تراجع السيادة الوطنية في ظل التحولات الدولية

ملخص المقالة” تراجع السيادة الوطنية في ظل التحولات الدولية “

أن السيادة الوطنية للدول باتت تواجه وضعاً خطراً شهد تفاقماً واضحاً لقيود عرفتها هذه السيادة منذ وقت ليس بالقصير إن لم يكن منذ نشأة الدولة الوطنية ذات السيادة أصلا، ووصلت الأمور على هذا النحو إلى حد أن بات فريق من المحللين والمعلقين يتحدث عن زوال أو اختفاء ظاهرة السيادة الوطنية،وهو حكــم يراه البعض مبالغاً فيه، وإن كان ثمة اتفاق على خطورة ما ألم بالسيادة الوطنية للدول المتوسطة والصغيرة بصفة خاصة. فواقع الأمر أن ظاهرة السيادة الوطنية لم تنته تماماً، إذ مازالت هناك فئة من الدول قادرة على أن تختلف مع الإرادة الأمريكية دون أن تختفي من خريطة العالم كما حدث بالنسبة للاتحاد السوفياتي، فالصين وبعض الدول الأوروبية وبعض الدول ذات الأدوار الإقليمية القيادية مازالت قادرة على التعامل مع تلك الإدارة بحسابات رشيدة، ومعقدة تجعل القيود على سيادتها في حدها الأدنى، أو على الأقل ترسم خطاً أحمر أمام المصالح الحيوية لتلك الدول لا يمكن للقيود على السيادة أن تتجاوزه، ومن المؤكد أن تعزيز التطور الديمقراطي الداخلي في الدول سوف يزيد من قدرتها على تحدي القيود الخارجية على سيادتها بقدر ما يوجده هذا التطور من مجتمع متماسك في وجه محاولات الهيمنة الخارجية، وكذلك بقدر ما يقضي على بعض ذرائع التدخل في الشؤون الداخلية للدول ومنها القول بانعدام الديمقراطية أو عدم احترام حقوق الإنسان فيها.

و مما أدى من تحولات على الساحة الدولية على إثر العولمة و ما لها من تأثيرات على الجوانب الدولية، و منها السيادة الوطنية ، و مبدأ استقلال الدول .الذي شابته عدة تيارات مما أدى إلى التأثير عليه بالجانب السلبي ، و هذا يعاني منه الدول الفقيرة على حساب الدول الغنية ، أدى بنا إلى البحث على مدى تواجد السيادة الوطنية على الساحة الدولية ، و ما مدى تطبيق أو وجود مبدأ الذي هو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ، والتي نص عليها ميثاق هيئة الأمم المتحدة في المادة الثانية الفقرة السابعة

وقد تعرضت نظرية السيادة في العصر الحديث لانتقادات جوهرية وهجرها الكثير على اعتبار أنها لا تتفق مع الظروف الحالية للمجتمع الدولي، والواقع أن نظرية السيادة أسيء استخدامها لتبرير الاستبداد الداخلي والفوضى الدولية. ولقد أدت هذه النظرية إلى إعاقة تطور القانون الدولي، والى عرقلة عمل المنظمات الدولية والى تسلط الدول القوية على الدول الضعيفة.وقد اتجه مفهوم السيادة في الوقت الحاضر نحو منحى جديد، ذلك أن تحولات النظام الدولي في الميادين الاقتصادية والسياسية والعسكرية أدت إلى انحسار و تآكل فكرة سيادة الدولة الوطنية

تعد السيادة من الأفكار الأساسية التي أسس عليها صرح وبنيان القانون الدولي المعاصر، وقد مرت نظرية السيادة بمراحل متعددة ، فبعد أن كان نطاق السيادة الدولة على شعبها وإقليمها مطلقا، فإن تطور العلاقات الدولية على مر الزمن حمل معه تعديلا على هذا النطاق بصورة تدريجية.[1]

ويقول برتراند بادي: ” بأن مبدأ السيادة لم يكن موجودا دائما وأنه لا ينتمي إلى التاريخ بل إلى حقبة تاريخية معينة وأن هذا المبدأ تم بناؤه من أجل التمييز المطلق بين الداخل والخارج، ولكن هذا التمييز بين الداخل والخارج أصبح نسبيا، فالتناقضات والتساؤلات وعدم اليقين أصبحت ميزة المسرح الدولي الوليد”[2].

وقد تعرضت نظرية السيادة في العصر الحديث لانتقادات جوهرية وهجرها الكثير على اعتبار أنها لا تتفق مع الظروف الحالية للمجتمع الدولي، والواقع أن نظرية السيادة أسيء استخدامها لتبرير الاستبداد الداخلي والفوضى الدولية. ولقد أدت هذه النظرية إلى إعاقة تطور القانون الدولي، والى عرقلة عمل المنظمات الدولية والى تسلط الدول القوية على الدول الضعيفة.وقد اتجه مفهوم السيادة في الوقت الحاضر نحو منحى جديد، ذلك أن تحولات النظام الدولي في الميادين الاقتصادية والسياسية والعسكرية أدت إلى انحسار و تآكل فكرة سيادة الدولة الوطنية..

أولا: مفهوم السيادة الوطنية و الآثار المترتبة عليها:

بينما كان الطرح الكلاسيكي للسيادة يعبر عن واقع تمركز السلطة المطلقة بيد الملوك، فإذا بالدول الجديدة تلجأ إليه لرفض واقع تهيمن فيه الدول الكبرى، حيث أصبحت السيادة سلاح الدول الضعيفة في مواجهة الدول القوية، ومن أجل معالجة هذا التطور الحديث لا بد من توضيح مضمون السيادة وأثارها.

1- تحديد مفهوم السيادة:

السيادة وضع قانوني ينسب للدولة عند توافرها على مقومات مادية من مجموع أفراد وإقليم وهيئة منظمة وحاكمة، وهي تمثل ما للدولة من سلطان تواجه به الأفراد داخل إقليمها وتواجه به الدول الأخرى في الخارج، ومن مقتضيات هذا السلطان أن يكون مرجع تصرفات الدولة في مختلف شؤونها إرادتها وحدها[3]. ويعني ذلك أن سلطة الدولة في الداخل والخارج لا يعلوها أية سلطة،فبعد أن عرفها بودان “بأنها السلطة العليا على المواطنين والرعايا والتي لا تخضع للقوانين” نجد أن عددا كبيرا من الفقهاء اتفقوا على أوصافها: واحدة، لا تتجزأ ولا تقبل التصرف وغير خاضعة للتقادم المكتسب أو للتقادم المسقط[4]. ويمكن الاعتماد على تعريف محكمة العدل الدولية في قضية مضيق “كورفو” سنة 1949 في أن “السيادة بحكم الضرورة هي ولاية الدولة في حدود إقليمها ولاية انفرادية ومطلقة، وان احترام السيادة الإقليمية فيما بين الدول المستقلة يعد أساسا جوهريا من أسس العلاقات الدولية”.[5]

فداخليا تتمتع السيادة بمضمون ايجابي من خلال سموها بالنسبة لأفراد المجتمع، ويتضمن ذلك الحرية التامة في اتخاذ القرارات ووضع القوانين والأنظمة والاحتكار الشرعي لأدوات القمع.أما خارجيا، فإن مضمون السيادة يصبح سلبيا، وذلك بعدم قبول أية سلطة أعلى منها، فالسيادة الخارجية تعني أن الدولة لاتقر سلطة فوقها، فلا تقيدها في الميدان الدولي إلا العهود والاتفاقات الدولية التي عقدتها هي نفسها معبرة في ذلك عن سيادتها واستقلالها في أمرها. فالسيادة هي المعبر عن أعلى درجات السلطان في الدولة، وهي تأخذ المضمون الايجابي داخليا والمضمون السلبي في العلاقات الدولية[6].

2- الآثار المترتبة على السيادة:

تترتب على فكرة السيادة العديد من الآثار أهمها:

* تتمتع الدول بكافة الحقوق والمزايا الكامنة في سيادتها، سواء على الصعيد الدولي كإبرام المعاهدات الدولية، وتبادل التمثيل الدبلوماسي والقنصلي وإثارة المسؤولية الدولية للمطالبة بالتعويض عن الأضرار التي أصابتها أو تصيب رعاياها أو إصلاح هذه الأضرار.

وعلى المستوى الداخلي فللدولة حق التصرف في مواردها الأولية وثرواتها الطبيعية، كما يمكنها اتخاذ التدابير التي تراها مناسبة حيال الأشخاص المتواجدين على إقليمها بغض النظر صفتهم كمواطنين أو أجانب.

