العلم والتعليم في بلاد المغرب من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الهجري

نظم مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، يوم الأربعاء 16 نونبر 2011، وبتعاون مع جامعة محمد الأول، ندوة علمية في موضوع: “العلم والتعليم في بلاد المغرب من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الهجري”، أطرها نخبة من الأساتذة والباحثين .

ففي الجلسة الافتتاحية، التي ترأسها عبد الرحيم بودلال، مدير المركز ، وبعد الكلمة الترحيبية للسيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، أشارت كلمة سمير بودينار، رئيس المركز،  إلى أهمية الندوة وضرورة تضافر الجهود بين المؤسسات العلمية والثقافية في تنظيم مثل هذه الندوات، داعيا إلى إعادة الاعتبار للفكر والمعرفة والبحث العلمي واعتماده في قراءة التاريخ المغربي. كما تناولت كلمة توفيق فايزي، ممثل اللجنة التنظيمية، أهمية البحث في مجال الفلسفة الإسلامية وعن مشروع فريق البحث، والمقاصد المعرفية للندوة، ومنها التعرف على المتن العلمي المغربي لتلك الفترة. 

الجلسة الأولى التي ترأسها الأستاذ بدر المقري، كانت أولى مداخلاتها تحت عنوان “الفاعلية الفكرية بالغرب الإسلامي خلال القرن الخامس عشر”، أطرها الأستاذ بناصر البعزاتي الذي استهل مداخلته بالمقارنة بين القرنين الميلاديين، الرابع عشر والخامس عشر، مشيرا إلى أن عدد المؤلفات في القرن الرابع عشر يفوق عدد المؤلفات التي صدرت في القرن الذي تلاه، فضلا عن عدد العلماء الذين لم يمارسوا التأليف أو ربما لم تصلنا أعمالهم. وتساءل الباحث، عن سبب هذا الفارق في كمية المؤلفات، وهل ينسحب هذا الاختلاف على نوعية المضامين والمواضيع وطرق النظر والاستدلال والبناء المفهومي؟ وفي صميم تساؤلاته، تحدث عن مظاهر الحيوية التي طبعت القرن الرابع عشر، من مناقشات ومطارحات فكرية في عهد المرينيين والوطاسيين (بين الفقهاء والمتصوفة) و(بين الفقهاء أنفسهم) و(علاقة العلماء بالسلطة، ولاءً ومعارضةً) و(الجدل حول معايير إثبات النسب الشريف).

وفي صدد حديثه عن الحراك الفكري وصف الجزولي باللحظة الأساسية في مجال التصوف، كونه جمع بين النسب الشريف والتصوف كممارسة، كما تحدث عن عمر المغيطي رفيق الجزولي وما شاب شخصيته من غرابة في الأفعال والأقوال استفزت العلماء وأثارت استنكارهم. وزروق الذي انتقد ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض ولكن أقر بتعدد الأساليب والأذواق. وحول علم الكلام، تحدث الباحث عن مجادلات السنوسي والمغيلي، حيث عارض الأول التقليد ودعا إلى ضرورة إعمال النظر كأساس للإيمان الصادق بينما وصف المغيلي النظر بالخدعة وانتقد علم الكلام ووصف المعتزلة بمجوس الأمة. ويخلص الباحث إلى القول إن الوضع الحضاري بالغرب الإسلامي شابه الجمود وغلبت عليه أساليب التنبيه من قبيل (احترز – احذر – أعرض..)؛ وممثلو هذا الفكر (الأشعرية الشافعية والأشعرية المالكية والمالكية المناوئة لعلم الكلام)، الذين وضعوا سقفا حد من حرية التفكير والخيال.

