ثنائية الحرية والمسؤولية في الصحافة العربية: قناة الجزيرة نموذجا

من الدروس التي لا زالت راسخة في ذهني من كتاب القراءة في الثالث الابتدائي، عندما كان التعليم لا زال معنيا ببناء منظومة قيم وليس إكساب مجموعة معارف فحسب، درسا ملخصه أن رجلين مرّا على جمهرة من الناس، فألحّ أحدهما على استطلاع الأمر، وعندما دخلا مركز الدائرة وجدا رجلا يغرس إبرة في الأرض، ويلقي الإبرة واقفا فتقع في سمّ (عين أو فتحة) الإبرة الأخرى، فشهق أحد الرجلين مندهشا: يا له من ماهر!! فما كان من صاحبه إلا أن أجابه ببرود وثقة: صحيح، “لكنها مهارة لا تفيد أحدا”.. عبارة لازمتني حياتي كلها، ودعمتها في سنوات وعيي آية كريمة، هي الآية 17 من سورة الرعد:”كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال”.. وصارت العبارة والسورة، المسطرة التي تقاس بها بالنسبة لي أهمية الأشياء: “ما ينفع الناس”، ولم يعد من شيمي التصفيق للمهارات التي “لا تفيد أحدا”..

مناسبة هذا الحديث، النقاش القديم الجديد الذي أثاره مجددا منع قناة “الجزيرة” من ممارسة العمل في المغرب، حيث اصطف كالعادة معسكرا “المع” و “الضد” لهذا القرار، وفي خلفية النقاش يقف موضوعي حرية الصحافة ومسؤوليتها.

ولأن الإجابة على أسئلة من قبيل: هل أنت مع أو ضد قناة الجزيرة، أو مع أو ضد مواقف وزارة الاتصال (الإعلام) المغربية، لا تفيد النقاش الدائر إذا كان موضوعيا، يبدو الأهم، أن تناقش “ثنائية الحرية والمسؤولية في الصحافة العربية: قناة الجزيرة نموذجا”..

بداية، وحتى لا أتهم بالانحياز المسبق تجاه قناة الجزيرة، يبدو مفيدا توضيح أن نقاشي سيكون من داخل حلبة الراغبين في تطوير أدائها، وليس المطالبين بهدم تجربتها، إقرارا بالإضافة الهامة التي قدمتها للمشهد الإعلامي العربي منذ تأسيسها، لدرجة جعلت مشاهدة “حصاد اليوم”، طقسا يوميا للآلاف –وأنا أحدهم-، للحرفية التي تعمل بها طواقمها، والتقنيات الموظفة لخدمة نقل الخبر للمشاهد، والعناء الذي يتكبده مراسلوها للتواجد في عين الأحداث، وأخيرا وليس آخرا لهامش الحرية الذي يُحسن بعض المراسلين استغلاله، مقابل توفيق أقل للبعض الآخر.

لقد دشنت “أم بي سي” انفتاح العرب على الفضاء الإعلامي العالمي، وأتت بتجربة شكلت قطيعة إلى حد كبير مع أساليب الإعلام الحكومي ومحطاته الأرضية، وإن لم تواكبها نقلة بنفس العمق على صعيد الخطاب، مما استدعى وجود قناة تقتحم المساحات التي أحجمت الأم بي سي عن اقتحامها، وتحديدا في ميدان الأخبار، فكانت “الجزيرة”، التي شدت انتباه العرب من المحيط إلى الخليج، بالبناء على شعاري: الحرية الإعلامية، والرأي والرأي الآخر، عبر نشرات الأخبار، ومجموعة من البرامج لعل أشهرها “الاتجاه المعاكس”، “أكثر من رأي”، “شاهد على العصر”، “نقطة ساخنة”، “سري للغاية”، ثم “بلا حدود”، “الحوار المفتوح” وغيرها..

ومنذ البداية بدا أن القناة، ورغم عناوينها العامة التي استجابت لتطلع المشاهدين العرب لإعلام يشكل قطيعة مع قنواتهم الرسمية، تضم خليطا من المواهب والعقليات، بسبب تعدد مشاربهم وتجاربهم السابقة، مما أفرز تيارين متفاوتين في التعامل مع موضوع “الإثارة الإعلامية”، فلاحظنا أنه مقابل الهدوء والعقلانية التي تطبع أداء محمد كريشان، خديجة بن قنة، في الأخبار، وأسعد طه، غسان بن جدو، سامي كليب في البرامج، ينتصب معسكر آخر يمثله فيصل القاسم، سامي حداد، أحمد منصور ويسري فودة في البرامج، وجمال ريان وليلى الشايب وجمانة نمور وغيرهم في الأخبار. نفس التمايز في التعامل مع الإثارة ينسحب على المراسلين، فمقابل ممثلي المعسكر الأول من أمثال مراسلي، باكستان، أفغانستان، بريطانيا، فرنسا، ليبيا، السودان، إيران وسوريا..الخ، تصبح الإثارة هي سمة أداء ولب تغطيات مراسلي، مصر، المغرب، الأردن، وبدرجة أقل لبنان والولايات المتحدة وغيرهما.

