعبد العالي، مجلّة المهد، صيف1985، ص: 11.

[31] انظر كتاب سيجموند فرويد، الهذيان والأحلام في الفن، ص: 78

[32] د. حميد لحمداني، النقد النفسي المعاصر، تطبيقاته في مجال السرد منشورات دراسات سال،البيضاء ، 1991، ص: 14.

[33] سيجموند فرويد، الهذيان والأحلام في الفن، ص: 83.

[34]- T.TODOROV,L’analyse structurale du récit poétique: 8, Paris , Seuil, 1981,p: 138.

[35] R . BARTHES, S/Z, seuil, 1976, Paris, p: 74. 

[36] د. حميد لحمداني، النقد النفسي المعاصر، تطبيقاته في مجال السرد، ص: 14.

[37] سيجموند فرويد، الهذيان والأحلام في الفن، ص: 49.

[38] CH. Mauron, Des métaphores obsédantes au mythe personnel, introduction à la psychocritique, josé Corti, Paris , 1972.

[39] A. Clancier, Psychanalyse et critique littéraire, pivat nouvelle , Paris , 1973, p : 192.

[40] Ibid, p : 193.

[41] Ibid, p : 42

[42] J. Lacan, Ecrits, I, II, éd seuil , Paris 1966

* يبدو أن ”السيد فينيكل” هو أحد الذين قاموا بتبسيط نظرية التحليل النفسي بطريقة مدرسية.

[43] J. Lacan, Ecrits, p : 173

[44] د. رالف رزق الله، فرويد والرغبة ”الحلم و هستريا الإقلاب”، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع،بيروت، ط1 : 1986، ص : 81

[45] J. Lacan, Ecrits , I, p : 173.

[46] – Lucien GOLDMAN, Pour une sociologie du roman, Gallimard, Paris 1964, p: 345.

[47] -L.GOLDMAN, Le sujet de la création culturelle, In Marxisme et sciences humaines, Gallimard, Paris 1970, p : 94.

[48] L. Goldman, la sociologie de la littérature : Statut et problème de méthode, in marxisme et sciences humaines, p : 55

[49] Ibid

[50]Ibid, p : 63

[51] Ibid , p : 63-64

[52] – J.LEENHART, Psychocritique et sociologie de la littérature, in les chemins actuelle de la critique, Colloque de Cerisy, Paris.(10/8)

[53]- P.ZIMA, Manuel de sociocritique, Picard,paris 1985, P : 273

[54] – J.KRISTEVA, La révolution du langage poétique, ed: Seuil,paris 1974, p: 83

[55] – J.KRISTEVA, Le texte du roman, approche sémiotique d’une structure discursive transformationnelle, Mouton Piblishers,paris 1970, p: 19.

[56] نقلاً عن: عبد الكريم حسن، المنهج الموضوعاتي، المؤسسة الجامعية للدّراسات والنشر والتوزيع ، بيروت 1986، ص: 31.

[57] يمكن التوسع في هذه الفكرة بالرجوع إلى: أندريه تابوريه، الشعور المخلوع من فرويد إلى لاكان، (بدون ذكر المترجم)، مجلّة الفكر العربي المعاصر، عدد: 25/ 1983 ص: 84.

[58] د. فؤاد أبو منصور، النقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوربا، دار الجيل، بيروت 1985، ص: 195.

[59] – Charles MAURON, Des métaphores obsédantes au mythe personnel, Introduction à la psychocritique, ed: Corti, Paris, 1972

[60] انظر في هذا الإطار: د. حميد لحمداني، سحر الموضوع، منشورات دراسات سال، ط: 1، 1990، ص: 25.

[61] – Daniel BERGEZ, La critique littéraire, in les méthodes critiques pour l’analyse littéraire, Bordas, Paris, 1990, p: 101.

[62] فؤاد أبو منصور، النقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوربا، ص: 96-97.

[63] – Gaston BACHELARD, La psychanalyse du feu, Paris, Gallimard, Paris, 1949.

[64] – Ibid, p: 260.

[65] فؤاد أبو منصور، النقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوربا، ص: 96-97.

[66] فرويد، حياتي والتحليل النفسي، ص: 88.

[67] Charles Baudoin, la psychanalyse de l’art, alcan, Paris1929

[68] Jean Bellmin Noèl, vers l’inconscient du texte, P.U.F, Ecriture 1er ed : 1979

[69] فولفغانغ إيزر، فعل القراءة (نظرية جمالية التجاوب)، ترجمة :د. حميد لحميداني، د الجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل،فاس، 1995.

[70] – Charles BAUDOIN, La psychanalyse de l’art, p: 140.

[71] J. B. Noël, vers l’inconscient du texte, p : 195-196

[72]Ibid, P : 191.

[73] Ibid, P : 8

[74] فولفغانغ إيزر، فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب (في الأدب)، ص : 35

[75]المرجع نفسه.