المداخلة الثانية في موضوع “المنطق الإسلامي في القرن التاسع الهجري بين القبول والرد”، أطرها الأستاذ حمو النقاري، وانطلاقا من مفهوم المنطق بصفة عامة والمنطق الإسلامي بصفة خاصة، قارب الباحث موضوعه عبر خمسة عناوين ( تعريف المنطق – المنطق الإسلامي – الوضع  الذي احتله المنطق في الحقل الثقافي خلال القرن الخامس عشر – المنطق ومقتضيات القبول والرد – مآل المنطق في الثقافة الإسلامية حتى عصرنا هذا في المؤسسات التي تنتسب إلى الفكر الإسلامي). وبناء على أن الفلسفة استشكال واستدلال، أكد الباحث على ضرورة النفاذ إلى الجوهر وعدم الاكتفاء بالشكل، باعتبار أن الجدل الذي دار حول مفهوم المنطق ظل محتدما حول الشكل والصورة. وإذا كان المنطق من العلوم التي نشأت في اليونان بنوعيه (الأرسطي والرواقي)، بهدف البحث عن الطريقة التي تصبح من خلالها المعرفة ممكنة، يقول الباحث، فإن هذا العلم وفد من جملة العلوم التي وفدت على العرب، وهنا يتطرق الأستاذ إلى صنفين من المنظق: (المنطق المنقول) ويقصد به المنطق اليوناني وهوالذي ظل محل رفض، بينما (المنطق الأصلي) يقصد به المنطق الذي نبع من أرضيته الإسلامية وعرف قبولا من الفقهاء والعلماء وفلاسفة الإسلام. ويخلص الباحث في نهاية مداخلته إلى أن الجدل الذي ظل محتدما بين التيارين انتهى بالتوفيق بينهما.

المداخلة الثالثة، أطرها اأستاذ سعيد البوسكلاوي، تحت عنوان: “بعض سمات وحدود علم الكلام عند السنوسي”. السنوسي الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي، اشتهر بثقافته الموسوعية، يقول الباحث، حيث كتب في عدة علوم وخاصة “علم الكلام”، والمداخلة كانت مساءلة لمساهمات السنوسي العلمية، في مجال النظر العقلي والإكراهات العقدية التي ميزت عصره. ورغم محدودية أفقه الكلامي، يقول الباحث، فقد كان السنوسي ينزع إلى التجديد والاجتهاد والدفاع عن المذهب الأشعري. وعن صورة ذلك العصر في مرآة السنوسي، فهي صورة قاتمة لدرجة جعلته يصفه بـ”آخر الزمان”، حيث انتشرت البدع التي حدت من حرية الفكر والخيال (تحريم علم الكلام – الاكتفاء بظاهر النص – التأثر بأقوال بعض الفلاسفة – البدع المعتزلية)، وظل السنوسي على خلاف مع معاصريه، وجوهر هذا الخلاف ناجم عن الخلط الذي شاع بين أصول الأشعرية وفروع المالكية. واشتهر السنوسي باعتراضه على الفخر الرازي وانتصاره للجويني، وانتصاره للمناطقة على المتكلمين وتفضيله لأهل الكلام على أهل الفقه. وخلص الباحث إلى أن السنوسي وإن لم يقدم إضافة نوعية في مشروعه الكلامي، إلا أنه اتسم برسوخه المعرفي.

المداخلة الرابعة، في موضوع “نموذج ابن غازي المكناسي”، أطرها الأستاذ أحمد مصلح، الذي اتخذ من نص (بغية الطلاب) مرتكزا لمجال بحثه، الذي كان على صلة بسياق المداخلات التي سبقته والتي أجمعت على ضرورة تحقيق مخطوطات تلك الفترة التي لا تزال طي الإهمال. ابن غازي المكناسي كان منارة بارزة في عصره نظرا لجهوده العلمية والتعليمية، فنص (بغية الطلاب) هو أرجوزة لخص فيها كتاب ابن البنا المراكشي، ثم شرحها، من أجل تسهيل عملية الفهم على الطلبة وتمكينهم من الحفظ. تحدث الباحث عن الجانب السلبي في الأراجيز المتمثل في الاختصار الذي غالبا ما يخل بفعالية التعلم وروح العلم مثلما أشار ابن خلدون، ومن مظاهر هذا الخلل، غياب الإبداع والنقاش النظري وسيادة الفقهي على الفلسفي. ورغم الجهد العلمي لاين غازي المكناسي، يلاحظ الباحث، أنه ظل مطبوعا بالتراجع مقارنة بإنجازات سابقيه من جهة، والتطور الذي حققه معاصروه في أروبا من جهة ثانية، كونه بقي أسير الشرح والتفسير على مستوى اللغة دون إضافة نوعية على المستوى الرياضي الذي أنجزه ابن قنفذ وابن هيدور، باستثناء اللغة الرمزية التي ابتكرها في مجال المعادلات الجبرية.

