قراءة في زيارة العاهل المغربي لتونس: الاتحاد المغاربي في مفترق طريق

رافق زيارة الملك محمد السادس لتونس الكثير من النقاش الذي يتمحور بين الجوانب الاستراتيجية الإقليمية والدولية، لكنها تدعو من جهة أخرى لقراءة دور المغرب الإقليمي المتجدد في المنطقة في ظل التناقضات التي تطبع التصورات والاستراتيجيات والسياسات التي تتحكم فيها قوى إقليمية ودولية مهتمة بالمنطقة وبمصيرها، خاصة بعد ثورات الربيع العربي التي أصبحت تقعد واقعا جديدا ومتناقضا أحيانا وغير ناضج مرات أخرى، مما يحتم التفكير في مصير الدول ومستقبلها بما يتلاءم مع قيم الاستقرار والتنمية والديمقراطية.

هل كانت الزيارة الملكية لتونس تدخل في إطار الحفاظ على العلاقات المتميزة بين البلدين باعتبارها نسق لبناء الاتحاد المغاربي أم هي استمرار لسياسة المحاور التي غلبت على علاقات الدول المغاربية إبان الحرب الباردة؟

1–   السياقات

أعلن وزير الخارجية المغربي (في تصريح لجريدة الشرق الأوسط) أن المغرب في شخص ملكه،  لا يتعامل مع رد الفعل كمبدأ عام في سياسته الخارجية وأن الزيارة التي قام بها الملك لتونس كانت مبرمجة منذ مدة طويلة، حيث يمكن الإشارة في هذا الصدد للزيارة التي قام بها منصف المرزوقي للمغرب سنة 2012، والتي بالإضافة للمعاني والمشاورات السياسية التي شملتها كانت فرصة لتكريس التقارب التاريخي بين البلدين المغاربيين، وفرصة للرئيس التونسي لاسترجاع بعض الذكريات الخاصة باعتباره عاش بهذا البلد ردحا من الزمن وباعتبار والده أقام وتوفي بمراكش المغربية.

عموما، الزيارة الملكية لتونس لا تحتمل تأويلات ظرفية؛ العلاقات المغربية التونسية بقيت متميزة في كل مراحل بناء دولة ما بعد الاستقلال، سواء في عهد بورقيبة أو بن علي، وليس مستغربا أن تبقى بهذا التميز فيما بعد مرحلة بن علي، ومحور الرباط تونس كان محورا فعالا للحفاظ على التحولات التي حدثت بعد الاستقلال في شمال إفريقيا، والباعث على استقرار هذا المحور هو أن الدولتان تحيطان من جهة بدولة ابتلعت أجزاء من أراضيهما معا وهي الجزائر وحاولت أن تبني قوة إقليمية باستقلالية عن التوافق الإقليمي، والعامل الثاني هو التبني المبكر للقيم الليبرالية وإن اختلفت المقاربات خاصة في علاقة الدين بالدولة، والعاملان يستمران في المستوى الإقليمي في أفق تفعيل اتفاقيات الاندماج المغاربي، ولا ريب أنهما معا يحتاجان لهذا الاندماج نظرا لقلة أو انعدام مردودية الطاقة وامتلاكها من طرف قوى إقليمية غير مضمونة أو معادية أحيانا.

من العوامل الأخرى المؤثرة في الزيارة الجانب الاقتصادي؛ البلدان معا كانا على الدوام يعتبران من الدول المتشابهة الإنتاج، فالهدف إذن هو تغيير طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين وإعادة بنائها على «نظرة جديدة تختلف عن سابقاتها بعيدا من منطق التنافسية الكلاسيكية»، (وفق تعبير وزير الشؤون الخارجية والتعاون المغربي لوكالة تونس أفريقيا للأنباء). ولن يكون التغيير بناء على مجرد آليات اتفاقية حيث يعتبر البلدان من أكثر الدول توقيعا على اتفاقيات التعاون، فلا بد من الارتكاز على آليات أخرى يمكن أن تكون أسسا للتعاون الاقتصادي المكثف كرأس المال الخاص، أو تنسيق التعاون والشراكة مع الاتحاد الأوربي الذي يعد الشريك الاقتصادي الأول للبلدين، والذي لا يمكن تجاوزه في أي حسابات من هذا القبيل.