* المساواة بين الدول: تترتب على السيادة كذلك أن الدول متساوية قانونا، إذ ليس هناك تدرج في السيادات، معنى ذلك أن الحقوق والواجبات التي تتمتع أو تلتزم بها الدول متساوية من الناحية القانونية حتى ولو كان هناك اختلاف بينها من ناحية الكثافة السكانية أو المساحة الجغرافية أو الموارد الاقتصادية.

غير أن مبدأ المساواة في السيادة الذي أقره ميثاق الأمم المتحدة ليس مطلقا، فهناك العديد من الحقوق تتمتع بها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ولا تتمتع بها الدول الأعضاء الأخرى منها استخدام حق النقض( الفيتو) وحق تعديل الميثاق.[7]

إلا أن هناك على صعيد آخر اتجاه في القانون الدولي يرمي إلى محاولة معالجة عدم المساواة الفعلية، عن طريق وضع قواعد قانونية تقلل من الفروق الصارخة حاليا عدم جواز التدخل في شؤون الدول الأخرى: لعل من أصعب المهمات التي اعترضت الفقه في القانون الدولي وضع تعريف دقيق لما يعبر عنه بالتدخل على المستوى الدولي. فهناك من عرفه بأنه “تدخل دكتاتوري من طرف دولة في شؤون دولة أخرى قصد المحافظة على الوضعية الحالية أو تغييرها بهدف المساس بسلامة التراب الوطني والاستقلال السياسي لهذه الدولة”.

ويحظر القانون الدولي تدخل أية دولة الشؤون الداخلية لدولة أخرى، إذ كل دولة حرة في اختيار وتطوير نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، دونما تدخل من جهة أخرى.
غير أن سيادة الدولة مقيدة بأحكام القانون الدولي وخاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وارتكاب جرائم الحرب وجرائم إبادة الجنس البشري. فالدولة ليست مطلقة التصرف في ميدان العلاقات الدولية، إذ هي تخضع للقانون الدولي الذي هو مفروض على الدول بناءا على اعتبارات تعلو على إرادتها والذي يورد قيودا على تصرفات الدول، ويحكم علاقاتها مع الدول الأخرى ومع الهيآت الدولية.[8]

ثانيا: نطاق السيادة و المتغيرات الدولية الراهنة:

مرت نظرية السيادة بمراحل متعددة، فبعد أن كان نطاق سيادة الدولة على شعبها وإقليمها مطلقا، فإن تطور العلاقات الدولية على مر الزمن حمل معه تعديلا على هذا النطاق بصورة تدريجية.
إن السيادة الوطنية في الوقت الراهن اهتزت، لكونها عرفت العديد من التحديات على صعيد العديد من القطاعات سواء في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، سواء أرادت الدول ذلك أم أبت، مما يجعلنا نتساءل حول أوجه التأثير على مظاهر سيادة الدول خلال فترة النظام العالمي الجديد.

تمثل العولمة عملية مدارة أي أنها تتمثل في مجموعة من الأنشطة الغائية التي تقع خلفها إرادة واعية والتي تستهدف تحقيق غايات معينة، و هكذا يمكن القول بأن ثمة إرادات تدبر هذه الأنشطة تحقيقا الغايات محددة و اعتماد أعلى الوسائل والأساليب والأدوات الملائمة وعلى قدر تباين هذه الوسائل الأدوات من حيث طبيعتها تتعدد وتتنوع أبعاد ظاهرة العولمة ،و تمثل هذه الدراسة محاولة لرصد هذه الأبعاد المختلفة للعولمة و هي أبعاد سياسية ، و اقتصادية و ثقافية ، واجتماعية، وعسكرية، و سكانية ، و اتصالية ن و تكنولوجية ، و بيئية ، و معرفية . و الذي يهمنا هو :

أولا : في الأبعاد السياسية للعولمة :

لقد تعددت و تنوعت انعكاسات ظاهرة العولمة على المجال السياسي داخليا وخارجيا على حد سواء. ولعل من أبرز هذه الانعكاسات صعوبة الفصل- وعلى نحو متزايد- بين ما هو داخلي وما هو خارجي فلقد ارتكزت أسس التنظيم الدولي- و منذ قرون عديدة- على النظر إلى جماعة الدول باعتبار ان كل دولة تمثل وحدة سياسية متميزة عما عداها من الدول ، كما اقتصرت العلاقات الدولية في بداياتها الأولى، على صورتين من صور التعامل الدولي الرسمي ألا وهما صورتا: الدبلوماسية والإستراتيجية (الحرب) و هكذا و في ظل النظر إلى الدول و التي لا يصح للغير التدخل فيها عملا بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى و بين ما هو دولي و خارجي غير انه بمرور الوقت أخذت هذه الفكرة تتراجع، تدريجيا ضغط التفاعل المتزايد فيما بين الدول سواء المستوي الرسمي أو غير الرسمي، ونتيجة لتنامي ظاهرة الاعتماد الدولي المتبادل interdépendance ، بحيث لم يعد ينظر إلى الحدود الإقليمية كحاجز أو كعائق يحول دون التفاعلات الدولية،و قد أدى ذلك إلى ظهور الفكرة التي عرفت بسياسات الترابط linkage Politics بمعنى الترابط بين الأوضاع الدولية العالمية و بين الأوضاع المحلية الداخلية والعكس .[9]

كما تجدر الإشارة كذلك إلى ظاهرة العولمة قد تواكبت مع التحول الذي طرأ على صورة النسق العالمي ، من صورة النسق ثنائي القطبية الى صورة جديدة راحت تعرف بالنسق أحادي القطبية Unipolar System الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية ، ويدور في فلكها مجموعة الدول الصناعية الكبرى ( دول الشمال الغنى)، بينما تمثل دول الجنوب مجموعة الدول التابعة نظرا لفقرها الاقتصادي وضعفها الإستراتيجي ومن ثم افتقارها إلى أهم أداتين من أدوات التأثير الدولي في عالمنا المعاصر، بحيث باتت هذه الدول تمثل تبعا لذلك مجرد مسرح للتنافس فيما بين القوى الكبرى.

وتتمثل أبرز الأبعاد أو الانعكاسات السياسية للعولمة فيما يلي:

• تراجع مبدأ السيادة الوطنية للدول:[10]

لقد ظل مبدأ السيادة منذ أن نبه إليه جان بودان عام 1576 يمثل حجر الزاوية للتنظيم الدولي الحديث، إذ نصت عليه و أقرته كافة القوانين و المعاهدات و النظم و الأعراف الدولية. وعلى الرغم من التراجع التدريجي الذي لحق بهذا المفهوم عبر العصور نظرا لما وجه إليه من انتقادات فقهيه تمس صفة الإطلاق فيه، و نظرا لما صادفه في التطبيق من معوقات فرضتها حقائق البيئة الدولية، مما استلزم التميز بين السيادة كمفهوم قانوني بمعنى الاعتراف للدول قانونا بحقها جميعا على قدم المساواة في أن تتخذ ما تراه مناسبا من قرارات أو من سياسات تكفل لها حماية مصالحها الوطنية، بين السيادة كواقع سياسي بمعنى القدرة الفعلية للدولة على أنفاذ أرادتها في المجال الدولي .
وعلى الرغم من ذلك كله فقد ظل مفهوم السيادة كفكرة قانونية مجردة لفترة طويلة محاطا بهالة من القدسية ومنزها عن يطالع أي انتقاص أو تشكيك، غير أن مفهوم السيادة قد لحقه التغير بشكل ملموس منذ منتصف القرن العشرين، وقد كان مرد ذلك إلى أمور عدة، منها على سبيل المثال[11]

1- التوسع المتزايد في أبرام الاتفاقيات الدولية الشارعة، والنظم الدولية التي تتضمن قواعد وأحكاما ملزمة لعموم الدول، ويمكننا أن نتمثل تلك الحقيقة الهامة فيما يلي:-

أ‌- أن ثمة قواعد قانونية دولية أمرة حاليا تختص بتنظيم مجالات عديدة، وقد أصبحت لهذه القواعد حجية في مواجهة كافة الدول فلا يجوز بحال الاتفاق على ما يخالفها، حتى و لو كان ذلك تذرعا بفكرة السيادة.

ب- أنه قد أضحت لدينا في نطاق الجماعة الدولية نظم للرقابة و الأشراف الدولي تقوم بمهام التحقق و التفتيش و هو ما نلاحظه في مجالات اتفاقيات حقوق الإنسان و التسلح النووي و اتفاقيات العمل الدولية على سبيل المثال

ج- استقرار الفقه و القضاء الدولي على عدم أمكانية احتجاج الدول بدساتيرها أو بتشريعاتها الداخلية و هي من مظاهر السيادة الوطنية للتنصل من الالتزامات الدولية سواء أكانت ذات طبيعة تعاقدية، أو ناشئة عن أحكام القانون الدولي العام و النظم الدولية ذات الصفة الشارعة حتى وان لم تصدق الدول عليها تنضم إليها.