[76]المرجع نفسه، ص: 36.

[77] المرجع نفسه ،ص: 43.

[78]المرجع نفسه.

­ يعزو “جورج طرابيشي” غياب التحليل النفسي في الثقافة العربية إلى موقف المؤسسات القائمة، وكذا طبيعة التحليل النفسي، باعتباره “علماً سريرياً “يعسر توظيفه في الممارسة النقدية. انظر تفاصيل هذا الرأي ضمن الحوار الذي أجرته معه مجلّة دراسات سيميائية أدبية لسانية، عدد: 3، صيف-خريف 1988، ص: 9.

لائحـــــــة المصـــــادر والمراجـــــع

أ‌. باللغة العربية : –

– أبو منصور (فؤاد) ، النقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوربان دار الجيل، بيروت، 1985

– الواد (حسين) ، في مناهج الدراسات الأدبية، منشورات الجامعة،البيضاء ، ط2 : 1985.

– إيزر(ولفغانغ) ، فعل القراءة (نظرية جمالية التجاوب)، ترجمة :د. حميد لحميداني، د الجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل،فاس ، 1995.

– بودري (جون لوي) ، فرويد والإبداع الأدبي، ترجمة موريس أبو ناظر، الفكر العربي المعاصر، عدد 23، 1983

– تابوريه (أندريه) ، الشعور المخلوع من فرويد إلى لاكان، (بدون ذكر المترجم)، مجلّة الفكر العربي المعاصر، عــدد: 25/ 1983

– حسن (عبد الكريم) ، المنهج الموضوعاتي، المؤسسة الجامعية للدّراسات والنشر والتوزيع ، بيروت(ب.ت)

– رزق الله (رالف )، فرويد والرغبة “الحلم وهستريا الإقلاب”، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت، ط1 : 1986

– شاهين (فؤاد) ، التحليل النفسي للولد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،بيروت ، ط1 : 1980

– فرويد (سيجموند) ، التحليل النفسي والفن (دافينتشي-دوستويفسكي)، ترجمة: سمير كرم، دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت ط2: 1979

– فرويد (سيجموند) ، الهذيان والأحلام في الفن، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1 : 1978

– فرويد (سجموند) ، خمسة دروس في التحليل النفسي، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة والنشر، بيروت، ط1، 1979.

– فرويد (سيجموند) ، حياتي والتحليل النفسي، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ،1981

– لحمداني (حميد) ، النقد النفسي المعاصر، تطبيقاته في مجال السرد ، منشورات دراسات سال ، البيضاء، 1991

– لحمداني (حميد) ، سحر الموضوع، منشورات دراسات سال، ط1: 1990

– مدكور (إبراهيم)، معجم العلوم الاجتماعية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975

ب. باللغة الأجنبية : 

BACHELARD (Gaston), La psychanalyse du feu, Gallimard, Paris, 1949.

BARTHES(Roland), Essais critiques, Seuil, Paris, 1970,

Barthes(Roland), S/Z, Paris, seuil, 1976

Baudoin (Charles), la psychanalyse de l’art, Alcan Paris

BERGEZ(Daniel), La critique littéraire, in les méthodes critiques pour l’analyse littéraire, Bordas, Paris, 1990.

Clancier(Anne), Psychanalyse et critique littéraire, pivat nouvelle , Paris , 1973

FREUD(Sugmend), Métapsychologie, Ed.Gallimard, Paris , 1968

FREUD (Sugmentd), L’interprétation des rêves, Traduction: I. MEYERSON, Presses Universitaires,1967

GODLMAN(Lucien), Pour une sociologie du roman, Gallimard, Paris 1964

Goldman (Lucien) Marxisme et sciences humaines, Gallimard, Paris 1970

KRISTEVA(Julia), La révolution du langage poétique, ed: Seuil, paris 1974

KRISTEVA(Julia), Le texte du roman, approche sémiotique d’une structure discursive transformationnelle, Mouton Piblishers, paris 1970

Lacan(Jacques), Ecrits, I, II, éd seuil , Paris 1966

Mauron(Charles), Des métaphores obsédantes au mythe personnel, introduction à la psychocritique, josé Corti, Paris , 1972.

LEENHART(Jacques), Psychocritique et sociologie de la littérature, in les chemins actuelle de la critique, Colloque de Cerisy, Paris.(10/8)

Noèl, (Jean Bellmin) vers l’inconscient du texte, P.U.F, Ecriture ,paris 1979

ROBERT(Marthe), Roman des origines et origines du roman, Gallimard, Paris, 1981.

TODOROV(Tzvetan), Théorie du symbole, , seuil, Paris, 1977

TODOROV(Tzvetan), L’analyse structurale du récit poétique: 8, Seuil,paris1981

ZIMA(Pierre), Manuel de sociocritique, Picard,paris 1985