لماذا هذه المحاولة للتقسيم؟ لأن منطلق النقاش المجدي في رأيي يبدأ من هنا، كما أن الأسئلة تصب في هذه النقطة وتتفرع منها، حيث أن غلبة تيار “الإثارة الصحفية”، والتعامل المبالغ فيه مع قضايا معينة يبدو السمة الغالبة لأداء “الجزيرة” دون أن نعدم وجها آخر يزيد مقدار العقلانية في طرحه ومعالجته للقضايا. وهنا يطرح التساؤل المشروع حول موقف القناة من قضية الإثارة الصحفية: هل هي منهج وفلسفة وأسلوب عمل؟ هل هي وسيلة لزيادة المشاهدة ولفت الانتباه؟ أم هو ببساطة انسجام الجزيرة مع المفهوم القائل بأن الصحافة هي البحث عن المثير بالتعريف، وأن كل خبر لا يحمل إثارة لا يثير الانتباه، وهو ما تشترك فيه مع صحف ومنابر إعلامية عربية عديدة، لدرجة تجعله التيار السائد..

ثاني الأسئلة التي تتفرع من هذه النقطة، يخص الرسالة الإعلامية: هل تخاطب الجزيرة “صناع القرار” في عالمنا العربي أم المشاهدين العاديين (الشارع العربي)؟ وإذا كان الأول هو الهدف، فهل يأتي خطابها محاولة لترشيد ممارساته السياسية والديمقراطية، وممارسة لدورها الرقابي كسلطة رابعة في مواجهته، أم أن أجندتها في مواجهة صناع القرار العرب تمييزية انتقائية تبعا لمصالح وأولويات دولة المقر؟ أما إذا كان الجمهور العادي هم الهدف والغاية، فهل يوجد لدى إدارة الجزيرة “سلم أولويات” واضح لاحتياجات المواطن العربي، وجرد بمشاكله، وفهم لأسباب معاناته، واهتمام بتغيير واقعه، وإدراك للأسلوب الأمثل لتغيير هذا الواقع عبر صناعة مواطن إيجابي مسؤول؟

هذان السؤالان هما الأهم، أما باقي الأسئلة- على وجاهة بعضها- والتي تبحث في النوايا وتمتح من “نظرية المؤامرة” فلا طائل من وراء نقاشها، لسبب بسيط هو صعوبة امتلاك أي دليل قطعي يؤكد أو ينفي ما يذهب إليه طارحوا الأسئلة ومفندوها في المعسكرين، وما ليس عليه حجة أو دليل، فمضيعة للوقت أن تشتغل به.

الآن، لنبحث قليلا في التساؤلين السابقين، ونحاول إسقاطهما على واقعة منع الجزيرة من العمل في المملكة المغربية، كلما كان ذلك مفيدا، حتى نصل في النهاية إلى الخلاصات. ولنبدأ بالتساؤل الأول الخاص بالإثارة الإعلامية، وهل هي هدف وفلسفة عمل بحد ذاتها، أم وسيلة وفهم معين للعمل الإعلامي؟

معلوم أن الإثارة، أية إثارة، تمتلك بعض السمات المشتركة والعامة، ربما كان مفيدا أن نبسط أهمها باختصار حتى يسهل تحديد موقف منها تبعا لمنهج “ما ينفع الناس” سالف الذكر. فهي، أي الإثارة، تخاطب الغرائز ومراكز الإحساس والتنبه السريعة، فيترتب عنها لذلك “شعور آني” وليس “فعل مدرك”، مما يقود ثانيا إلى اتسامها بسرعة التأثير/سرعة الزوال. ثالث سماتها أنها تقود لردود أفعال غير محسوبة، وبالتالي غير مسؤولة، أي، وهذه سمتها الرابعة، أنها لا تؤسس لفعل حقيقي في أي اتجاه، وخامسا، لا تحدث تراكما هو ضروري لنقل الجهود الجماعية من حالة إلى أخرى أرقى، وهذا يشير إلى سمتها السادسة، أي الفردية، إذ بسبب تفاوت البشر في حساسية استقبالهم للإثارة، يبقى التعامل معها فرديا وليس جماعيا، حتى ولو توهمنا أنها يمكن أن توجه جماعة بكاملها، لاسيما من بني البشر، لأن هذا القطيع من البشر سيكونون ساعتها مقودين بغرائزهم، وهو ما لا يعني بحال سمة جماعية إيجابية. وبسبب تغييبها للعقل كمخاطب، تبدو خلاصة الموقف من الإثارة، أنها لا تؤسس لفعل إيجابي. وهنا تستوي الإثارة الخطابية، الإعلامية، وباقي أنواع الإثارة.

