نهاية النظريات في عصر تكنولوجيا الإعلام والتواصل

نهاية النظريات في عصر تكنولوجيا الإعلام والتواصل[1]

جانيس كالينيكوس

ترجمة الحسن مصباح
تاريخ النشر يوم الاثنين 21 يوليوز 2014

تقديم

إن قيمة مقال جانيس كالينيكوس (Jannis Kallinikos) أستاذ الإدارة بمدرسة لندن للاقتصاد، والمتعلق بـ”نهاية النظريات” تكمن في تنبيهه إلى الثورة الإبستيمولوجية التي تخترق العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية على حد سواء في ارتباطها بتكنولوجيا الإعلام والتواصل التي تخترق حياتنا اليومية بشكل متزايد. تتعلق هذه الثورة بالدور المتعاظم الذي تحتله المعطيات وأساليب المعالجة الإحصائية لها عبر استخدام تكنولوجيا الإعلام والتواصل في بناء نظام الصلاحية العلمية على حساب النظريات.

النص المترجم

هل ولى الزمن الذي كانت تعتبر فيه المعطيات بدون نظرية مجرد تشويشات (bruit)؟ إن تحليل المعطيات أصبح يحتل مساحات أوسع على حساب الأشكال المعرفية الأخرى. فهناك نزوع نحو تحديد ظروف الحياة إما كمعضلات إدراكية ذات طبيعة حسابية أو عبر طرحها ضمن لغة النت. ضمن هذه الوضعانية الجديدة، لا يصبح الإدراك الحسي مجرد شيء زائد، وإنما أيضا جزء هام من التحليل المفاهيمي.

إن الشعور جزء مكمل للحياة، وهو راسخ بقوة في الوعي الإنساني رغم كون الثقافة تساهم بشكل واسع في تشكيله. إن العقل الإنساني يشتغل أيضا عبر عمليات إدراكية، تصورية أو مجردة. فالتجربة والمعرفة الإنسانية تمفصل بين المحسوس والمعقول، بين ما يتم التقاطه عبر الحواس وما يتم التفكير فيه بدون الإحالة المباشرة إلى الواقع المحسوس. والحالة هذه، فإن تكنولوجيا المعلومات تعيد رسم هذه الرابطة بين المحسوس والمعقول عبر تشكيل بيئـة تعطي أهمية متزايدة للنموذج الإدراكي القائم على تحليل المعطيات.

إن هناك عدة عوامل تكنولوجية وثقافية ساهمت في حصول هذا التحول، من أهمها السيلان المتعاظم والميسور لعناصر معرفية متاحة في صورة معطيات معلوماتية، والتي تُشَيِّد من خلال عمليات إحصائية دلالات جديدة. وهذا كله يجري على حساب الحدس، وبصفة عامة على حساب خبرة مؤسسة على الملاحظة ومعرفة العالم.

إن وفرة المعطيات هي الخاصية المميزة لعصرنا. وهي تقوم على الإيمان بأن الجمع الدقيق للمعطيات يوميا والقراءة الصحيحة لها يمدنا لأول مرة في تاريخ الإنسانية بمرآة نستطيع من خلالها أن نتفرس وجهنا الحقيقي حتى ولو لم نتمكن من التعرف عليه.

في سياق يتزايد فيه تداخل التكنولوجيا والحياة اليومية، يمكن للمعطيات أن تخبرنا عن ذواتنا؟ وكيف يحس جسدنا (خارج وعينا الذي لدينا عنه)؟ وأيضا عن كيفية اشتغال مجتمعنا ومؤسساته، أي أصدقاء نختار وبأي جماعات نلتحق؟ وأي سفر نختار هذه السنة؟ وبأي تأمين نكتتب، وأي الرحلات الجوية أرخص ثمنا؟ وكيف نستثمر في الشهور المقبلة؟ وأي شريط سينمائي نشاهد هذا الأسبوع؟ وهكذا دواليك. لنتأمل المثال التالي:

