المؤتمر الدولي الأول للغة العربية بوجدة

نظم مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بتعاون مع المجلس العلمي المحلي، ورئاسة جامعة محمد الأول بوجدة المؤتمر الدولي الأول في موضوع:”اللغة العربية والتنمية البشرية: الواقع والرهانات” الذي استمرت أعماله ثلاثة أيام: 15- 16-17/04/2008،  شارك فيه أكثر من ستين محاضرا ومحاضرة من حوالي عشرين دولة عربية وإسلامية وأروبية.

وقد دعا وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الدكتور أحمد التوفيق في كلمته الافتتاحية التي تليت بالنيابة إلى إيجاد التوازن اللازم  بين متطلبات التعليم باللغات الأجنبية والحفاظ على اللغة العربية عبر إدخالها في المعاهد التي تدرس بغير العربية، وكذا بإغنائها عن طريق الترجمة.

أما كلمة رئيس المجلس العلمي الدكتور مصطفى بنحمزة فاستهلها بالإشارة إلى كشف الأمكنة والأزمنة شفوفها وتميزها مما يلامسها أو يقع فيها من أحداث استثنائية غير عادية، واحتضان مدينة وجدة لهذا المؤتمر هو أحدها  وهو عنوان علمي حضاري ستتميز به، وأضاف أن الاشتغال باللغة العربية مشروع معرفي علمي واسع الأرجاء وممتد الجنبات والأنحاء، ومتعدد مواقع النظر والزوايا بتعدد الحقول المعرفية والمقاصد الحضارية، وأشار إلى أن السمة الجوهرية للغة العربية ارتباطها الكبير بالإسلام و كتابه الخالد، وهو جانب تراهن بعض الجهات الثقافية على تغييبه وطمسه.        

بينما تناولت كلمة رئيس مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية الدكتور سمير بودينار المقومات الحضارية للأمة التي لا مستقبل لها دون حضور قوي وفاعل للغة العربية، مؤكدا على رمزية المؤتمر الدولي للغة العربية في مدينة وجدة العريقة والعاصمة المغاربية، التي تمثل نقطة التقاء بين أبناء المغرب العربي، في أفق تحديد الرهانات التنموية المستقبيلة ذات العلاقة بالقضية اللغوية.     

في حين اعتبر مدير المركز الدكتور  رشيد بلحبيب المؤتمر أحد المداخل الرئيسة لإشاعة  التعاون بين أبناء الوطن الكبير رغم ظروف التشرذم وواقع الاختلاف الذي يشهده العالم العربي.

وقد قسمت جلسات المؤتمر لأربعة محاور رئيسة هي:

*- المحور الأول: التنمية البشرية والبحث العلمي تساؤلات الضبط والعلاقة، حيث ركز على قضيتين أساسيتين:- الأولى  تتعلق بمفاهيم ومجالات التنمية اللغوية، وقد رأس هذه الجلسة العالم اللغوي الدكتور تمام حسان، وشارك فيها كل من الأساتذة: “محمد الأوراغي من جامعة محمد الخامس بالرباط، ورشيد بلحبيب من جامعة محمد الأول بوجدة، وعز الدين البوشيخي من جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، وعبد المالك أعويش من جامعة ابن زهر بأكادير ” وتم التأكيد في هذا المحور على أن اللغة أساس لتنمية الإنسان الذي لا وجود له إلا باللغة الواحدة، القادرة على تنميته في مختلف أبعاده الفكرية والنفسية والعقدية، تنمية اقتصادية ومعرفية… كما تم إبراز مجالات التنمية التي توفرها اللغة العربية في التقرير المقدم إلى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وقد شملت مداخلات هذا المحور نقاط أساسية منها؛ عرض واقع البحث العلمي في البلدان العربية وآفاق التنمية، وقراءة في تقارير التنمية البشرية مع إبراز موقع اللغة العربية فيها.

القضية الثانية تمحورت حول اللغة العربية والتنمية المعرفية، وشارك فيها كل من الأساتذة: “رشأ عبد الله الخطيب من جامعة الإمارات العربية المتحدة، وحافيظي إسماعيلي من جامعة ابن زهر بأكادير، والحسين كنوان من جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، وعبد الرزاق تورابي، ومحمد غاليم من معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط”.  وتناولت ثلاثة مواضيع أساسية، يتعلق الأول  باللغة العربية والثورة المعرفية من خلال المجالات الاقتصادية والتقنية والإعلامية، أما الثاني  فركز على واقع اللغة العربية والتعليم العالي في الوطن العربي، في حين كان الموضوع الثالث  منصبا على  ديداكتيك اللغة العربية والتعليم عن بعد ومشاريع الإصلاح… و للإشارة فإن مداخلات هذا المحور أجمعت على أن اللغة العربية هي أساس النماء الإنساني وخزان المشاعر التي يحيى بها الإنسان وبها يدرك الفرد انتماءه الحضاري المتميز. كما بينت محورية اللغة في المنظومة الثقافية، لارتباطها بالفكر والإبداع والمعتقدات والتراث، ولكونها أداة لإنتاج المعرفة ونشرها،  ومدخلا رئيسا لتمكين المجتمع في عالم التنمية.