العامل الثالث الذي يؤثر في سياق الزيارة هو التبعات التي تلت الثورات قبل سنتين والتي أعطت مشهدا سياسيا مشوها في ليبيا على الخصوص، المغرب حاول أن يقتحم الفضاء الليبي المعقد لما بعد الثورة واستقبل الوزير الأول الليبي ووقع معه اتفاقيات لكن ليبيا اليوم لا تملك سلطة قارة ولا فهما قارا للسلطة نفسها، بحيث تعدد المتدخلون داخليا وإقليميا ودوليا، والمغرب ليس بالقرب الاستراتيجي الذي يمكن من خلاله التأثير المباشر على الوضع في هذا البلد، أو على الأقل التأثير في إمكانية الانسياق إلى نظام معاد للمغرب قد يكلفه سنوات كثيرة كما كان في معظم مراحل الحكم التي كان فيها معمر القذافي. لذلك ليس أمام المغرب سوى نسج تصور مع حليف مضمون وذي توجهات ديمقراطية كتونس.

2–   الرمزية

تونس هي مهد التحول الذي حدث في شمال إفريقيا وبعض الدول العربية منذ انتفاضتها على نظام بنعلي وإزاحته من سدة الحكم، وهي بذلك ليست مكانا عاديا يمكن أن تتجه إليه الدول ورؤساؤها باعتبار الحمولات التي تمثلها على المستوى السياسي، أي أن الذين يدعمون تونس يدعمون توجها ديمقراطيا للمنطقة ككل.

زار العاهل المغربي الملك محمد السادس تونس بمرافقة من ولي عهده الأمير الحسن وشقيقه الأمير رشيد، بل تجول في شوارعها وصافح أهلها، وهي إشارة قوية إلى كون الزيارة تدخل في خانة الزيارات التي تحمل حمولات شخصية بالإضافة للمعنى السياسي، وضم الوفد أيضا كلا من مستشاري الملك الطيب الفاسي الفهري وفؤاد عالي الهمة وياسر الزناكي وعبد اللطيف المنوني من جهة، وعددا من الوزراء من بينهم وزير الشؤون الخارجية والتعاون ووزير الداخلية ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية ووزير الاقتصاد والمالية ووزير التربية الوطنية ووزير التعليم العالي ووزير التجهيز والنقل ووزير الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي ووزير الصحة ووزير السياحة. إضافة لتسعين من رجال الأعمال. وكل ذلك دلالة على أهميتها.

وقد انعكس هذا الثقل الممثل في كل هذه الشخصيات في طبيعة الاتفاقيات التي تم توقيعها بين المغرب وتونس والتي همت 23 اتفاقية تهم قطاعات متعددة منها اتفاقيات وبروتوكولات وبرامج ومذكرات همت العديد من القطاعات كالجانب الأمني والمجال الصناعي والملكية الفكرية والصحة واللوجستيك والتكوين والشؤون الدينية والأوقاف والسياحة والبورصة والتعاون الثقافي والبحث العلمي، وأيضا اتفاق إطار للاندماج الإقليمي والتنمية المتبادلة والإقلاع المشترك.

رمزية هذه الاتفاقيات والوفد الذي رافق الملك تكمن في الأهمية التي يوليها المغرب باعتباره داعما للثورة التونسية والتغيير الذي أحدثه التونسيون في المنظومة السياسية بعد هذه الثورة والقبول بها من طرف المغرب بل ودعمها لأن المغرب هو الدولة الإقليمية الوحيدة التي تدعم المسار الديمقراطي الناشئ في تونس، ولا شك أن ذلك يشكل توازنا في المسارات العامة التي تسير في خضمها الدول المغاربية عموما.

3–   “الكتل الثقيلة”

الفضاء المغاربي ليس معقلا للأنساق الديمقراطية فحسب؛ لقد أفرزت التحولات التي رافقت الثورات التي انطلقت شرارتها من تونس أن هناك اتجاهين لحل أكبر منافذ عدم الاستقرار الإقليمي؛ الاتجاه الأول يمكن أن يكون متوافقا عليه بين المغرب وتونس ويقوم على مقاربة شبه ديمقراطية وتمكين المنطقة من السير في اتجاه دولة المؤسسات، والاتجاه الثاني هو عسكرتاري انقلابي يظهر بجلاء في الحالة الليبية، وهو يقوم على تكريس مبدأ السلطة المنفردة بدون مراعاة الأسس الديمقراطية، ليس ذلك فحسب بل إن الدور الإقليمي للمغرب يتفاعل مع التصور التونسي في مسألة مكافحة الإرهاب واللاستقرار عموما وذلك القادم من دول جنوب الصحراء أساسا، وهنا يمكن للمغرب أن يكون نموذجا للتجربة التونسية الناشئة لاسيما أنه احتضن أغلب المعارضين السابقين لنظام بن علي الذين هم محور السلطة.

