الدين والسياسة بين إشكالية العلمانية والدولة الإسلامية

تزداد الدول العربية والإسلامية، شرخا على مستوى التيارات السياسية التي تخترقها، وكأننا نعيش بدايات النهضة المعطلة والمجهضة، وما موضوع العلمانية وبشكل أكثر توضيحا علاقة الدين بالسياسة، إلا أحد أهم التيارات التي ورثتها الدولة إبان استقلالها.

إلا أننا سنحاول أن نعالج في هذا الموضوع، مسألة العلمانية باعتبارها دين النخبة الحديثة (أولا)، ثم لتوضيح علاقة الدين بالسياسة وجدلية من يخضع لمن (ثانيا)، ثم لنسلط الضوء على مسألة شعار الدولة الإسلامية وحقيقتها (ثالثا).

أولا : العلمانية : دين النخبة الحديثة

إذا سلمنا بأن العلمانية، هي الحياد تجاه الأديان، وبأنها تحاول أن تأسس لدين مدني، فإنها بهذا تسقط في تعارض تام مع الإسلام باعتباره عقيدة وشريعة، دين ودولة.

الأمر الذي دفع بدعاة العلمانية أن يدخلوا في اجتهادات تحاول أن تعطي مفاهيم جديدة للعلمانية منها، جعل مرجعيات الفكر النهضوي الفلسفة البشرية والبرهان الفلسفي والعلمي، والعزوف تماما عن النص الإسلامي والفكري المؤسس على هذا النص.

ويدخل في الفهم الثاني، المحاولات التي بذلت لإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والمرجعية الفكرية الموجهة لنظم الحياة والتطورات الكونية.

أما الفهم الثالث فهو محاولة الإقرار بالنص، إلا أنه يرى أن ثقافة النص، “من الفقه والأصول” بالأخص، ثقافة متموضعة “بوعي عصر إنتاجها”، ولذلك فإنها بحاجة إلى تجديد يأخذ بنظر الاعتبار طبيعة العصر وضروراته[1].

فإذا كان هذا على مستوى المفاهيم، فإنه فيما يتعلق بجوانب النخبة المنفتحة، عن صدق أو إدعاء، على العالم الغربي، والتي تعتبر نفسها علمانية في العمق ومتشبعة بالقيم الكونية كرافد من روافد العقلانية، فإنه ينحصر في الاقتداء بالغرب كما لو كان هذا هو الخيار الأوحد لمواجهة تحديات الراهن الكبرى. وفي اعتقاد هاته النخب، تشكل العلمانية، منظورا إليها كفصل الديني عن السياسي وبناء فضاء سياسي على أسس دنيوية، إحدى اللبنات الأساسية في عملية التحديث هاته.

ومما له دلالته أن أغلبية النخب الداعية للتحديث، والتي تبدو أقرب من الأنظمة القائمة مما هم عليه الإسلاميون، شرعت في التحالف فيما بينها للوقوف في وجه ما تسميه “بالظلاميين” حتى لا يتغلغلوا في الفضاءات السياسية.

من هذه الوجهة، ندرك لماذا تشكل الأصولية العدو المشترك بالنسبة لمختلف الاتجاهات المشكلة تاريخيا للنخبة ذات النزعة التحديثية[2].

إلا أن هناك من يرى، أنه لو أراد أصحاب التكتل العلماني أن يستمر، يحتاج أن يعيد النظر بمفهومه الراهن للعلمانية، وألا يكتفي بالإحالة فقط على النظريات التقليدية الغربية، وعليه أن يحدد ما إذا كان المقصود بها هو إلغاء فكرة الحزبية الدينية، وعلى أي قاعدة من الحريات السياسية والفكرية يستطيع أن يجعل من هذا الإلغاء والإقصاء قاعدة عامة بحيث يقبل الجميع.