2- الاتجاه المتنامي نحو احترام حقوق الإنسان و حرياته الأساسية، و نحو كفالة الضمانات الدولية التي تمكن لاحترام هذه الحقوق وتكفل عدم انتهاكها من جانب الحكومات الوطنية.

3- الاتجاهات الحديثة في مجال تقنين قواعد المسئولية الدولية و التي تجيز للشخص الدولي المضرور أمكانية تحريك دعوى المسئولية الدولية حال وقوع الضرر بصرف النظر عن مدى مشروعية أو عدم مشروعية الفعل الذي تسبب في وقوعه ..

4- الاتجاه المتزايد نحو إقامة الكيانات الدولية عابرة القومية أو فوق القومية.

5- بروز نوعية من المشكلات الدولية التي تستلزم تكاتف الجهود الدولية وتضافر الإيرادات السياسية للدول في سبيل التوصل إلى حلول ناجحة و فعالة لها، من ذلك مثلا: مشكلات البيئة والتلوث، ومشكلات الطاقة، مشكلات ندرة المياه و الجفاف و التصحر، مشكلات التضخم و البطالة والفقر و نقص الغذاء، مشكلات الإرهاب و العنف السياسي، مشكلات انتشار الأمراض الوبائية كالإيدز و إدمان المخدرات و الجريمة المنظمة .. الخ.

وبصفة عامة يمكن القول بأن ظاهرة العولمة قد نأت بالعلاقات الدولية عن صورة النسق الدولي التقليدية القائمة على جمع من دول ذات سيادة. وقد تباينت أراء المحللين في هذا الصدد، إذ يرى بعض الكتاب أن العالم يشهد حاليا ما يمكن أن يسمى بأفول السيادة the Twilight of Sovereignty في حين يرى البعض الأخر أن النسق العالمي قد أنتقل بالفعل إلى ما بعد السيادة[12].

و يرى كل من williams و Clark ضرورة إعادة النظر في مفهوم السيادة بهدف تقديم تعريف جديد له، أو تحديد مضمون معاصر لهذا المفهوم يكون أكثر واقعية و أكثر تناسبا مع السياق التاريخي المعاصر، و هم يشيرون في هذا الصدد إلى آراء بعض الكتاب الداعيين إلى صورة جديدة للسيادة من ذلك مثلا : السيادة الجزئية Partial ، أو المقيدة limited ، أو المشتركة pooled/Shared .

و يرى Harry Gelber المدلول المعاصر لمفهوم السيادة قد أصبح يشير إلى قدرة الدولة على تدبر أمورها في إطار علاقتها بالدول الأخرى على النحو الذي يكفل لها capacity to manage لها حماية مصالحها و من ناحية أخرى فإن ثمة من يرفضون فكرة إعادة تعريف مفهوم السيادة أو تحديث مضمون معاصر له ، إذ يرون أن من الأفضل الاعتراف بتجاوز هذا المفهوم و الانتقال إلى ما يسمى بمفهوم الحكم في مرحلة ما بعد السيادة أو poste [13]sovereign governance .

و قد كان من نتائج تراجع مبدأ السيادة الوطنية للدول إن تزايدت إمكانية التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى[14] ، فقد تعددت و تنوعت مبررات التدخل الأجنبي من ذلك مثلا ، التدخل لاعتبارات إنسانية ، و التدخل لحماية حقوق الإنسان و حقوق الأقليات العرقية ، و التدخل بدعوى مقاومة الإرهاب الدولي … الخ ، و لعل من ابرز الموضوعات التي تثار في هذا الصدد عدم وجود معايير واضحة على حقها في أن تقرر الأخذ بأي من الخيارين على أساس مصالحها في كل حالة على حدة case by case ، أي بصورة انتقائية على مقتضى مصالحها ، و هو ما يؤدي إلى ما يعرف بمشكلة ازدواجية المعايير أو بسياسة “الكيل بمكيالين ” و الأمثلة الدالة على ذلك كثيرة .

تراجع قوة الدولة القومية و تضاؤل دورها :

لقد ضربت العولمة بسهم وافر في مجال إضعاف دور الدولة القومية ، فقد أدت التطورات الجذرية و المتلاحقة التي شهدها العالم منذ مطلع عقد التسعينيات و حتى الآن إلى إزاحة الدولة عن عرشها الذي تربعت عليه زمنا طويلا ، فلم تعد الدولة هي الفاعل أو اللاعب الوحيد أو الرئيسي في النسق الدولي كسابق عهدها و إنما راحت تتوارى على استحياء شيئا فشيئا مفسحة المجال أمام لاعبين جدد تعاظمت أدوارهم إلى الحد الذي بات يضفي أحيانا كثيرة على دور الدولة القومية .

و يمكننا أن نتمثل هؤلاء اللاعبين الجدد في الشركات متعددة الجنسية ( أو عابرة القومية) Multinational or Transnational Corporations أو ما يرمز إليها اختصارا بـ MNC، وكذا المنظمات غير الحكومية Organizations Non-Governmental والتي تعرف اختصار بـ NGO إلى جانب المنظمات الدولية التي تعاظم دورها و اتسعت مجالات أنشطتها و تزايدت صلاحياتها واختصاصاتها ولاسيما تلك المنظمات الدولية فوق القومية supra-national Organizations كالاتحاد الأوروبي على سبيل المثال .

بروز مفهوم الحكم كبديل للحكومة

يرى دعاة العولمة أن مفهوم الحكم “Governance” هو الأكثر تعبيرا عن السيادة و في هذا الإطار يرى وتناسبا مع حقائق الواقع السياسي الوطني والدولي في الوقت الراهن، إذ لم تعد الحكومات وحدها هي التي تحتكر الوظائف السياسية في الدولة وظائف الحكم و إنما باتت تشاركها في هذه الوظائف جهات عديدة أخرى داخلية وخارجية، ومن ثم يمكن القول أن الحكم كنشاط لم يعد مقصورا على الحكومات كيانات رسمية تستند في ممارستها لمهام الحكم إلى سلطة رسمية وإنما أصبحت ممارسة الحكم متاحة أمام العديد من القوى غير الرسمية سواء كانت وطنية أو خارجية .

و يمكن القول بأن تراجع قوة الدول القومية و تضاؤل دورها قد هيأ إلى نشر أو توزيع مهام الحكم التي كانت تضطلع بها الحكومات وحدها على عديد من جهات أو مستويات أدنى من الدولة أو أعلى منها و يمكننا أن نتمثل ذلك فيما يلي :[15]

1 – تزايد دور المنظمات الدولية العالمية أو الإقليمية أو المتخصصة كمنظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي و منظمات بريتون وودز (صندوق النقد الدوليين و البنك الدولي)، و ذلك فيما يتصل بإرساء قواعد و نظم للتعامل الدولي في العديد من المجالات إضافة إلى ما تقدم فقد أصبح العديد من هذه المنظمات بمثابة كيانات فوق قومية ، لها كيان عضوي و وظيفي يتمتع بدرجة كبيرة من الذاتية و الاستقلالية ، إذ أصبح لها رؤوس أموال عالمية المصدر تستخدمها في تمويل عملياتها و برامجها ، كما أضحى لها تمثيل دبلوماسي خاص بها، فهناك ما يقرب من مائة وخمسين مكتبا إقليميا على المستوى العالمي لتمثيل برنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP، كما أن البنك الدولي و صندوق النقد الدولي أصبح لكل منهما ما يقرب من سبعين بعثة تمثيلية مقيمة على مستوى العالم .

و في المجال السياسي على سبيل المثال يمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى الجهود الدبلوماسية التي يضطلع بها مبعوثو و مفوضو الاتحاد الأوربي في مجال التسوية السلمية للعديد من المشكلات الدولية كالصراع العربي الإسرائيلي و مشكلات منطقة البلقان ، و في مجالات حماية حقوق الإنسان ، و كذا في مجال مراقبة العمليات الانتخابية في العديد من البلدان

2- تزايد الاتجاه نحو إرساء العديد من النظم الدولية في العديد من مجالات العلاقات الدولية و يعرف krasner النظم الدولية international regimes بأنها ” مجموعات من المبادئ الضمنية أو الصريحة ،و كذا الأنماط و قواعد السلوك ، و آليات صنع القرار ، التي تلتقي عليها مجموعة من الدول أو تنصاع لها فيما يتصل بمجال معين من مجالات العلاقات الدولية ، و لعل من ابرز الأمثلة على تلك النظم الدولية، الاتفاقية العامة للتجارة و التعريفة الجمركية Gatt التي هيأت لقيام منظمة التجارة العالمية wto.