من هنا، يستوي لدينا أن تكون شحنة الإثارة العالية التي تحملها الرسالة الإعلامية لقناة الجزيرة، بشكل عام، أخبارا وبرامج، ناتجة من اعتبارها وسيلة جذب انتباه، وتلك مصيبة، أو نابعة من إيمان بنجاعة الإثارة الإعلامية واعتبارها هدفا بحد ذاتها، وساعتها تلك مصيبة أعظم إن لم نقل جريمة في حق مواطنينا ومجتمعاتنا، جريمة تشترك فيها كل القنوات التي تعتمد الإثارة منهجا وفلسفة عمل، (قنوات الترفيه، الأخبار، الفيديو كليب، الرسائل…الخ).

إن الإثارة الإعلامية، والجزيرة مثال عليها في الميدان الإخباري (بشكل من الأشكال حتى لا نفهم بالمطلق)، إما أنها وسيلة غير واعية، وساعتها يبدو واضحا أنها لن تقود لأي فعل إيجابي جماعي يؤدي إلى التراكم والبناء وخدمة “ما ينفع الناس”، وإما أنها هدف مقصود ومخطط له، وساعتها يكون واضحا أن المطلوب هو عدم توليد شعور جماعي إيجابي، يعلي من قيمة العقل، ويقود بالتالي إلى نقاش واع للمشاكل الجماعية، ويؤسس لفعل جماعي بنّاء ينقل الجماعة (وتاليا الأمة) إلى واقع أفضل وأرقى.

وإذا أسقطنا ذلك على الحالة المغربية (والمصرية، والأردنية، واليمنية…الخ)، نفهم أن كل مسؤول واع للنقطة السابقة، سيجد صعبا عليه بمكان، السماح للجزيرة أو غيرها –أن تعبث بقصد أو دون قصد- بالمشاعر الجماعية لمواطنيه، بالتركيز على ما هو “مثير وسلبي” عند تغطيتها لقضاياه، والحالة هنا أن هذا المثير قد يكون الجرائم، المخدرات، الدعارة، الرشوة، التهريب، الهجرة السرية، وكلها مشاكل موجودة بنسب متفاوتة، ولا ينفرد بها بلد دون آخر في العالم كله، وتبتعد بالمقابل عن تناول قضايا البناء، المشاريع الكبرى التي بطبيعتها تحتاج وقتا طويلا نسبيا حتى تعطي ثمارها، والأهم تحتاج لثقة المواطنين بنتائجها، وانخراطهم بالتالي في مؤازرتها ودعمها والقيام بمهامها، وهو ما يحتاج أولا وقبل كل شيء إلى تكريس “ثقة الناس” بانفسهم، واطمئنانهم إلى صدق من يرعى هذه المشاريع، أي بكلمة واحدة إلى “الأمل” وليس التشكيك الأبدي بجدوى كل حركة وكل مشروع وكل جهة تتصدى لتنفيذ أي شيء يمكن “أن ينفع الناس”.

أما إذا كان هاجس الإثارة مرتبطا بالبحث عن “جماهيرية” منشودة، تستجدي تصفيق المشجعين، عفوا المشاهدين، لنجوم وصانعي الفرجة الخبرية والتحليلية، ساعتها ندخل في نقاش ليس هذا مجاله، حول المفاضلة بين “نخبوية” هذه الوسيلة الإعلامية مقابل “جماهيرية” تلك، ليس فقط لاختلاط المفهوم الأخير “بالشعبوية” والديماغوجية، أو ارتباط الأولى بالانغلاق و”الاستغلاق”، وإنما لأن نخبوية هذه الوسيلة أو جماهيرية تلك، لا تكفي مقياسا للحكم على مدى “نفعها الناس”.