فالمطلوب ليس نقل النموذج العلماني الغربي الحديث أو القديم، وإنما إبداع النموذج الذي يستجيب لمتطلبات العقلنة الفعلية التي يحققها المجتمع العربي الإسلامي، والتي تجعل من الضروري تنظيم التناقضات النابعة منه وضبطها[3].

ثانيا : الدين والسياسة وجدلية من يخضع لمن؟

في علم الاجتماع الديني، هناك عدة طرق يرتبط الدين بالسياسة، وهذه الطرق يمكن تصورها في الأشكال التالية :

1 – حكومات دينية خالصة : وهذه عرفتها المجتمعات البدائية – والمجتمعات الشرقية القديمة ذات الحضارة، مثل مصر الفرعونية.

2 – يلي هذا الشكل، شكل آخر يسمى بالحكومة الدينية المعتدلة، والدولة في ظل هذا الشكل من الحكومات تابعة للمؤسسات الدينية وزعماؤها، فالدولة هنا لا توجد ككيان منفصل، بل هي هيئة تقوي وتدعم الدين، كما أنها هيئة ضرورية لتوجيه الأفراد الذين لديهم ميل للإنحراف وتقويمهم بواسطة الدين، وهذا النوع ساد أوروبا في العصور الوسطى.

3 – وهناك أيضا الجانب الدكتاتوري، وفيه تتحكم الدولة في الدين وتستخدمه كأداة وذراع قوة لها وهذا الشكل النظري أكثر منه عملي، وذلك مثلما حدث في الثورة البولشفية في الاتحاد السوفياتي 1917، ومع ذلك لم تستطع القضاء التام على الدين فإنها سعت لضبطه والسيطرة عليه.

4 – وبين هذين الطرفين يوجد نظام الانفصال التام بين الدين والسياسة، وهذا غير محقق على المستوى الواقعي.

5 – ويلي هذا الانفصال التام الانفصال الجزئي، وهذا ما تعبر عنه وجهة نظر معظم الإجتماعيين، الذين يرون أن الدين والسياسة مؤسسات إجتماعية تتفاعل مع بعضها البعض وتتشابك وظائف كل منهما. ومع ذلك فبينهما إنفصال جزئي، وهذا الخط سائد في شمال أمريكا وأوروبا[4].

لكن إذا كان هذا على مستوى الاجتماع الديني، فإنه على مستوى التاريخ العربي والإسلامي نجد أن ما نعتبره ظاهرة شاذة… كان هو السمة العامة لحياتنا الإجتماعية، ومصدر العديد من التحولات والتجديدات التي عرفتها مجتمعاتنا التقليدية، وإذا كان من الصعب اليوم على الكثيرين منا فهم تدخل الدين في الحياة السياسية، فليس ذلك بسبب حيازتنا على مفهوم أصفى للدين، أو للسياسة، ولكن لأننا استبطنا عقائدية إجتماعية حديثة تفترض مسبقا أن صلاح السياسة يفترض استبعاد الدين منها، ولا يستقيم إلا بفصل الدين عن الدولة. وفي هذه الحالة أصبح يبدو لنا كل ما كان حالة طبيعية في الماضي، حالة مرضية في الحاضر، وفي الوقت نفسه أصبح ظهور السياسة في أشكال ومظاهر دينية هو التعبير البسيط والصريح عن التراجع والتخلف والارتكاس للماضي، كما هو التعبير عن رجعية هذه الحركات وتخلف قيمها وتفكيرها[5].