هذا و قد اتسعت مجالات النظم الدولية لتشمل عدة قطاعات فمنها ما يختص بالشؤون الأمنية، مثل اتفاقية عام 1968 و كذا إعلان ريو الذي صدر عن قمة الأرض عام 1996 ، ومنها أيضا ما ينظم الاتصالات الدولية كالمنظمة البحرية العالمية و المنظمة العالمية للطيران المدني ومن قبلها الاتحاد البريدي العالمي .

3 – تزايد الدور الذي تلعبه بعض الهيئات الداخلية أو دون الدولية substate أي الكيانات المحلية أو البلدية في العلاقات الدولية على نحو يتجاوز أحيانا الدور الذي تمارسه الحكومات المركزية ذاتها ، فهناك عدة مقاطعات كندية وصينية و بعض الولايات الأمريكية التي توفد مبعوثين أو ممثلين لها لدى الدول الأخرى ، و تمارس هذه البعثات التمثيلية دورها باستقلالية نسبية عن البعثات الدبلوماسية الرسمية لدولها ، إضافة إلى ذلك فهناك ما يزيد عن خمسين حكومة إقليمية (من حكومات الولايات) في الدول الأوربية التي تربط فيما بينها بعلاقات مباشرة من خلال مجالس الأقاليم الأوربية و لجنة الاتحاد الأوروبي 

4- تزايد دور الهيئات فوق الدولية او متعدية القومية فعلى سبيل المثال من الملاحظ أن البنك الدولي و صندوق النقد الدولي قد وسعا من نطاق نشاطهما الأصلي ، و هو برامج التنمية والاستقرار النقدي العالمي ليشمل التدخل في توجيه السياسات و البرامج الاقتصادية في العديد من الدول بدعوى تحقيق الاستقرار الاقتصادي ، أو ما عرف ببرامج التكيف الهيكلي التي تفرض على الدول الأخذ بسياسات معينة (ذات توجيه ليبرالي)، وقد تعدي الأمر مجرد اقتراح السياسات إلى حد إرسال مبعوثين أو مراقبين للتأكد من مدى التزام الحكومات بتعليمات صندوق النقد أو البنك الدولي ، و هو ما يمكن اعتباره شكلا من أشكال الوصاية الدولية الجديدة [16].

5- النمو الهائل في قوة الشركات متعددة الجنسيات ، إذ تشير التقديرات إلى أن ثمة ما يقرب من 45000 من هذه الشركات تسيطر على زهاء 280 ألف شركة تابعة تنتشر عبر أرجاء المعمورة، و إن ما يقرب 90% من مقر إدارة هذه الشركات يقع في دول العالم المتقدم و هذه الشركات هي التي بيدها مقاليد الاقتصاد سواء من حيث رؤوس أموالها أو حجم عملياتها الذي زاد على سبعة تريليون دولار أمريكي ، أو من حيث عدد العاملين في فروعها المنتشرة عبر العالم ، ويكفي ان نشير بصدد تباين مدى توحش هذه الشركات و ضخامتها وان نذكر على سبيل المثال أن حجم عمليات شركة جنرال “موتورز” يفوق إجمالي الناتج القومي للدنماراك ، و أن حجم عمليات شركة ” فورد” يفوق إجمالي الناتج القومي لجنوب إفريقيا ، و أن حجم عمليات شركة “تويوتا” يزيد على إجمالي الناتج القومي للنرويج .

6- تزايد حدة النزعة الاوليجارشية على مستوى النسق العالمي ، فلقد تواظب مولد ظاهرة العولمة مع حدث تراجع الاتحاد السوفياتي السابق عن موقعه كقوة قطبية في إطار النسق العالمي ثنائي القطبية مما أدى إلى تحول هذا النسق إلى صورة جديدة راحت توصف بأحادية القطبية ، حيث باتت الولايات المتحدة هي القطب الأوحد ، و من ثم تيسرت لها إمكانية السيطرة و التحكم في مجريات الأحداث العالمية على نحو مسبوق ، و يمكن القول أن الولايات المتحدة قد نجحت حتى الآن في الإبقاء على تماسك المعسكر الليبرالي الغربي تحت لوائها مما هيأ لها هيمنة عالمية طاغية، و لاسيما في ظل انسياق الاتحاد الروسي و مجاراته للسياسة الأمريكية[17] ، و كذا في ظل انتهاج الصين الشعبية لسياسة خارجية تقوم على الحذر و البرجماتية ، بعيدا عن نزاعات التصادم او المواجهة و التعصب المذهبي ، و من خلال استعراض صورة توزيع القوة الراهن على المستوى العالمي ، يمكننا أن نخلص إلى أن العالم يشهد حاليا ما يمكن تسميته بحكومة الثمانية الكبار او ما يعرف بمجموعة الثمانية G8 و التي تضم الدول الصناعية السبع الكبرى، و قد ضم إليها الاتحاد الروسي و هو وضع قريب الشبه إلى حد بعيد بفكرة حكومة الخمسة الكبار التي عرفتها أوروبا خلال القرن التاسع عشر إبان ما عرف بعض التضافر الأوروبي concert of europe .

و هكذا فقد أصبح لمجموعةالثمانية الكبار القول الفصل في توجيه دفة الشؤون الدولية ، وفقا لما تقضي به مصالحها بطبيعة الحال ، و غنى عن البيان القول بأن غياب عنصر التوازن الاستراتيجي في الوضع الراهن للنسق العالمي ، كان من شأنه أن انحرفت القوى الكبرى ، و لاسيما الولايات المتحدة ، عن جادة الاعتدال في سياستها الخارجية ، فراحت تضرب عرض الحائط باعتبارات الشرعية الدولية بل و بالشرعية الدولية أيضا ، مما افقدها مصداقيتها كزعيمة للمعسكر الحر على المستوى العالمي ، بعد أن ظلت لعقود طوال ترفع لواء الحرية و تتشدق بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم .

التدخل الإنساني وإشكالية السيادة:

لكي نحدد مفهوم عدم التدخل، لابد أولا من تحديد مفهوم التدخل ، بيد أن هذا الأمر ليس من السهولة إتيانه بشكل مقبول ومسلم به، لأن التدخل وصف ينطبق على مجموعة من الأنشطة، يحتمل كل منها وصفا آخر، مثل التهديد بالقوة، تهديد السلام ، انتهاك السلام، استخدام القوة، العدوان، الدفاع الشرعي الجماعي، الدفاع الفردي، وسلوك التنفيذ الجبري، إضافة إلى التدخل. وقد تتساوى هذه التعبيرات أو تتفاوت، أو يشمل بعضها البعض الأخر، وفي الوقت نفسه، فإن عبارة التدخل هي الأكثر عمومية من بين التعبيرات السابقة وإن كانت لا تشملها كلها.

وإذا كان ذلك يوحي بأن التدخل في أوصافه السابقة، إنما يحمل طبيعة القسر باستخدام القوة المسلحة- وهو ما ترتكز عليه المعالجات الفقهية لموضوع التدخل – فإن هناك أشكالا أخرى يمكن اعتبارها تدخلا، رغم أنها لا تنطوي على استخدام القوة المسلحة ، فضلا عن أن مسألة تفسير الأنشطة السابق ذكرها يختلف اتساعها، بحيث يمكن الادعاء بالتدخل، انطلاقا من بعض العبارات ذاتها (كاستخدام القوة) بحيث لا يقتصر معنى القوة على القوة العسكرية ،أو القوة المسلحة وإنما يتجاوز هذا الوصف إلى أنواع أخرى كالقوة الاقتصادية، وما يرتبط بها من عدوان أو تدخل اقتصادي مثلا.[18]

والواقع أن التركيز الفقهي على التدخل العسكري، كان وما زال متعلقا بمسألة الأولويات، فإن أول اهتمامات القانون الدولي التقليدي والمعاصر على حد سواء تتمثل في حماية السلم والأمن الدوليين، من خلال استخدام الحلول غير السلمية للنزاعات الدولية وهذا ما أدى- لفترة طويلة – إلى إهمال الأنواع الأخرى من التدخل أو على الأقل التغاضي عنها، سيما إذا ما نظرنا إلى حقيقة كون القانون الدولي القائم قانونا غربي النشأة يحمي مصالح الدول التي ابتدعته بالدرجة الأولى، ولما كانت هذه الدول مسيطرة على غيرها من الشعوب فان الحديث عن تدخل غير عسكري وغير مشروع كان صعبا، فضلا عن أن الحديث عن عدم مشروعية التدخل العسكري إنما كان ينصرف حسب وجهة نظر البعض إلى الدول الأوربية فيما بينها وليس ما عداها من ” الشعوب الهمجية” كما يسمونها.

ويمكن القول، إن مفهوم التدخل قد تنازعه اتجاهان، حاول جانب من الفقه أن يوفق بينهما باستحداث اتجاه ثالث.