نأتي الآن للتساؤل الثاني الخاص “بخطاب” الجزيرة، وما إذا كان موجها للمسؤولين العرب أم لمواطنيهم، حيث أن الإجابة القائلة بأنه موجه للإثنين لن تقفل باب التساؤل، لأنها تستدعي سؤال: كيف، وبأية نسبة؟ وحتى لا ندخل في متاهة الدراسة الإحصائية الكمية لتحديد حجم الرسائل الموجهة لكل طرف، نناقش كل واحد منهما على حدة.

إذا كان الخطاب الأساسي للجزيرة موجها لصاحب القرار العربي، سيكون الفرض الأول أن محركه إيجابي وغايته نبيلة، وأنه يهدف من بين ما يهدف إلى ترشيد ممارسة هذا المسؤول في إدارة الشأن العام، وممارسة للدور الرقابي المنوط “بالسلطة الرابعة”، كعين للمواطنين على ولاة أمورهم، وأنه –أي خطاب الجزيرة- يحمل على عاتقه هم محاربة الاستبداد السياسي في العالم العربي. طبعا حتى نثق بجملة الأهداف النبيلة السابقة، لا بد أن تصدقها الممارسة أو العمل، وهو ما لا نجد عليه شواهد كثيرة، حيث أن الإثارة الإعلامية طاغية في تغطية المحطة للقمم العربية مثلا، حيث يكون تاريخ الآخر من مارس موعدا للسوق السنوي للجزيرة، “للردح والندب” على حال الأمة العربية، والتهكم على قمة رؤسائها (مع الإقرار طبعا بأن هناك الكثير مما يمكن انتقاده في هذه القمم)، لتكون الخلاصة عادة في نهاية اليومين رسالة بسيطة للمواطنين العرب، وعلى لسانهم، تلك العبارة المأثورة عن الزعيم المصري سعد زغلول: “مافيش فايدة”.. لن يتغير شيء في الواقع العربي، وستبقى الامور على حالها، ويعود كل منا إلى مصيره الفردي، يواجهه بدون أدنى أمل في النجاح، أو التفاؤل بمستقبل أفضل لأبنائه، ودون أن يستفيد بالطبع من التغطية الإعلامية المثيرة، للجزيرة وأخواتها، في تبين أي ملامح لأي طريق تؤدي إلى عمل جاد وناضج وعقلاني يفيد في تغيير هذا الواقع “الأسود”.

مصدر خطر آخر في تغطية الجزيرة المثيرة والمنحازة وأحادية الجانب لممارسات مسؤولينا، التي فيها الكثير مما لا يسر، أنها تُخرج المنتقد من خانة الموضوعية. فوجود أناس يحفظون أماناتهم ويؤدون بمسؤولية وضمير في مختلف مواقع القرار والمسؤولية، إضافة لضغط الأوضاع العالمية المتغيرة في الميدان الاقتصادي مثلا، لا بد وأنها تقود إلى إحداث تغيير هنا وهناك في هذه الممارسة أو تلك، بل وتجعل مسؤولينا، حتى بدون إرداة أو رغبة منهم أحيانا، يقدمون على خطوات إصلاحية كثيرة، من الطبيعي أن يتفاوت موقفنا من أهميتها وعمقها، لكن من المهم أن نقر بوجودها، وأن نشجعها بغض النظر عن دوافعها ومسبباتها، ونطالب بالمزيد بأسلوب هاديء ورصين، لا أن ننكرها جملة وتفصيلا، أو نبخسها حقها إن لم يكن بالإمكان إنكارها، لأن من شأن هذا السلوك الإنكاري إما أن يردع المسؤول عن الإقدام على أية خطوات إصلاحية أخرى بدعوى أننا لا نستحق أو لا نقدّر، أو سيتخذ تجاه الوسيلة الإعلامية موقفا سلبيا يحرمها من التواصل والعمل في ساحته، وهو ما حصل للجزيرة في أكثر من بلد عربي، وآخرها المغرب، وتصوروا معي حجم الضرر الذي سيصيب الجزيرة، وسيصيبنا بالتأكيد معها، لو تكرر هذا المنع، بحق أو بدون وجه حق، مع الجزيرة في مصر والأردن وفلسطين واليمن والجزائر مضافا للسعودية والبحرين وربما الكويت.. ماذا ستقدم لنا من أخبار؟ وما الذي ستجنيه من “إثارتها”؟