أما المحور الثاني فكان تحت عنوان اللغة العربية والتنمية المعرفية، وتناول  جملة من القضايا من بينها: التنمية الداخلية للغة العربية؛ ومجامع اللغة العربية وأكاديمياتها ودورها في التنمية؛ وواقع الترجمة والتعريب ودورهما في التنمية. حيث انصبت المداخلات  أساسا على إبراز كيفية تنمية اللغة العربية داخليا وساهم فيها كل من الأساتذة: “عبد الكريم محمد حسن جبل من جامعة طانطا بمصر، وضياء خضير من جامعة صحار سلطنة عمان، عبد الرحيم بودلال من جامعة محمد الأول بوجدة، وخالد اليعبودي من جامعة محمد بن عبد الله بفاس…” حيث بينت واقع الدراسات الإصطلاحية ودورها في تأصيل البحث العلمي، باستعراض أهم ملامح العمل المصطلحي في التراث العربي الإسلامي وتجلياته الراهنة، مع محاولة وضع أسس وقواعد واضحة لمنطلقاته ومناهجه، وكذلكاستعرضت ما تتميز بها اللغة العربية من وسائل وخصائص اشتقاقية تتولد بها كلمات جديدة تلاحق مستحدثات الحضارة بشقيها المادي والمعنوي، وتجعل من القوالب الصرفية أساس التنمية اللغوية خصوصا في جوانبها العملية .

 كما أكدت إحدى المداخلات على عدم التفريط باستبدال اللسان العربي بأي لسان آخر، لأن الأمر لا يتعلق بأداة وظيفية محايدة، بل برمز من رموز الشخصية العربية.

*- أما جلسات اليوم الثاني، فقد تناولت المحور الثالث الذي  كان بعنوان السياسات اللغوية في العالم العربي، من خلال قضيتين تتعلق الأولى برصد واقع وأبعاد اللغة العربية في التعليم وساهم فيها الأساتذة: “محمد الأمين خلادي من جامعة أدرار بالجزائر، وعواطف حسن عبد المجيد من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وأسماء عبد الرحمان من جامعة العلوم الإسلامية بماليزيا ، والحسين مليطان  من جامعة طرابلس بليبيا، وإسلمو ولدي سيدي أحمد من مكتب تنسيق التعريب بالرباط، وموسى الشامي الأمين العام لجمعية حماية اللغة العربية بالمغرب، وفؤاد بوعلي من معهد السياحة بالسعيدية. حيث أكدت  البحوث المقدمة على أن اللغة العربية قضية وجودية تتطلب وضع إستراتيجية عاجلة لتأهيل الأمة لاستئناف دورها الحضاري الرائد، وأشارت إلى أن غياب الإدارة السياسية يعد أكبر العوائق في جعل اللغة العربية لغة العلوم، وأساسا من أسس التوصيل الناجح لمحتويات العلوم الإنسانية ومعارفها، كما أشارت إلى واقع الدراسات الإصطلاحية ودورها في تأصيل البحث العلمي، من خلال إبراز دور المصطلح  العلمي في تنمية اللغة، وعلاقة ذلك بمشاريع الإصلاح، مع استعراض تجربة بعض المؤسسات اللغوية، والتأكيد على ضرورة تحديد آفاق العمل المصطلحي في ضوء خطة لتطوير التعليم تشبه تلك المعروضة في القمة العربية الأخيرة بدمشق.