الاتجاه الأول : وهو ما يمكن تسميته بالاتجاه أو المذهب المضيق لمعنى التدخل. ويرجع هذا الاتجاه في أصوله إلى أراء جروسيوس ، الذي يقصر التدخل على السلوك المتسم بالعنف، وهو بمثابة الحرب، ولكي يكون هذا السلوك مشروعا فانه يجب أن يتصف بالعدالة، أي أن تكون الحرب عادلة، ومعيار عدالة الحرب يتوقف على الغرض منها، فإذا الغرض هو الحيلولة دون قمع الشعوب وقهرها، فان الحرب تكون عادلة ، أي أن الحرب تكون عادلة عندما يقصد منها منع المعاملة السيئة من الدولة لرعاياها[19]. ويطلق على هذا النوع من التدخل” التدخل الإنساني”. ووفق هذا الاتجاه فانه ليس هنالك أي فرق بين التدخل والحرب[20] . إن ما ينطلق منه أصحاب هذا الاتجاه هو ارتباط التدخل بالاستقلال، ولكنهم يرون أن الاستقلال لا يتأثر إلا بالتدخل القسري، الذي يتمثل باستخدام القوة العسكرية ، وبالتالي فان هذا النوع من التدخل يتسم بعدم المشروعية لأنه يهدد استقلال الدولة المستهدفة، أو سيادتها الإقليمية على انه إذا كان هناك رضاء من جانب الدولة المستهدفة فان التدخل لن يتسم بعدم المشروعية. ويتضح من ذلك أن الفقه التقليدي يركز على التدخل بوساطة القوة العسكرية فحسب، ويجب أن يستهدف المساس باستقلال الدولة وسلامتها الإقليمية. بيد أن مفهوم الاستقلال ليس بسيطا إلى الدرجة التي يمكن القول بأنه لا يتأثر إلا من خلال التدخل العسكري. فالاستقلال السياسي يمكن أن يعني حرية الشعب في البلاد لاختيار شكل الحكم، أو يمكن أن يعني حرية تشكيل الحكومة دون ضغط أو تدخل مهما كانت أدواته[21]. وبالتالي فان الاستقلال يمكن أن يتأثر بأي نوع من أنواع التدخل سواء كان عسكريا أو اقتصاديا أو سياسيا. ولما كان هذا الاتجاه، غير متوافق مع الواقع الدولي، الذي يشهد أنواعا أخرى من التدخل، قد تؤدي إلى النتائج المبتغاة دون استخدام القوة العسكرية، أو التهديد باستخدامها، فانه يمكن القول أن هذا الاتجاه يتسم بالقصور، حيث توجد صور أخرى للتدخل، غير التدخل العسكري ، كالتدخل الاقتصادي والتدخل السياسي، لذلك فقد نحا الفقه الدولي إلى اتجاه أكثر رحابة .[22]

الاتجاه الثاني: وهو ما يمكن تسميته بالاتجاه الموسع لمعنى التدخل. وترجع أصول هذا الاتجاه إلى آراء فاتل، الذي استخدم التدخل بمعنى الوساطة لحل المنازعات الداخلية لدولة أخرى، أو بمعنى وساطة طرف ثالث بين دولتين متحاربتين. ويؤكد فاتل أن ذلك متناقض مع حرية واستقلال الدول الأخرى. بيد أن جانبا من الفقه المعاصر، وان كان قد خفف من حدة هذا الاتجاه ، إلا أنه يرى أن التدخل لا يقتصر على استخدام القوة العسكرية أو التهديد باستخدامها، وإنما يشمل أي فعل يؤثر في شخصية الدولة وسيادتها واستقلالها، فالتصرفات التي تمس سيادة الدولة واستقلالها ، تتسم بعدم المشروعية سواء كانت هذه التصرفات القائمة على استخدام القوة العسكرية أو التهديد باستخدامها، أولم تكنن كذلك، أي أن التدخل يمكن أن يكون سياسيا أو اقتصاديا أو حتى على شكل دعاية هدامة[23]، والأبعد من ذلك انه يمكن أن يكون التدخل في صورة ظاهرها تقديم المساعدة للدولة المستهدفة، وباطنها ينطوي على تدخل في شؤونها الداخلية، وإحكام الرقابة على سياساتها الخاصة. ويمكن القول أن التدخل بمعناه الواسع يشير إلى ممارسات خارجية تؤثر على الشؤون الداخلية لدولة أخرى ذات سيادة [24]

ويذهب جانب من الفقه إلى التعويل على قوة الدولة لتحديد وقوع أو عدم وقوع التدخل، فالدولة العظمى يمكن أن تتدخل بمجرد القول ، أما الدولة الضعيفة ، فإن سلوكها لا يكون تدخليا ما لم يؤثر فعلا على الشؤون الداخلية للدولة المستهدفة. ولم يسلم هذا الاتجاه من النقد ، إذ أن التدخل وفقا لهذا الاتجاه يمكن أن يكون أي فعل أو قول يتعلق بشؤون دولة أخرى . ورغم انه لا يمكن إنكار القيمة الهامة لتوسيع نطاق مبدأ عدم التدخل ، ضمانا لاستقلال وسيادة الدول ، فإن المغالاة في هذا الاتجاه دفعت إلى وصف الدفاع عن عدم التدخل ، بأنه دفاع عن الجمود وعدم التحرك[25] . الاتجاه الثالث : وهو ما يمكن تسميته بالاتجاه التوفيقي ، إذ يقوم على التوفيق بين الاتجاهين السابقين ، ويميل اغلب الفقه إلى هذا الاتجاه . فالتدخل يمكن- وفق الاتجاه التوفيقي- أن يكون بأي وسيلة ، وهذا يعي أنه غير مقصور على التدخل العنيف أو القهري أو ما يسميه أوبنهايم بالتدخل الدكتاتوري، وبالتالي فإن التدخل يمكن أن يكون عسكريا أو غير عسكري . ويميل جانب من الفقه إلى استبدال فكرة التدخل القهري ، بفكرة التدخل الإرادي [26] . وهو ما يتطلب- حسب وجهة نظر آخر من الفقه- توافر نية التدخل لدى الدولة المتدخلة. وبعبارة أخرى فإن استبعاد صور التدخل غير العسكري لدى أصحاب الاتجاه الأول، لا يمكن التسليم به، كما أن اعتبار أي فعل أو قول لدى أصحاب الاتجاه الثاني، من قبيل التدخل، لا يتفق مع واقع العلاقات الدولية ، لأن قبول هذا الرأي يعني مصادرة جميع أوجه العلاقات الدولية، ومن الواضح أن الاتجاه التوفيقي يبدو واقعيا ومنسجما مع العلاقات الدولية، فالتدخل يمكن أن يكون بأي وسيلة ، ولا يقتصر على استخدام القوة المسلحة ، وإذا كانت الأفعال المتسمة بالقهر أو الديكتاتورية، متلائمة مع التدخل العسكري ، فإن التدخل القهري ربما يتناسب مع الصور الأخرى للتدخل(فيما لو قصرنا مفهوم القهر على القوة المسلحة)، لان بعض صور التدخل لا تكون واضحة أو مباشرة . وما يعنيه التدخل الإرادي هو أن الدولة المتدخلة تسعى إلى فرض إرادتها على الدولة المستهدفة وبحيث تؤثر على إرادة الدولة المستهدفة بالتدخل من خلال صيغة آمرة أو إلزامية [27]. أزمة العلاقة بين المجال المحفوظ لسيادة الدولة والمجال الدولي:

لقد أصبح القانون الدولي في ظل ” النظام العالمي الجديد” إحدى أدوات اختراق حرمة الاختصاص الداخلي والوسيلة المثلى للحد من السيادة.ولقد كتب ” براين أوركارت” تحت عنوان ” تألم السيادة” : “إن الكثير من التطورات في عصرنا أصبحت تتحدى مصداقية مبدأ سيادة الدولة، ونحن نعيش اليوم مرحلة نمو الاعتماد المتبادل الشامل، ذلك أن الاهتمام بآلام الإنسانية وبحقوق الإنسان كان عادة ما يتوقف في الماضي عند الحدود”.