إن المشكلة حسب غليون، لا تكمن في سيطرة الدين أو السلطة الكهنوتية على الدولة واعتدائها عليها وعلى اختصاصاتها، وإنما ينبع بالعكس تماما، من مصادرة الدولة للدين وسيطرتها عليه واحتوائه وتوظيفه في استراتيجيتها الخاصة، ورفضها السماح لغيرها بمثل هذه الممارسة، فالدولة العربية الحديثة أصبحت ترى في احتكار التفسير الديني جزءا أساسيا من شرعيتها تماما كما هو الحال بالنسبة لاحتكارها ما يسميه الإجتماعيون السياسيون العنف الشرعي. ومن هنا فإن المشكلة الرئيسية التي يطرحها إنغماس الدين في السياسة العربية المعاصرة، هي مشكلة الصراع بين الأطراف الإجتماعية السياسية المختلفة على استملاك الدين وتفسيراته، وبالتالي تعدد مراكز التعامل بالدين، وتعدد تفسيراته نفسها، وتحويل الدين إلى ميدان الصراع السياسي، أكثر منه استغلاله من قبل سلطة دينية معصومة أو تدعي العصمة والوصاية على الإيمان وبالتالي على المجتمع، كأداة في فرض سيطرتها الزمنية[6].

إن محاولة الإجابة على سؤال من يخضع لمن، هو إشكالية التبعية بشكل من الأشكال، فإذا كان الإسلام الرسمي يهدف إلى إخضاع الدين للسياسة، ففي المقابل، نجد الإسلام السياسي يهدف إلى إخضاع السياسة للدين، فكلاهما على طرفي النقيض.

وفي الحقيقة فإن جوهر الإشكال يعود إلى صراع من أجل البقاء، فالإسلام الرسمي لا يمكنه الإستمرار في الحكم إلا إذا حاول أن يكيف ويفسر الإسلام لمصلحته، أما الإسلام السياسي فإن مطلبه جاء كرد فعل على إلحاق الدين بالسياسة، وجعله يشغل وظائف المراسيم والطقوس، هذا ما جعل الحركات الإسلامية هي نتاج هذا الانحراف، بالإضافة إلى إلغاء القوانين التشريعية بدون مبرر إلا لأننا خضعنا لعملية الاستعمار التي نسخت كل ما قبلها.

إن تكامل الدين مع السياسة، يمكن أن يتحقق وذلك بابتعاد السياسة عن توظيف الدين للتمكن من السلطة والحكم، وكذا بابتعاد الدين أن يصبح سلطة كهنوتية، وبالمقابل العمل على جعل الدولة هي دولة المجتمع، ولن يتأتى ذلك إلا إذا نهل كل منهما تشريعهما وحدود مجالهما من مصدر متعال عنهما، وبالتالي أن يبتعد الدين على أن يكون شكلا من أشكال الاستملاك المسيطر عليه من طرف الدولة.

ثالثا : شعار الدولة الإسلامية : تعبير عن اغتراب الدولة

إنه كلما تم استحضار مطالب الحركات الإسلامية، على مستوى تصوراتهم السياسية، إلا ورفع شعار تحقيق مطلب الدولة الإسلامية.

فهناك من عرف الدولة الإسلامية بأنها البنية السلطوية للأمة التي توجه الفعل السياسي وتحدده وفق منظومة المبادئ السياسية الإسلامية[7].

أما الأسس والمبادئ المتعلقة بالدولة الإسلامية فهي تنقسم إلى مصدرين : الأمة باعتبارها محل التكليف الشرعي، وإجماعها حول الأساس الذي تقوم عليه شرعية الحكومة والمؤسسات السياسية، أما المصدر الثاني فهو الشريعة، باعتبار نصوص الشريعة هي مصدر الأحكام والضوابط التي توجه الفعل الفردي والجماعي بما في ذلك الفعل السياسي[8].

إذا يمكن القول، بأن تطبيق القوانين الإلهية المستمدة من العقيدة المنزلة مقابل القوانين الوضعية المستمدة من الإجتهاد الإنساني هو الفارق الجوهري مثلا بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية، أو أن الخلافة بما هي بيعة مباشرة، مرتبطة بمفهوم أهل الحل والعقد هي النموذج الأصح لاختيار الحاكم وليس الانتخابات التشريعية والرئاسية العامة، كما يمكن اعتبار الدولة الإسلامية هي تلك التي تجعل غايتها الرئيسية خدمة الإيمان وإعداد المواطنين للآخرة وليس خدمة ورعاية المصالح البشرية الدنيوية أو رعاية هذه المصالح من وجهة نظر المصالح الأخروية والأهداف الدينية[9].