“ماذا يمكن لنا أن نستفيد من 80 مليون صورة أشعة سينية؟ سر الشيخوخة مثلا. فالباحثة شارميلا ماجمدار (Sharmila Majumdar) الاختصاصية في الطب الإشعاعي بجامعة كاليفورنيا (سان فرانسيسكو) تستخدم ترسانة من الماسحات الضوئية لمحاولة فهم كيفية تآكل العظام من الداخل. وهذا يتم بالطريقة التالية: يقوم الماسح الضوئي بالمسح الرقمي لصور أشعة سينية عالية الجودة ثم يقوم بتركيب هذه الصور في بنية ثلاثية الأبعاد. وهذا يؤدي إلى الحصول على نتائج دقيقة بشكل لا يتصور. إن المسح الرقمي لقطعة صغيرة من العظام يمكن أن تمدنا بثلاثين جيجابايت من المعطيات. وتقوم شارميلا ماجمدار بعد ذلك بجدل المعطيات المستجمعة من أجل تحديد الطريقة التي تتطور بها (trabeculae) المادة المكونة للعظام عند المرضى المصابين بألم المفاصل أو هشاشة العظام. وليس من النادر أن ينتج المختبر في اليوم الواحد حوالي ألف جيجابايت[2]، حيث يقوم الباحثون عبر تجميع معطيات ملفات عدة أشخاص بتخزين مئات الآلاف الجيجابايت من المعطيات. وتأمل شارميلا ماجمدار من ذلك فهم كيف يعاني بعض المرضى من فقدان كميات هامة من المادة المكونة للعظام بينما لا يعاني الآخرون من ذلك. “نحن لا نعرف ميكانيزمات ذلك” كما تؤكد ذلك، “وحين نفهم ذلك يمكن لنا تطوير العلاجات المناسبة“[3].

هذا المثال يقدم لنا نموذجا جيدا لاتجاه يرى أن تطور المعارف وبصفة عامة بناء المعنى لم يعد قائما على مقابلة النظرية مع الواقع، وإنما ببساطة عبر إجراء استبدالات إحصائية (commutations et permutations) على عدد هائل من المعطيات. إن الشروط التي يتم ضمنها التقاط المعطيات وتجميعها تتجاوز بفارق شاسع قدرات الذاكرة الإنسانية وتركيزها مهما كانت خبرتها. فضلا عن ذلك فإن الغاية الرئيسية للمسح الضوئي للعظام هنا ليست تقديم حجج للخبراء: إن الطريقة المعروضة سالفا لا علاقة لها بالمنهجية الطبية القائمة على إجراء الفحص الطبي انطلاقا من القراءة المتأنية لصور أشعة سينية. فنحن أمام كتلة هائلة من المعطيات تصيب بالدوار، تم تجميعها في بنك معطيات موحد من خلال المسح الضوئي لملايين صور الأشعة السينية. إن نمطنا التقليدي لإدراك العالم أصبح متجاوزا، ولن نحصل على شيء ذي بال إذا ما نحن فحصنا معطيات كل صورة أشعة سينية على حدة، بل لابد من تجميعها إذا أردنا أن نفهم ميكانيزمات (إواليات) تآكل المادة المكونة للعظام. وسيكون مكلفا للغاية ويستغرق زمنا طويلا. ويمكننا القول ببساطة أنه من المستحيل الاعتماد على الوسائل الحسية لمعالجة هذه الكميات الهائلة من المعطيات. إن المعرفة الطبية الراقية التي ستبزغ من هذه المعطيات تستمد من ترابطات إحصائية مستخلصة من ملايير المعطيات الناتجة عن ملايين الصور الإشعاعية التي تمت معالجتها رقميا.