وانطلاقا من مبدأ سيادة الدولة التي تتجذر في ارتباطها بفكرة الاختصاص الإقليمي يأتي المبدأ المصاحب والمكمل لسيادة الدولة وهو مبدأ عدم التدخل[28]. غير أن القضية الجوهرية تبقى معرفة ماهي »الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي والتي يعبر عنها أيضا بالمجال المحفوظ le domaine réservé » ولتحديده فقد سلك الفقه الدولي الأكثر نفوذا كمعهد القانون الدولي institut de droit international أسلوبا بسيطا وفعالا لتحديده عندما عرفه بأنه : ” ذلك الذي تكون فيه أنشطة الدولة أو اختصاصاتها غير مقيدة بالقانون الدولي”.وينتج عن هذا التعريف مسألة في غاية الأهمية، وهي أن المجال الخاص للدولة يتقلص كلما توسعت التزامات ذات طبيعة تعاقدية أو عرقية[29]
وبزيادة التعاون الدولي يمكن أن نؤكد دون خوف من الخطأ أن المجال الخاص للدول يتقلص باستمرار كلما انخرطت الدول في علاقات منظمة قانونيا مع الأشخاص الآخرين في المجتمع الدولي[30] كالتزامها بالاتفاقيات المتعددة الأطراف سواء فيما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان أو حفظ السلام أو تحقيق مبادئ الاعتماد المتبادل، وعادة ما تكون الدولة مضطرة بمقتضى التزامها إلى التنازل عن بعض الاختصاصات التي كانت تندرج سلفا ضمن المجال المحفوظ، وذلك لفائدة مؤسسات دولية أو تنظيمات إقليمية، وهي في هذه الممارسة لا تنقص في الواقع من سيادتها بقدر ما تعبر عن تلك السيادة.
ويتبين من مراجعة أحكام القضاء الدولي أن هناك اتجاها لترجيح على القانون الدولي على القانون الداخلي، ففي حكمها الصادر بتاريخ 18 ديسمبر1951 في قضية المصايد ذهبت محكمة العدل الدولية إلى ” أن حجية تحديد البحر الإقليمي بالنسبة للغير، إنما تنبع من القانون الدولي العام” . وفي حكمها الصادر في27 غشت 1952 بشأن حقوق ومصالح رعايا الولايات المتحدة الأمريكية في المغرب، أعلنت ” أن القوانين الصادرة في المغرب سنة 1948 تتعارض مع القانون الاتفاقي السابق عليها”.[31]
كما أن العديد من القضايا المرتبطة بالبيئة والصحة والاقتصاد التي كانت تحسم في إطار الاختصاص الداخلي لكل دولة أو حتى في الإطار الإقليمي، أصبحت أهم تلك القضايا اليوم تتجاوز حدود الدول مثل حماية البيئة وندرة المياه واستفحال المجاعة والأمراض الفتاكة، وتوحيد الجهود بشأن هذه القضايا ومثيلاتها أصبح يفترض اتخاذ تدابير لن تكون فعالة إلا إذا اتخذت بشكل جماعي.
ومن جهة أخرى نجد أن “كوفي عنان” في المشروع الذي طرحه على الجمعية العامة في دورتها (54) يعتبر أن السيادة لم تعد خاصة بالدولة القومية التي تعتبر أساس العلاقات الدولية المعاصرة ولكن تتعلق بالأفراد أنفسهم، وهي تعني الحريات الأساسية لكل فرد والمحفوظة من قبل ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فهو يدعو إلى حماية الوجود الإنساني للأفراد وليس حماية الذين ينتهكونها. وبهذا الطريق يكون “كوفي عنان” قد أزال العقبات أمام المنظمات الدولية لكي تباشر أعمالها في مشروع التدخل لوقف انتهاكات حقوق الإنسان دون تفويض من الأمم المتحدة.

و يحظر القانون الدولي تدخل أية دولة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى ، إذ كل دولة حرة في اختيار و تطوير نظامها السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي ، من دون تدخل من أي دول ، غير آن السيادة الدولة مقيدة باحكام القانون الدولي و بخاصة في ما يتعلق بحقوق الإنسان و ارتكاب جرائم الحرب و جرائم ابادة الجنس البشري ، فالدولة ليست مطلقة التصرف في ميدان العلاقات الدولية ، اذ هي تخضع للقانون الدولي الذي هو مفروض على الدول بناء على اعتبرت تعلو إرادتها و الذي يورد قيودا على تصرفات الدول ، و يحكم علاقاتها مع الدول الأخرى و مع الهيآت الدولية [32].

” التدخل الإنساني” intervention humanitaire

أو التدخل لأغراض إنسانية” هو مفهوم قديم حديث في آن واحد. وإذا كان ليس هنا مقام التفصيل في كيفية نشأة هذا المبدأ وتطوره في العصر الحديث، إلا أنه قد يكون من المهم الإشارة إلى حقيقة أن هذا المبدأ المذكور قد ظهر بالأساس في إطار ماعرف بحماية حقوق الأقليات وبعض الجماعات العرقية الأخرى، وكان ذلك بالتقريب في منتصف القرن التاسع عشر[33].

وقد نظر إلى مبدأ التدخل الإنساني في ذلك الوقت باعتباره إحدى الضمانات الأساسية التي ينبغي اللجوء إليها لكفالة الاحترام الواجب لحقوق الأفراد الذين ينتمون إلى دولة معينة ويعيشون- على الرغم من ذلك- على إقليم دولة أخرى . أما الآن، وبالتحديد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام منظمة الأمم المتحدة، فقد أضحت المسألة الخاصة بالحماية الدولية لحقوق الإنسان- بصرف النظر عن الانتماءات الوطنية أو العرقية أو الدينية أو السياسية أو غيرها- تمثل أحد المبادئ الأساسية للتنظيم الدولي المعاصر.

والحق، أنه إذا كانت الضمانات الدولية لحقوق الإنسان التي قررتها المواثيق والاتفاقيات الدولية ذات- الصلة- ومنها الضمانة المتمثلة في إمكان تدخل المجتمع الدولي لكفالة الاحترام الواجب لهذه- الحقوق- قد ظلت كمبدأ عام بعيدة عن مجال التطبيق الفعلي خلال العقود الأربعة الأولى من حياة الأمم المتحدة، غلا أن المشاهد هو أن الضمانة المتعلقة ب” إمكانية التدخل الإنساني” قد أضحت مؤخرا على قائمة الإجراءات التي يلجأ إليها لفرض مثل هذا الاحترام.[34]

وقد أصدرت الجمعية العامة في سنة 1988 القرار 131/43 المتعلق ” بالمساعدة الإنسانية لضحايا الكوارث الطبيعية والحالات الاستعجالية المشابهة”. وقد اعتبرت الأمم المتحدة ضمن هذا القرار ” أن بقاء الضحايا بدون مساعدة يمثل تهديدا لحياة الإنسان ومساسا بالكرامة الإنسانية”[32]، ومن ثم فإن الاستعجال يحتم سرعة التدخل مما يجعل حرية الوصول إلى الضحايا شرطا أساسيا في تنظيم عمليات الإسعاف، وهذا يقتضي أن الوصول إلى الضحايا لا ينبغي أن تعرقله لا الدولة المعنية ولا الدول المجاورة، إلا أن القرار أكد على السيادة والوحدة الترابية والوحدة الوطنية للدول”، كما اعترف بأنه يقع على عاتق الدول أن تعتني بضحايا الحوادث الطبيعية والحالات المشابهة التي تقع فوق إقليمها”.

وبالتأكيد فإن التدخل الإنساني لا يؤثر بشكل كبير على السيادة عندما يقتصر على التزويد بالمواد الغذائية والطبية أو حتى إيفاد بعض المدنيين لمعالجة أوضاع الكوارث المستعصية، إلا أن الأمر يختلف عندما يتعلق بتدخل قوة مسلحة لمنع بعض خروق حقوق الإنسان.

وقد شكلت حرب كوسوفو مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، فقد أدت إلى إعادة تشكيل النظام الدولي، أو الدخول على العكس من ذلك في مرحلة جديدة من الفوضى في العلاقات الدولية.[35]

وقد تذرع قادة حلف شمال الأطلسي بأن حرب كوسوفو هي حرب أخلاقية لأن الهدف منها هو القضاء على سياسة التطهير العرقي في كوسوفو بهزيمة الرئيس الصربي، ولأنه يتعين على منع الحكام الدكتاتوريين من ارتكاب الأعمال الوحشية حتى يستمروا في السلطة. فهذه الحرب حسب تعبير “طوني بلير” ليست حربا من أجل الأرض، وإنما هي حرب من أجل القيم.

لكن الحرب الأخلاقية مفهوم نسبي ينطوي على ازدواجية المعايير، فالحلف الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية لم يفكران بالتدخل في بلدان أخرى رغم وجود اعتبارات مماثلة.والأمثلة على ذلك عديدة ومنها إبادة الجنس البشري بأبشع الصور في رواندا وسيراليون وليبيريا وأنغولا والكونغو(زايير سابقا). ولا يكترثان لما حل ويحل ببعض الشعوب من تدمير وتشتيت كالشعب الفلسطيني المحتل.