إن هذا الأمر سيدخلنا لا محالة في دوامة المفاضلة بين القوانين الوضعية والأخرى التي اجتهد فقهاء المسلمين ومجتهديهم لاستخراجها من دين الله لصوغ قانون لمجتمعهم السياسي، وبالتالي فهو يعد شكلا من أشكال النزاعات القائمة بين الإسلاميين وكذا العلمانيين، والحال حسب برهان غليون ليست مسألة اختيار بين أحكام ونصوص قرآنية ومدنية بقدر ما هي مسألة تقرير لطبيعة السلطة التشريعية نفسها وأهدافها، فهي إذا، مسألة سياسية بالدرجة الأولى تتعلق بتحديد منهج استنباط القانون في المجتمع، والأطر الشكلية لتبني الاجتهادات القانونية الفردية، سواء جاءت من علماء الدين أو فقهاء السياسة، واعتمدت على العقل أو النقل، وكانت محافظة أو تقدمية[10].

إن هذه المشكلة ستظل قائمة طالما لم يتم التعامل معها بشكل جدي، ولن يتم ذلك إلا بمحاولة الفهم، إن أي دولة عليها أن تنتج حداثتها وهنا نقصد بشكل أكثر دقة الإبداع، وبالتالي على كل دولة أن تنتج حداثتها التي تستجيب لظروفها التاريخية وتطورها الاجتماعي والثقافي والحضاري، بعيدا عن الاستنساخ والتبلد الفكري المتجلي في النقل الحرفي، فليس أخطر على شعب من أن يعيش سجين سيرورات تاريخية يعتقد أن الحصول على مكتسبات الحضارة لا يتم إلا بتقليدها أو إعادة إنتاجها في بلاده وتاريخه، ذلك أنه يقوم في هذه الحالة، دون أن يدري بمصادرة التاريخ،…، ولا يتصور أن من الممكن أن تكون هناك طرق أخرى للوصول إلى الحداثة المعاصرة غير الطريق الغربي، أو أن من الممكن إسناد العمليات التحديثية الرامية إلى إدخال العالم القديم في الحضارة المعاصرة على منظومات قيم ثقافية غير التي تسود اليوم في الغرب[11].

لكموش محمد: باحث في العلوم السياسية

[1] – عبد الأمير زاهد، الخطاب العلماني العربي المعاصر : تاريخيته وبنيته الموضوعية، المنهاج – العدد السابع والعشرون- خريف 1423ه-2002، ص 13.

[2] – عبد الله ساعف، الإسلام والعلمانية بصدد بعض الإحالات المغربية، ترجمة : مبارك الشنتوفي، آفاق، عدد 12-13، السنة 1993، ص. 28.

[3] – برهان غليون، نقد السياسة : الدولة والدين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1991، ص. 441.

[4] – مصطفى شاهين، علم الإجتماع الديني، إحياء التراث للطباعة، 1991، ص. 96.

[5] – برهان غليون، الإسلام السياسي، أو هل يمكن فهم ظاهرة تدخل الإسلام في السياسة؟ آفاق، عدد 2-3 السنة، 1993، ص. 11.

[6] – برهان غليون، نقد السياسة : الدولة والدين، مرجع سابق ذكره، ص. 322.

[7] – لؤي صافي، العقيدة والسياسة : معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، منشورات الفرقان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة حوار 44، الطبعة الثانية، 1998، ص. 121.

[8] – نفس المرجع ص. 143-144.

[9] – برهان غليون، نقد السياسة : الدولة والدين، مرجع سابق ذكره، ص. 352.

[10] – برهان غليون، نقد السياسة..، مرجع سابق ذكره، ص. 373.

[11] – نفس المرجع السابق، ص. 399-400.