هذا يجعلنا نعرج على ثنائية أسالت المداد الكثير في الجدل الدائر بين وسائل الإعلام والسلطات الحكومية، وأقصد ثنائية “الحرية” و “المسؤولية”. والخلاصة في رأيي هي إن جوا تنعدم فيه الحرية لا ينبت وسائل إعلام مسؤولة. وبنفس المقدار، فإن كثرة وسائل الإعلام غير المسؤولة، لا تشجع على وجود مجال الحرية ناهيك عن توسيعه. ومن هنا، يبدو عقم محاولة البحث في أسبقية وجود هذا الشرط على ذاك: هل نوفر لوسائل الإعلام حرية “بدون ضوابط”، على اعتبار أن الممارسة الإعلامية هي التي ستفرز الأصلح في النهاية، وأن الناس هم الذين سيرشدون ممارساتها مع الوقت، وهي مقولة خطرة، أثبت تطبيقها المنفلت في ميادين أخرى كاقتصاد السوق خطورتها على المجتمعات كلها، أم نبقي الشأن العام مغلقا أمام نسمات الحرية، ومحتكرا بدون رقابة من قبل ممارسيه، حرصا على “سلامة المجتمع من التيارات الدخيلة” و “عاداتنا وتقاليدنا وخصوصياتنا”،، وباقي مفردات أسطوانة الاستبداد المشروخة، وهو أمر لا يزيد مجتمعاتنا إلا تفسخا ووسائل إعلامنا إلا تخلفا.

وكما إن ارتهان ممارسة السلطة “لضمير ونزاهة” رجالها مضر مثل ضرر ارتهان ممارسة الصحافة “لأخلاق ورؤى” ممارسيها، وجب أن تكون القيمة الحاكمة في حسم هذا النقاش هي إيجاد فهم وتعريف مشترك “لما ينفع الناس”، لأن أي معيار آخر لن يجيب سوى على جزء من الأسئلة، وبالتالي يحل جزءا من المشاكل.

وهنا نسجل باستغراب احتجاج الجزيرة ومعسكر المدافعين عن “حريتها” في العمل (أو العبث) في قضايا المغرب الحساسة، ضد قرار منعها، دون أن يكون بمقدورهم تفهم دوافع المسؤولين المغاربة في الدفاع عن “مسؤوليتهم” في حماية مجتمعاتهم وقضاياهم الوطنية. إن منطق دفاع الجزيرة عن حريتها يواجهه منطق دفاع الحكومة عن مسؤوليتها، ولا حل سوى بإيجاد توافق أو تفاهم حول ضوابط هذه “الحرية” وحدود هذه “المسؤولية”.

إن التقدم الذي يشهده المغرب على مختلف الأصعدة: إدارة الشأن العام، الاقتصاد، حقوق الإنسان والحريات العامة، البنية التحتية، مكافحة الفقر والبطالة، فك العزلة عن العالم القروي وتوسيع دائرة المستفيدين من الخدمات الاجتماعية، تصالحه مع ماضيه ومحاولة طي صفحة الاعتقال السياسي، وانخراطه في قضاياه العربية، وغيرها الكثير مما يضيق به مجال هذا المقال، تقدم لا يمكن لاي جاحد إلا أن يقر به ويسجله، ويزيد تقديره له إذا وضعه في سياق الواقع العربي والدولي المقارن خلال العقدين الماضيين. لكن كل هذا التقدم، لا يمنع من الحديث عن الحاجة لمضاعفته مرات ومرات ليرتفع إلى مستوى الإجابة على حاجات الناس وعلاج مشاكلهم الحقيقية، وهو الأمر الذي لن يتأتى من خلال الإنكار البسيط لكل هذا التقدم، واستمرار تكرار أن كل شيء على حاله، وأن الأمور لا تتقدم إلا إلى الخلف، بل من خلال إشاعة روح التفاؤل الإيجابي المسؤول بين الناس، بالإقرار بأن هناك أشياء إيجابية كثيرة تحققت، ولا زلنا بحاجة لتكريس العمل أكثر على جبهات، تصحيحه على جبهات، وتدشينه في جبهات أخرى لم يبدأ العمل الحقيقي فيها بعد.

من المهم لقناة الجزيرة أن تعلم أن الانطباع الذي يشترك فيه المغاربة مسؤولين ومواطنين حولها، هو أن المشاهد لتغطية القناة الإعلامية للشأن المغربي، يخرج بانطباع وحيد مفاده أنه لا وجود لأي شيء إيجابي في المغرب، حصل أو حتى يمكن أن يحصل، وهي نبرة تقتضي الأمانة أن نقر بأن الجزيرة تشترك فيها مع كثير من وسائل الإعلام المغربية “المستقلة”، للأسباب التي لا تخرج عما سبق بسطه.