غير أن حرب كوسوفو وإن تم تبريرها بوقف انتهاكات النظام الصربي لحقوق الإنسان في ، كوسوفو، فإن الهدف الحقيقي منها هو تتبيث أوضاع معينة وفرض ترتيبات محددة في إطار تكريس التفوق الغربي الشامل بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وباتجاه بلورة دور جديد لحلف شمال الأطلسي يجعل منه مؤسسة عالمية.

لقد تصاعدت وتيرة المناداة بإعادة تقويم التدخل العسكري خاصة بعد تدخل الحلف الأطلسي كوسوفو دون موافقة مجلس الأمن.عقدت مؤتمرات ودراسات عديدة حول الأمر بما في ذلك قيام مكتب الأمين العام للأمم المتحدة عام 2000 بإجراء مشاورات موسعة حول وضع أسس سليمة للتدخل العسكري بواسطة الأمم المتحدة، ومطالبة كوفي عنان المجتمع الدولي للتوافق من جديد على تعريف التدخل الإنساني وتحت مسؤولية أية جهة والكيفية التي يتم بها ذلك.[36]

وبمبادرة من الحكومة الكندية تم تكوين ” اللجنة الدولي حول التدخل والسيادة الوطنية: (ICISS Intervention and State Sovereignty International Commission on المكونة من شخصيات دولية من مختلف أنحاء العالم. قدمت اللجنة تقريرها ونشرته في ديسمبر/ كانون الأول 2001 ورحب به الأمين العام للأمم المتحدة كوثيقة هامة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. ويشير التقرير إلى أن الاعتبار الأساسي ينبغي أن يكون مسؤولية ” توفير الحماية” وليس ” حق التدخل” Responsability to protect, no the right to intervene مما يضع القرار في إطار حاجات وحقوق المواطنين، بدلا عن مصالح أو خلافات الدول. وتشمل مسؤولية توفير الحماية ليس فقط التدخل، إن دعا الحال، بل ” منع” الانتهاكات من الوقوع، ومسؤولية ” إعادة البناء”.وتخلص اللجنة إلى أن التدخل العسكري ينبغي أن يكون إجراءا استثنائيا يتم اللجوء إليه فقط في الانتهاكات الجسيمة التي تتسبب في وقوع أذى بالغ الخطورة irreparable harm أو ترجح وقوعه، كالقتل الجماعي بنية الإبادة أو نتيجة فعل الدولة أو عجزها أو إهمالها أو التطهير العرقي واسع النطاق سواء عن طريق القتل أو الترحيل القسري أو الإرهاب أو الاغتصاب

خرق السيادة بدعوى مكافحة الإرهاب:

للحرب على الإرهاب ثلاثة أبعاد ظاهرة،[37] بعد قيادي، إذ أنها حرب تخوضها الولايات المتحدة بشراسة كبيرة من أجل قيادة العالم على أساس الزعامة الأمريكية الأحادية، وبعد انتقامي من حيث أنها تنطوي على الانتقام الأمريكي للمذلة والهوان الناتج عن هجمات 11 سبتمبر 2001 ، ولهذه الحرب أيضا بعد وقائي بسبب تحويل الحرب ضد القاعدة في أفغانستان إلى حرب وقائية أو استباقية.

وقد أثارت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 تساؤلات عديدة حول مسألة التدخل بدعوى مكافحة الإرهاب إثر الهجوم على الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك اليوم ارتأت أمريكا أنها تعتبر نفسها في حالة حرب بسبب الاعتداء الذي وقع عليها، وأنها ستقوم بالرد دفاعا عن نفسها.
ولذلك فإن هذه الهجمات باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها تشكل بدون شك تهديدا للسلم والأمن الدوليين كما أكدت ذلك قرارات مجلس الأمن. لكن على الرغم من تصنيف الإرهاب في خانة تهديد السلم والأمن الدوليين، وإبداء المجلس استعداده لاتخاذ كافة الترتيبات للرد على أحداث 11 سبتمبر ومحاربة الإرهاب، لم يقم المجلس نفسه بمباشرة إجراء محدد بموجب الفصل السابع، إذ يقتضي ذلك بالضرورة تحديد الجهة- الدولة- التي ينبغي أن توجه ضدها إجراءات القمع، الأمر الذي لم يكن متاحا بالنسبة للمجلس، حتى وإن كان تنظيم القاعدة هو الجهة التي وجهت إليها أصابع الاتهام، إذ لم يثبت أن حكومة طالبان وأفغانستان- الدولة- هي الجهة التي تقف وراء العدوان. غير أن تأكيد القرار على حق الدول في ممارسة حق الدفاع عن النفس ربما ترك الباب مفتوحا لتبرير ما أعلنته الولايات المتحدة عن الحرب على الإرهاب بالأسلوب الذي ارتأته، على الرغم من نص القرار على مبدأ ممارسة حق الدفاع عن النفس ينبغي أن تكون بموجب الميثاق.[38]

غير أن العمليات العسكرية للولايات المتحدة المنفردة أو بالاشتراك مع القوت المسلحة التابعة للدول الأخرى في التحالف العسكري ضد الإرهاب، لم تخضع لأي تحديد زمني أو لأي رقابة من قبل مجلس الأمن، وهما شرطان جوهريان من شروط الدفاع الشرعي بحسب مقتضيات ميثاق الأمم المتحدة.

إن الحرب على الإرهاب هي حرب أمريكية الأهداف والمصالح، وتكاد تكون حربا صليبية جديدة بالمفهوم التاريخي للحرب، وهي موجهة نظر القانون الدولي تستند إلى تبريرات تهدم المكاسب التي حققها القانون الدولي منذ إنشاء الأمم المتحدة، وهي مكاسب توصف بأنها مبادئ قانونية عالمية، كالمبادئ المتعلقة بتحريم استخدام القوة واحترام السيادة و الاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدول ومبدأ عدم التدخل.

لقد تم إضفاء صفات الحرب العالمية على الحرب الجديدة ضد الإرهاب. وحسب تعبير وزير الدفاع الأمريكي “دونالد رامسفيلد”سابقا ، لن تنتهي هذه الحرب باحتلال منطقة أو بانهزام قوة عسكرية معادية، لأنها تتطلب عملية ضبط سياسي وأمني واستخباري على المدى الطويل وتحقيق الشفافية في الأنشطة السياسية والاقتصادية والمالية لجميع الدول[39] وهو ما يعني تجاوز لجميع المكتسبات التي حققها مبدأ السيادة القانونية للدول وخاصة المستضعفة منها، على امتداد قرون عديدة بوصفه ركنا جوهريا في القانون الدولي.

إن الحرب على الإرهاب هي سابقة خطيرة في العلاقات الدولية من حيث إنها تعطي الولايات المتحدة وحلفائها فرصة ابتداع شرعية دولية جديدة موازية وبديلة عن شرعية الأمم المتحدة، فهذه الشرعية الجديدة المزعومة ستفتح الباب على مصراعيه أمام أي تدخل بدعوى الدفاع عن المبادئ أو المحافظة على المصالح تحت ذريعة محاربة الإرهاب، وفي التواجد الدائم في منطقة مصالح حيوية وإستراتيجية بالنسبة لأية مواجهة محتملة مع القوى الكبرى الأخرى كروسيا والصين أو مع القوى الإقليمية المجاورة كإيران وباكستان وأفغانستان.وهي بالإضافة إلى ذلك مقاربة تنطوي على صياغة جديدة لمبدأ التدخل الذي تتحصن وراءه الدول الصغيرة لحماية سيادتها الوطنية واستقلالها وبحيث يتم إضفاء المشروعية على التدخل الجماعي من خلال استثناء الحرب على الإرهاب من قاعدة تحريم استخدام القوة، ومن الخضوع للقيود والضوابط التي يفرضها القانون الدولي وذلك بدعوى ممارسة الحق في الدفاع الشرعي بصورة جماعية.

ثالثا: السيادة الوطنية…رؤية مستقبلية:

ماذا عن احتمالات المستقبل؟ وإلى أي مدى يمكن القول بأن فكرة السيادة الوطنية بسبيلها الآن إلى التلاشي أو الانهيار في ظل أوضاع التواصل المستمر والاعتماد المتبادل المتنامي بين مختلف مناطق العالم وليس فقط بين دولتين؟.

يمكن الإجابة على هذا السؤال بشقيه في نقطتين: أولاهما أن الاتجاه نحو تقليص دور السيادة الوطنية في نطاق العلاقات الدولية المتبادلة سيأخذ في الاطراد والتزايد علي الأقل خلال المستقبل المنظور ويعزى ذلك إلى كون أن العديد من التطورات التي سلفت الإشارة إليها لا تزال فعالة ومؤثرة في تشكيل بنية النظام الدولي في وضعه الراهن.