في حين كانت القضية الثانية المعالجة بعنوان السياسات اللغوية في العالم العربي، وشارك فيه كل من الأساتذة: عبد الرحيم علي إبراهيم مستشار الرئيس السوداني ومدير معهد الخرطوم الدولي بالسودان، ومحمد دوابشة من الجامعة الأمريكية  بفلسطين، وعلي عبد القدر خلف الأمين العام لجمعية حماية اللغة العربية بالإمارات العربية المتحدة، وليلى توفيق العمري من الجامعة الهاشمية بالأردن،  ومن الجزائر كل من الأساتذة: خالد البوزياني من جامعة الأغواط، وعبد القادر سلامي  من جامعة تلمسان، وعبد الكريم بوفرة من جامعة محمد الأول بوجدة.حيث أشارت مداخلاتها إلى ضرورة بناء منظومة فكرية بوضع إستراتيجية تخطيط لغوي تحمل على عاتقها مواجهة تحديات العصر على الأصعدة المعرفية والاجتماعية والاقتصادية، بالاعتماد على ما أقرته مجامع اللغة العربية من مصطلحات كفيلة بتتبع التطورات المعجمية والدلالية لتنمية للبحث العلمي، وفي هذا الصدد تم استعراض تجربة كل من المعهد الدولي لتعليم اللغة العربية بالسودان،  وتجربتي مجمعي اللغة العربية الأردني والفلسطيني في تعريب التعليم العلمي الجامعي، وتم فيها التأكيد على ضرورة التنسيق بين المجامع اللغوية، في أفق بلورة مجمع لغوي موحد ذي فروع  متعددة في البلاد العربية،  حيث قدم في هذا الصدد مقترح للعمل المشترك لم يقف فقط عند المجامع اللغوية وإنما ضم المؤسسات والجمعيات الأهلية المدافعة عن اللغة العربية كذلك.

– المحور الرابع والأخير فكان بعنوان المقاربات الحاسوبية للغة العربية، حيث تم التركيز على ثلاث قضايا؛ كانت الأولى حول دور الترجمة والتعريب في تنمية اللغة، وقد ساهم فيها الأساتذة: سليمان العباس  مدير مركز أطلس العالمي للدراسات والأبحاث بالأردن، وإبراهيم الحواس مدير مركز الترجمة والتأليف والنشر بجامعة الملك فيصل بالسعودية، وعبد الحق بلعابد من جامعة الجزائر، وعبد السلام السيد حامد من جامعة قطر، وأمينة اليملاحي من معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط. حيث تم عرض تجارب بعض المؤسسات والدول المعتنية بالترجمة؛ )التعريب في الأردن، الأكاديمية العربية المفتوحة بالدنمارك، تجربة جامعة الملك فيصل(..  وقد تم التأكيد فيها على ضرورة رسم إستراتيجية موحدة لتيسير استعمال وتبسيط اللغة العربية، وإيلائها الاهتمام والتشجيع الكفيل بجعلها صرحا أكاديميا قويا، خصوصا وأنها تعد من المجالات الخصبة للاستثمار في التنمية البشرية، وفي تحقيق نهضة الأمم وتقدمها، وأداة فعالة في سبيل الإصلاح والتقدم.

أما القضية الثانية فكانت حول البحث التربوي والتعليم الإليكتروني في مجال اللغة العربية، وشارك فيها الأساتذة: حسين الأنصاري، وأسعد الأمارة؛ ووائل علي فاضل من الأكاديمية العربية المفتوحة بالدنمارك،والأخضر شريط من جامعة الجزائر،ومحمد ولد عبد الله بباه من جامعة محمد الأول بوجدة، حيث تمت الإشارة لآفاق التعليم عن بعد واستراتيجيته في ظل الانفجار المعلوماتي، والتطور التقني الذي يفرض صيغا تعليمية جديدة تتجاوز الصيغ التقليدية، خصوصا وأن التعليم عن بعد  أصبح في العالم الغربي تعليما قائما بذاته وذا مستوى عال من الجودة والخبرة.

أما القضية الثالثة  فقد خصصت للمقاربات الحاسوبية للغة العربية، وساهم فيها الأساتذة: جمعان عطية الغامدي من جامعة الباحة بالسعودية، ومحمد كاظم البكاء من كلية التربية بجامعة صحار بسلطنة عمان، ومحمد الناصري من جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، وعمر مهدوي من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء،  حيث قدمت فيها مقاربات نظرية لعلم الهندسة اللغوية، حاولت تشخيص واقع اللغة العربية في خريطة البحث اللساني الهندسي أو ما يسمى بتكنولوجيا اللغات، مع محاولة التفريق بين كل من اللغة الطبيعية والاصطناعية بتحديد وظيفتيهما من خلال التطور العلمي… ولم يقف الأمر عند حدود التنظير بل قدم مشروع تطبيقي متميز حول علم اللغة الحاسوبي خاص بعلم العروض كأحد النماذج التطبيقية لحوسبة اللغة العربية، وأيضا قدمت دراسة حاسوبية للدلالات الزمنية للوقف في نصوص اللغة العربية الفصيحة المعاصرة، معتمدة في ذلك على برنامج حاسوبي يسمى: “wavesurfe”.