إن تطور المعارف عبر هذه الوسائل لا يعيد فقط تشكيل نمط إدراك العالم، بل يعيد تشكيل عادات وتقاليد تصورية أساسية. إن المنهجية التي تقوم على استخدام عمليات الاستبدال الإحصائي على عدد هائل من المعطيات لا دين لها، وسيرورة الاستنباط تتم وفق قانون البرهان الاستقرائي. ولا حاجة إذن لأي نظرية، والنموذج في حالة وجوده إنما ينبعث من سيرورة الانتقال من الأسفل إلى الأعلى (processus bottom-up) للمعالجة الإحصائية للمعطيات. ويتنبأ كريس أندرسون (Chris Anderson)[4] رئيس تحرير مجلة (Wired) في نفس العدد من المجلة التي نشرت المقال حول المسح الضوئي لهيكلنا العظمي بنهاية النظرية والعلم (la science) ضمن المعنى المألوف القائم على أساس بناء تصورات انطلاقا من أدلة تجريبية. فالمعرفة ستتشكل فقط عبر استقراء الترابطات المشتقة من الكميات الضخمة من المعطيات. فبحكم التوافر الكبير للمعطيات كما يوضح كريس أندرسون، فإن هذا النموذج سيتعزز ويتقوى في السنوات المقبلة، والمعرفة ستنبثق عبر الاستقراء وحصرا من خلال علاقات مستخلصة من الكمية الهائلة من المعطيات. وكما يؤكد كريس أندرسون فقد ولى الزمن الذي كانت تعتبر فيه المعطيات بدون نظرية مجرد تشويش. ضمن هذا النسق الوضعاني الجديد، لا يجري الاستغناء فقط عن الإدراك الحسي، وإنما أيضا عن جزء هام من التحليل المفاهيمي. إن تحليل المعطيات يتوسع مجاله على حساب الأشكال المعرفية الأخرى. إن “الواقع” ينبثق بعد دورة تحليلية طويلة، من هباء معرفي لجزيئات حسابية.

إن هذه التطورات لا تقتصر على المعرفة العلمية، بل تنتشر عبر النسيج الاجتماعي من خلال تمدد متواصل لبنية تحتية معلوماتية تتيح اقتسام وإعادة تشكيل المعطيات. هذه الوفرة في العرض تتيح لتكنولوجيا الإعلام والتواصل، وللأشكال الثقافية والمعلوماتية الناتجة عنها أن تتسرب داخل تفاصيل حياتنا اليومية.

وإحدى النتائج الهامة لهذه التطورات هو إعادة تشكيل الوجود الإنساني والتحكم فيه تكنولوجياً حتى في أتفه مظاهره. فنحن أمام “يومي” جديد يتشكل. فالأنشطة اليومية تعتمد بشكل متزايد على معطيات منتجة تكنولوجيا، حيث يتم تدبير هذه الأنشطة انطلاقا من مجموعة من الوحدات المعلوماتية عبر الانترنيت أو شبكات أخرى للتواصل.

ينبثق ضمن هذه العمليات تحول خفي وحاسم في نفس الوقت، لا يتعلق فقط بالأسلوب الذي يقارب به الباحثون وجودنا، وإنما يشمل أيضا أساليبنا لبناءه. وهناك نزوع نحو تحديد ظروف الحياة إما كمعضلات معرفية ذات طبيعة حسابية، أو عبر طرحها ضمن لغة عالم النت (ماذا نشاهد أو ماذا نفعل، كيف نعثر على شريط سينمائي و كيف نعثر أيضا على صديق أو شريك حياة). وهذه الوضعيات يمكن إيجاد حلول لها عبر حساب آلي المعقد، انطلاقا من معطيات ومعلومات توفرها التكنولوجيات الحديثة وأنماط الحياة المرتبطة بها.



[1] La fin des théories ?, 17 Juillet 2009, http://www.telos-eu.com/fr/article/la_fin_des_theories

[2]  ألف جيجابايت (gigabyte) يوازي تقريبا مضمون مليوني كتاب.

[3] Thomas Goetz, “Scanning our Skeletons”, Wired, juillet 2008.

[4] The End of Theory: The Data Deluge Makes the Scientific Method obsolete By Chris Anderson, 06.23.08, http://www.wired.com/science/discoveries/magazine/16-07/pb_theory