أما النقطة الثانية التي نود الإشارة إليها هنا، وفي معرض الإجابة عن السؤال المطروح، فمؤداها أن التسليم بالاستنتاج السابق ينبغي ألا يفهم منه أن مبدأ السيادة الوطنية -وفكرة الدولة القومية من أساسها- بسبيله إلى الاختفاء، فالراجح حتى الآن هو أن التطورات الراهنة في النظام الدولي لن تأتي على المبدأ المذكور تماما فالسيادة الوطنية ستظل باقية ما بقيت الدولة القومية ذاتها وتقديرنا أنه لم يجرؤ أحد حتى الآن على القول بأن هذه الدولة القومية ستنهار، بل إن العكس يبدو أنه الصحيح وأن أقصى ما يمكن لهذه التطورات الجارية في النظام الدولي المعاصر أن تفعله هو أن تنال من طبيعة الوظائف أو الأدوار التي تضطلع بها الدولة بالمقارنة بما كان عليه الحال في ظل النظام الدولي التقليدي. وطالما بقيت الدولة فستبقى معها رموزها الأساسية ومنها مبدأ السيادة ولكن بعد تطويعه بما يتناسب والأوضاع والظروف الدولية المستحدثة. [40]

خلاصة :

نخلص إلى عدة حقائق قائمة، أهمها أن مبدأ السيادة دائم مستمر لا يتغير، إلا أن صورتها وحقيقتها والمسئوليات التي تنهض بها تتغير مع الزمن أو يعاد توزيعها. ولا تعني التطورات الحادثة الآن نهاية مفهوم السيادة، ولكن تعني أن السيادة قد تغير مفهومها وتم إعادة توزيعها.. فقبل الثورة الفرنسية كانت السيادة ملكا للأباطرة والملوك ثم انتزعها الثوار ومنحوها للشعب، وصاحب ذلك موجة عارمة من استغلال الشعوب اعتدادها بنفسها. أما التطورات العالمية الحالية فقد أدت إلى تدويل السيادة وتوسيع نطاقها بحيث لم تعد خاصة بالشعب والدولة وحدها ولكن يشارك فيها المجتمع الدولي ممثلا في القوى المتحكمة به.

أما ما يشار إليه في الفقه القانوني عادة بمبدأ المساواة في السيادة أو مبدأ المساواة بين الدول المستقلة ذوات السيادة، فإنما هو مبدأ نظري ويكاد يكون العمل في الغالب والواقع على غيرذلك.
ومؤدى ذلك أن السيادة ترتبط ارتباطا وثيقا من حيث طبيعتها ومدى اتساع أو ضيق نطاق تطبيقها بقدرات الدولة وإمكاناتها الذاتية، أي أن القوة -باختصار- شرط من شروط ممارسة السيادة والحفاظ عليها، وهو ما يثير في النهاية قضية العدالة الدولية على كافة الأصعدة.

[1] – د.أحمد أبو الوفا ، الوسيط في القانون الدولي العام، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1995-1996 ص:38

[2]Bertrand Badi : Un monde sans souveraineté, FAYARD, PARIS, 1999, p : 19-20

[3] د.علي صادق أبو هيف ، القانون الدولي العام، منشأة المعارف الإسكندرية، طبعة 1995 ، ص: 103 .

[4] ريمون حداد، العلاقات الدولية، دار الحقيقة، بيروت، الطبعة الأولى 2000 ، ص: 273 .

[5] د. عبد القادر القادري، القانون الدولي العام، مكتبة المعارف، الرباط، 1984 .

[6] محمد بوبوش ،” اثر التحولات الدولية الراهنة على مفهوم السيادة الوطنية” ، السيادة و السلطة ،العدد 56 ،2006، ص120

[7] سهيل حسين الفتيلي ، الوسيط في القانون الدولي العام ، بيروت : دار الفكر العربي ، 2002،ص 127.

[8] عبد الكريم علوان ، الوسيط في القانون الدولي العام : الكتاب الاول : المبادئ العامة ، عمان ، مكتبة دار الثقافة للنشر و التوزيع ، 1998،ص 131

[9] د. ممدوح محمود منصور ، العولمة ، دراسة في المفهوم و الظاهر و الأبعاد ، دار الجامعة الجديدة للنشر ، الازريطة ،الإسكندرية 2003، ص43.

[10] د. ممدوح محمود منصور ، العولمة ، دراسة في المفهوم و الظاهر و الأبعاد ، دار الجامعة الجديدة للنشر ، الازريطة ،الإسكندرية 2003، ص44.

[11] د. ممدوح محمود منصور ، المرجع السابق ، ص45.

[12] د. حسن البزاز ، عولمة السيادة حال الأزمة العربية ، المؤسسة الجامعية للنشر و التوزيع ، 2002 ، بيروت ، ص 16-17.

[13] د. حسن البزاز ، المرجع السابق ، ص 16-17.

[14] د. عثمان حسين هندي ، د. نادية جبر عبد الله، العولمة و سيادة الدولة الوطنية ، دار الهدى للنشر و التوزيع ، 2005، ص 130-131.

[15] ممدوح محمود منصور، المرجع السابق ص54

[16] محمد بوبوش ، ” اثر التحولات الدولية على مفهوم السيادة الوطنية” ، سلسلة كتب المستقبل العربي ، السيادة و السلطة ، العدد 56، ، سنة 2006، ص120.

محمد بوبوش ، المرجع السابق ، ص 121[17]

[18] ياسر خضر الحواشي ، “مبدأ عدم التدخل واتفاقيات تحرير التجارة العالمية” ، رسالة دكتوراه ، جامعة دمشق، سوريا، 2001 ، ص 153.

[19] LAWRENCE (T.J) , The Principles of International Law, 7 Th ,ed, Macmillan & Co,LTD London, 1930,P124.

[20] Oppenhein L.C lanternational law , london, 1955,8ed,Vol 1, P305.

[21] LAWRENCE (T.J) , The Principles of International Law, 7 Th, ed , Macmillan & Co, LTD London, 1930,P 124.

[22] Rousseau ,Ch , Droit international public , Paris , 1980 , 8 ed , P 37.

[23] SCHWEBEL (S.M.) Aggression Intervention and Self — Defense in Modem International Law, RCADI 1972, II, Tome 236, pp. 452—455.

[24] راجع : جوزيف س. ناي. الابن – المنازعات الدولية ، مقدمة للنظرية و التاريخ -1993- تعريب :د. احمد أمين الجمل و مجدي كامل- الطبعة العربية الأولى –1997- الجمعية المصرية لنشر المعرفة و الثقافة العالمية – القاهرة – ص 192

[25] ياسر خضر الحويش، المرجع السابق ، ص 156.

[26] LAUTERPACHT (H), the International Protection of Human Rights, RCADI, 1947, Tome 70, P19.

[27] و يقرر لوتاربخت ما يلي :

In order to justify the use of the terni “intervention” in its accepted scientific connotation there must be an attempt to “impose the will” by one state upon another in an “imperative form”., Lauterpacht, op. cit., p.1 9.,

[28] محمد تاج الدين الحسيني ، المجتمع الدولي و حق التدخل ، سلسلة المعرفة للجميع ، 18 الرباط 2000 ، ص 137-138.

[29] عبد العزيز النويضي ، “اشتراطية حقوق الإنسان : ربط المساعدة باحترام حقوق الإنسان في العلاقات بين الدول ” المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية ، سلسلة مواضيع الساعة ن العدد 18 (1999) ، ص 37-38.

[30] المصدر نفسه ، ص38.

[31] عبد الواحد الناصر، التطبيقات المغربية لقانون العلاقات الدولية (الدار البيضاء : مطبعة النجاح الجديدة ، 2004) ، ص 18.

[32] محمد بوبوش ، المرجع السابق ،ص 119-131-122.

[33] صادق محروس ، “المنظمات الدولية و التطورات الراهنة في النظام الدولي” ، السياسة الدولية ا السنة 31، العدد 122اكتوبر 1995، ص 17

[34] هاري شات ن الديموقراطية الجديدة بدائل النظام العالمي ينهار ن الشركة العالمية للكتاب ن، بيروت 2003ص 192-

[35] محمد بوبوش ، المرجع السابق ، 127

[36] هاري شات ، الديموقراطية الجديدة بدائل النظام العالمي ينهار ، الشركة العالمية للكتاب ، بيروت 2003ص 192-

سامي جاد عبد الرحمن واصل ، إرهاب الدولة في إطار القانون الدولي العام ، منشأة المعارف ، الإسكندرية ، 2003 ، ص 20[37]

[38] محمد بوبوش، المرجع السابق، ص 129.

[39] أبو الخير أحمد عطية ، المرجع السابق ، ص60.

[40] د. احمد يوسف احمد ، ” السيادة الوطنية في ظل المتغيرات العالمية قيود متزايدة و تحديات”، المجلة الالكترونية ، معهد البحوث و الدراسات العربية ، 2010.