أما الفرضية الثانية الخاصة بخطاب الجزيرة لصاحب القرار العربي فهو أن تكون الجزيرة لا تنطلق من أجندة خاصة صاغتها إدارة القناة، وإنما أملتها توازنات وحسابات دولة المقر، وهنا ليس المقام مقام ترجيح أو نفي هذا الأمر، وإنما نقاش لهذه الفرضية، والتي يدعمها في رأي المؤمنين بها بعض علامات الاستفهام والملاحظات نجمل أهمها فيما يلي: لماذا يوجد تمييز في حجم الإثارة التي تتناول فيها الجزيرة قضايا البلدان العربية، تمييز يبدأ من اختيار المراسلين كما أسلفنا، بشكل يحصر “الصداع” في دول كالمغرب، السلطة الفلسطينية في رام الله، مصر، الأردن، البحرين، السعودية، تونس، اليمن، وبدرجة أقل لبنان، ليبيا، موريتانيا، وأحيانا قليلة الجزائر، بينما تنعم سوريا، السودان، سلطة حماس في غزة، الإمارات، عمان، وإيران بشهر عسل شبه دائم؟ طبعا مع إقرار الجميع أن الشأن القطري يبقى “طابو” أين منه الشأن الإلهي!!!

يضاف لذلك ملاحظة أو تساؤل يسجل ارتباط النبرة تجاه السعودية تحديدا، بترمومتر العلاقة السعودية القطرية، صعودا أو هبوطا.

تساؤل آخر يرى أصحابه أنه يصب في نفس اتجاه تأكيد انتفاء صبغة الذاتية عن اجندة الجزيرة، يثار حول عدم التطرق لمسار العلاقة القطرية الإسرائيلية، والقطرية الأمريكية، (مقابل التركيز على نظيرتها المصرية والأردنية وأحيانا المغربية)، بما في ذلك موقف قطر من إغلاق المكتب التجاري في الدوحة أثناء العدوان على غزة، وكذا موقفها من استضافة أكبر قاعدة أمريكية خارج الولايات المتحدة.

هذا التمييز يلقي من جهة عبأ كبيرا على “الصورة الحيادية” للجزيرة ومصداقيتها، وهي تحاول تسويق نفسها كطرف موضوعي يحاول الإسهام في تصحيح الشأن العربي الرسمي، ومن جهة أخرى يلقي بظلال كثيفة حول مدى “قومية” و “إسلامية” خطاب الجزيرة وأولوياتها. فالجزيرة التي يرى الكثيرون أنها طالما شكلت منبرا منحازا لحركة حماس (لا يهم هنا تحديد موقف من صواب هذا الاختيار)، ودافعت عن أطروحاتها ضد غريمتها “فتح”، وجعلت كثيرا من ممثلي هذا التيار الفكري (الذين نحترم كثيرا مما يقولون) ضيوفا دائمين على المشاهد العربي، حرصت في المقابل على أن تكون قناة للرأي الآخر.. “الإسرائيلي”، وهذه قصة أخرى، لا ندري ما علاقتها في أحيان كثيرة بشعار القناة، ولماذا يحتاج المواطن العربي في رأي الجزيرة، أن يكون على اطلاع بتفاصيل وحجج وتفسيرات الرأي الآخر الإسرائيلي لجرائمه التي يرتكبها بحق أبناء الشعب الفلسطيني والعربي. وتستمر تساؤلات هذا الفريق: كيف تستقيم “قومية” الجزيرة، وصمتها عما تمثله قاعدة “العديد” الجوية الأمريكية بقطر؟ والتي يرون أنها كانت الفاعل الأساسي في حرب الولايات المتحدة على العراق، (مقابل إغلاق قاعدة إنجرلك التركية في وجه الطائرات الأمريكية) وفي بسط السيطرة الأمريكية على الأرض العربية. أكيد أن هذا شأن سيادي قطري، لكن الأكيد كذلك أن للدول العربية موضع مراقبة وانتقاد الجزيرة شؤونا سيادية بدورها.

وأخيرا، كيف تستقيم “إسلامية” الجزيرة، مع حرصها على “إتحاف” المشاهدين بالرسائل “الكاملة” لشيوخ القاعدة، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري؟ بل كيف يستوي تجاور الدكتورين يوسف القرضاوي وأيمن الظواهري اللذان يحملان خطابين متناقضين في مكان واحد، باستثناء طبعا كونها “قناة الرأي والرأي الآخر”!!!