أما مسك ختام الجلسات العلمية للمؤتمر فقد كانت مع العالم اللغوي الدكتور تمام حسان، من جمهورية مصر العربية ببحث معنون بـ:”في ظلال المعاني: دراسة قرآنية”، وللإشارة فإن المؤتمر حرص على هامش أشغاله أن يكرم الدكتور تمام الذي أمضى جزء من حياته في الجامعات المغربية، بحضور حشد من المؤسسات العلمية والهيئات الإعلامية والأهلية… في أمسية تكريمية تليت فيها شهادات بعض طلابه ونخص بالذكر شهادة العلامة الدكتور مصطفى بنحمزة، والعالم اللساني الدكتور محمد الأوراغي، لتتوج الأمسية بقراءات شعرية الأولى كانت في حق الدكتور تمام  للشاعر محمد علي الرباوي، وأخرى خصت أهل وجدة عموما، ولجنة المؤتمر خصوصا قدمها كل من الدكتور محمد كاظم البكاء، والدكتور عبد السلام السيد حامد،  لتوزع في النهاية جوائز تكريمية لكل من الدكتور تمام، والدكتورة أسماء عبد الرحمن… كما تلقى المركز هدية من الدكتور علي عبد القادر خلف نيابة عن المؤتمرين.

أما الجلسة الختامية للمؤتمر فاتسمت بتلاوة كلمات ختامية حيث أشاد الدكتور مصطفى بنحمزة بالنجاح المتميز للمؤتمر وبالحضور النوعي للعلماء المشاركين، وبالإقبال المتميز لطلاب العلم على مختلف جلسات المؤتمر، واعدا بتكفل المجلس العلمي بنشر أعمال المؤتمر… أما كلمة الضيوف فأسندت إلى كل من الدكتور سليمان العباس الذي  أشار إلى أن نجاح أي مؤتمر لا يمكن إحرازه بمجرد رغبة أو أمنية، وإنما هو حصيلة جهود كبيرة وعمل دؤوب، تتم في مراحل تسبق المؤتمر، ولا يعرفها إلا من كابد مشاقها، فوصل ليله بنهاره من أجل أن يخرج المؤتمر في أزهى صوره التي يتمناها الجميع، مضيفا أن انعقاد هذا المؤتمر جاء إنصافا  للغة العربية… في حين تحدثت الدكتورة رشأ عبد الخطيب باسم المؤتمرات عن سعادتها الغامرة بما لقيه الضيوف من حفاوة وعيانة استمرت طيلة أيام المؤتمر.

وفي نهاية أشغال المؤتمر تلا أعضاء لجنة صياغة التوصيات، التي ركزت على ضرورة رصد بعض التحديات الداخلية والخارجية التي تعاني منها اللغة العربية، والتي من بينها: غياب الإرادة السياسية واختلاف الشعارات الرسمية والتطبيقات العملية، و كذا غياب التنسيق بين المؤسسات اللغوية، وغيرها من المعوقات. وقد جاءت هذه التوصيات في أربعة مستويات:

1- المستوى المنهجي من خلال الدعوة لبناء مناهج دراسية تراعي خصوصية الأمة، وتأخذ بمعيار الجودة مع الانفتاح الواعي على الآخر. إضافة للدعوة لإنجاز معجم لغوي.

2- مستوى المؤسسات وذلك بدعوة المؤتمر لتفعيل النصوص القانونية التي تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في مؤسسات الدول العربية، ودعوة مراكز البحث لتوجيه مساراتها البحثية في تطوير مناهج اللغة العربية وتشجيع الباحثين للإسهام في جهود الترجمة والتعريب، كما دعا المؤتمر لإنشاء مكتبة إليكترونية تتضمن قواعد بيانات باللغة العربية، و إتحاد دولي للجمعيات الأهلية المعنية باللغة العربية، ومركز عربي للتخطيط اللغوي.

3-  المستوى التقني والحضاري دعا المؤتمر إلى التأكيد على أهمية توطين المعرفة باللغة الأم، واستضافة بعض الباحثين المستشرقين الذين خدموا اللغة العربية، وكذا دعوة رجال الأعمال للاستثمار في الصناعة المعجمية والترجمة الآلية، والانفتاح على الشعوب غير العربية بتعليم اللغة العربية.

4-  المستوى الإجرائي دعا المؤتمر في هذا المجال إلى إشراك معلمي اللغة العربية ومشرفيها في وزارات التعليم في مؤتمرات اللغة العربية، وكذا تكريم الهيئات الإعلامية التي ترتقي في مستواها اللغوي، إضافة لدعوة اللسانيين إلى تفصيح اللهجات العربية، وتسمية القاعات والمؤسسات العلمية بأسماء العلماء اللغويين، ورفع ما تقرر من توصيات للجهات المسؤولة.