لكن، أثارت الزيارة من جديد النزاع التقليدي بالمنطقة والحصار الذي تحاول من خلاله دول أخرى فرضه على المغرب كزعامة إقليمية ولدوره الأساسي فيها، لقد سعت الجزائر لتحديد المزايا التي يمكن أن يحصل عليها المغرب من مسعاه في تونس، وهكذا سارعت لتحريك قدراتها القوية بموريتانيا للضغط على الرئيس لاستقبال ممثل جبهة البوليساريو، وهو تعبير منها على الحصار الذي تسعى لفرضه منذ سبعينيات القرن الماضي بحصر المغرب مع بحر ومحيط بدون جذور إقليمية أو إفريقية، ولا ننسى أنها نجحت على المستوى الإفريقي، حيث المغرب خارج البنية التي أسسها منذ ستينيات القرن الماضي وهي الاتحاد الأوربي، طبعا مع إحكام إغلاق الحدود البرية شرقا والسعي لخلق عداوات أكبر بين إسبانيا والمغرب قد تنجح الإستراتيجية بشكل أكبر.

والمغرب طبعا لا يعترف بالجغرافيا التي تدافع عنها الجزائر باعتبار أن الحل الاندماجي المغاربي هو حل لكل المشاكل السياسية والاقتصادية والتنموية للمنطقة؛ الاتحاد المغاربي هو تصور مصلحي عام لكنه بنية حضارية تفرغ فيها مستقبل الحضارة العربية الأمازيغية الإسلامية، والجزائر لا زالت تتبنى السياسة والتصور البيسماركي الذي لا يكاد يتجاوز مصالح الدولة، لكن الدول المغاربية لا تحتاج للبناء الذاتي فقط بل للصمود في وجه العولمة والقوى الصاعدة والتي لا ترى في الفضاء المغاربي سوى مجالا لتنزيل استراتيجياتها الهيمنية.

الكتل الثقيلة هي التي لم تستطع أن تبني سياسات تختلف عما تحكم في الحرب الباردة ولم تعمل على تطوير آلياتها الداخلية وتفاعلاتها مع التحولات، والتي أبرز الواقع أنها غير قابلة للحياة والاستمرار أو عرضة للاحتجاج المكثف لإسقاطها، لكنها تستمر في نهجها بدون بدائل ولا أفق، وهو ما يرهن مستقبل المنطقة.

4-  التناقض في تصور المستقبل

المستقبل يتقاسمه تصوران؛ دمقرطة متصاعدة بدعم شعبي، وبالتالي المسار التنموي المرتبط بالفضاء المغاربي الذي يراد له أفق مندمج ومتضامن ومتحد ضد كل الآفات والمشاكل. أو اتجاه يصادر الحقوق الأساسية ولاسيما حق اختيار النموذج السياسي وبالتالي المشاركة من طرف القواعد الشعبية في السياسة واختيار المسؤولين، وبالتالي مصادرة التوجه المغاربي لصالح سياسات ضيقة تقوم على المحاور التقليدية بالمنطقة. ويظهر أن هذا الأمر يقض مضجع المتحكمين في الدول العربية والمغاربية داخليا وخارجيا لاعتبارات متعددة؛

–  كون أن البدائل هي في الغالب بدائل غير مجربة لا تملك خبرات سياسية كافية لمجابهة المشاكل السياسية والاقتصادية المتعددة التي تتخبط فيها الدول؛

– كون هذه البدائل في مجملها بدائل قائمة على البعد الحركي الإسلامي الذي كان يشكل المعارضة الأبرز للقوى الداخلية التقليدية بالمنطقة؛

– كون أن الحركات الإسلامية لا تحضي بإجماع القوى العالمية المتحكمة باعتبارها غير مضمونة الولاء السياسي والاستراتيجي؛

– تضارب المصالح الإستراتيجية للقوى الكبرى كالولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وروسيا والصين بالمنطقة يؤجل الحسم السياسي والعسكري أحيانا لطرف دون آخر، خاصة مع ثقل الإجراءات القانونية داخل الأمم المتحدة، وتعقد المفاوضات السرية بين مجمل الأطراف حول طبيعة ودور دول المنطقة في المستقبل.

لذلك قد يكون المغرب يحاول أن يتحرك في بيئة لا تلائم استراتيجياته وتصوره للمنطقة، وقد يكون بالفعل يسترجع الدور التاريخي الذي كان يلعبه بها، لكن لا أحد يراهن على نجاح أو فشل الإستراتيجية أو التصور المغربي إلا إذا انسجم وتوافق مع لاعبين ومتحكمين إقليميين ودوليين يحضرون بالمنطقة مادامت مصالحهم حاضرة بها.