وبالنسبة للمغاربة مرة أخرى، كيف يمكن للجزيرة أن تكون عربية الهوى والاهتمام، قومية التوجه، وتترجم حرصها على الرأي الآخر بتشكيل “قناة إعلامية” معبرة عن أطروحات ومواقف الإنفصاليين في جبهة البوليساريو في نزاعها مع المغرب؟ هذه النقطة التي أفاضت كأس العلاقة بين المغرب والجزيرة، وحّدت المغاربة صفا واحدا في رفض ما يصفونه “سلوك الجزيرة غير الحيادي والمنحاز لجبهة البروليساريو”، لأن المغاربة، وهذا ما لم تقدره الجزيرة حق قدره ربما، موحدون بصدق في هذه المساحة أكثر من أية مساحة أخرى. وهكذا يبدو معظم المغاربة متفقين في الرأي على أنه إما أن تكون الجزيرة مؤمنة فعلا “بحق ما يسمى “الشعب الصحراوي” في تقرير مصيره وإنشاء دويلة خاصة في الجنوب المغربي” وهو ما ينسف كل أساس وطني أو قومي أو إسلامي لخطاب الجزيرة، وإما أن موقفها موجه ضد الحكومة المغربية، بتأثير قطري أو جزائري أو غيره.. أما “سلعة” الحياد والموضوعية والرأي والرأي الآخر التي تحاول الجزيرة تسويقها، فلن تجد من يشتريها، في المغرب على الأقل، عندما يتعلق الأمر بالوحدة الترابية للمغرب أو غيره من البلدان العربية. طبعا، ليس المطلوب في المقابل أن “تطبل” الجزيرة لكل سياسة أو إجراء تقوم به الحكومة المغربية في هذا الملف، بل أن تراعي حساسية قضايا الدول المصيرية، إن لم تكن مؤمنة بها من الناحية القومية.

إن حضور بوصلة “ما ينفع الناس” هنا، كان سيفيد الجزيرة في تغطيتها لقضية الصحراء المغربية، بالتساؤل ببساطة: هل يفيد المواطنين المغاربة، بمن فيهم مواطني الصحراء أنفسهم، والمواطن العربي في كل مكان بالمحصلة، أن يزيد عدد الدول العربية ليصبح 23 أو أكثر؟، أم المفيد أن يكون هؤلاء الصحراويون جزءا عزيزا من وطن عزيز، بصلاحيات إدارية ذاتية غير مسبوقة في عالمنا العربي، ليكونوا النموذج القابل للتعميم لمساهمة المواطنين العرب في إدارة شأنهم المحلي بحرية، بتوازن مع سلطات الإدارة المركزية، وبما يعطي نفسا قويا للتنمية المحلية، ويختزن بداخله حلولا إبداعية لمشاكل التباعد الجغرافي، والتباين الإثني والمذهبي الموجودة في معظم الدول العربية، والتي تهدد بتفجير أوضاعها بأشكال ونسب متفاوتة.

نخرج من ساحة صاحب القرار العربي ومشاكله مع خطاب الجزيرة، لننظر في مدى حضور الناس أو المواطنين العاديين في ذهن الرسالة الإعلامية للمحطة. لقد قدمت الجزيرة، ولا تزال، مبادرات ولمحات براقة وغير مسبوقة في التعاطي مع شان المواطنين العاديين، وجدت تجسيدها عبر البرامج أكثر مما وجدته في نشرات الأخبار، فكانت برامج “زمام المبادرة”، “خير جليس في الزمان كتاب” وغيرها من البرامج الإبداعية عن فنون المقاومة وقصص الناس البسطاء، إضاءات في واقع إعلامي عربي لا يسر، لكن مع ذلك يبقى التساؤل المشروع: هل هي اجتهادات ومبادرات فردية؟ أم هي سياسة وخيار واع للمحطة؟ أم تكمل ديكورا فسيفسائيا؟ أم شيئا غير ذلك… إن جمع خيار “ما ينفع الناس” ويعبر عنهم بعيدا عن الإثارة ومناكفة بعض الأنظمة، وما يحمله شعار “الرأي والرأي الآخر” من مغالطات ومفارقات هو أمر لا يستقيم. إن الخدمة الواعية للناس، تقتضي حكما وبالضرورة، امتلاك تحديد واضح للمشاكل التي يعاني منها العرب أفرادا وأنظمة ومجتمعات، وتحديد أدق للمشاكل الأساسية وتلك التي تتفرع عنها، حتى لا نتلهى بالعرض عن المرض، كما يفترض بلورة تصور (عبر فتح نقاش عقلاني عام حوله) لكيفية رفع هذه التحديات، ومواجهة هذه المشاكل، وإيجاد الحلول التي تضع المواطن في صلب اهتمامها وتوجهاتها، وهي مهمات، في أفضل الحالات، لم تثبت الجزيرة بممارساتها وخياراتها الإعلامية المعتمدة على الإثارة، لا إدراكا لها أو اهتماما بامتلاكها، لأن من طبيعة هذه الجهود الإصلاحية أن تكون مجمعة لا مفرقة، مبنية على الثقة بالنفس والأمل في المستقبل، لا على التشكيك بالذات والتشاؤم حيال ما هو آت..

وهنا نخلص إلى ما نريده للجزيرة ومنها، وهي القناة التي شكلت إضافة كبيرة للمشهد الإعلامي العربي، لكن من الإجرام بمكان بحق المواطن العربي ان تبقى سقفا لطموحه الإعلامي، ومعيارا للتعاطي الإعلامي مع قضاياه. ويمكن تلخيص أول وأهم هذه المطالب، والذي بتلبيته سيتم تجاوز السلبيات التي أوردناها سابقا، في قيام القناة بإعادة تكييف رسالتها لتهتم “بما ينفع الناس” حقيقة، بدلا من اهتمامها الشكلي المليء بالمزالق والألغام “بالرأي والرأي الآخر”. لأن الإقرار “بمهارتها التي لا تفيد أحدا” لن يفيدها ولن يفيدنا بالضرورة.

وهنا، من المهم الإشارة إلى أن أول مؤشر على حدوث تغيير في عقلية الإثارة التي تحكم سياسة الجزيرة يتمثل في اتخاذ خطوة تأخرت سنوات كثيرة، ألا وهي إيقاف برنامج “الاتجاه المعاكس” والذي يعتبره الكثيرون جريمة ترتكبها الجزيرة في حق مشاهديها الذين لا تستهويهم الإثارة المفتعلة لمقدمه الدكتور، إذ أن إيجاد شيء واحد “ينفع الناس” في هذا البرنامج المحكوم بعقلية صاحبه المسكون بالإثارة (هذه توصيفات غير قدحية كما أرجو)، يمكن أن تنضاف للغول والعنقاء والخل الوفي كمستحيل رابع. كما أن برامج “النواح” الجماعي من قبيل “منبر الجزيرة” منبر من لا منبر له، لن تفيد في إحداث أي تغيير إيجابي في عقلية ونفسية المواطن العربي، وعليه سيكون من الأفضل لو حذفت أو أعيد تكييفها لتفيد الناس بأي شيء، غير “تعويدهم على حرية التعبير”، حيث أن حاجتنا الآن هي لحرية ونضج التفكير لا التعبير.

إن معركة كل مواطن من المحيط إلى الخليج، هي في امتلاك زمام أمره، والتحول إلى كائن تحترم السلطة رغباته وتوجهاته وتراعي احتياجاته عند وضع السياسات العامة، كما أن طموحه أن تحمل سياسات دولنا العربية أكبر قدر من ملامحنا، وتؤمن مستقبل أبنائنا، وتضمن لنا حياة كريمة تضعنا في المكان الذي يليق بنا بين الأمم. وأهم عدو لهذه الاهتمامات والأهداف، اعتماد “الإثارة” وسيلة للتعاطي مع مشاكلنا، وكذا الدخول طرفا في المشاكل السياسية الثنائية العقيمة بين هذا البلد العربي وذاك، ناهيك عن صب الزيت على هذه المشاكل.

إن رفضنا للاستبداد السياسي الذي يمارس في العديد من دولنا العربية، ومقاومتنا لخيارات ممثليه الاجتماعية والاقتصادية المنسجمة مع تصورهم لمصالحهم الخاصة، والتي يغيب المواطن البسيط ومصالحه عن توجيهها، ورغبتنا في العيش في وطن عربي متكامل ومترابط حر عزيز، وفق شروط حياة كريمة، لا تنفي إمكانية البحث عن قواسم مشتركة مع المسؤولين عن إدارة شأننا العام، لأن التحديات المفروضة على مجتمعاتنا هي من العظم بحيث لا يمكن رفعها والرد عليها إلا عبر مشروع مجتمعي يتفق أفراد المجتمع على غاياته وآلياته، وينخرطوا جميعا في القيام بأعبائه كل في موقعه، ويضربوا على يد كل من يحاول العبث به، لأن الفشل سيودي بالجميع لا طرفا بعينه. فهل تكون “الجزيرة” أحد الأطراف الناضجة التي تنخرط في هذا النضال الحقيقي “الذي ينفع الناس”، أم ستبقى أسيرة أجندات ملتبسة، ومعارك إعلامية بدون عائد حقيقي على قضايانا الأهم، متباهية “بمهاراتها التي لا تفيد أحدا”؟؟!!!

هيثم شلبي (كاتب وصحفي فلسطيني)

hayshal@gmail.com