الجلسة الثانية التي احتضنها في الفترة المسائية، المركز بمقره “منار المعرفة” ترأسها الدكتور بناصرالبعزاتي، فكانت أولى المداخلات تحت عنوان “الحركة العلمية في المغرب خلال القرن العاشر الهجري”، أطرها الأستاذ محمد منفعة، الذي استهل حديثه بنظرية ابن خلدون حول جدلية العلاقة بين العمران والعلم، متسائلا عن مدى صحتها، انطلاقا من مدخلين: (مركز العلم والتعليم) و(العلماء). لاحظ الباحث أن المراكز العلمية والتعليمية حافظت على استمراريتها في العهد المريني رغم ما اتسمت به تلك الفترة من توترات وصراعات، وكذلك في عهد الوطاسيين والسعديين وما ترتب عن ذلك من أزمات مست جميع نواحي الحياة. استند الباحث على أدلة تضع نظرية ابن خلدون موضع شك ومراجعة، بناء على شهادة علي بن ميمون الذي جاب أقطار المشرق والمغرب، مقارنا بين أهم الحواضر العربية ومشيدا بتفوق المكانة العلمية لمدينة فاس على باقي الحواضر التي عاينها وعايشها في رحلاته. أما بخصوص العلماء، واستنادا إلى بعض المصادر، فقد كان المغرب يزخر بكبار العلماء الذين ظلوا قبلة لطلبة العلم من كل الجهات، وقد أحصى ابن عسكر في دوحته 153 عالما.

المداخلة الثانية أطرها الأستاذ خلاف الغالبي في موضوع “كتاب (وصف أفريقيا) للحسن الوزان”.  حيث استهل ا حديثه عن المقصود بأفريقيا لدى الحسن الوزان، ويعني بذلك شمال أفريقيا إلى حدود ساحل العاج. وقدم الباحث نبذة عن المؤلف الذي اشتهر بليون الأفريقي أو يوحنا ليون الأفريقي والظروف التي  سقط خلالها أسيرا في جزيرة جربة وتم تسليمه كهدية للبابا ليون العاشر بروما. الكتاب، حسب الباحث، يتميز بمنهجية جديدة في التأليف الجغرافي. وبعد أن تحدث عن الإقليم بمفهومه المناخي والسياسي، في العصور القديمة، أشار إلى أن الحسن الوزان أسس لمفهوم جديد للإقليم بمعناه الطبيعي، حيث يمكن اعتباره المؤسس الفعلي للجغرافية الإقليمية الحديثة، وما يميز الكتاب أقسامه واتسامها بتدقيقات تتعلق بجغرافية أفريقيا ومناخها وخصائص ساكنتها والمميزات الإقليمية، النباتية والاقتصادية والظواهر الجغرافية والطبيعية. والكتاب بشهادة عدد من الغربيين يمثل نقلة نوعية في التأليف الجغرافي والدقة والموضوعية في تحري الحقائق.

المداخلة الثالثة تحت عنوان: “من قضايا تاريخ الأفكار في مغرب القرن السابع عشر الميلادي”، أطرها الباحث بدر المقري الذي استهل حديثه بضرورة التمييز بين البنيتين العميقة والسطحية في مقاربة موضوع تاريخ الأفكار الإنسانية بالمغرب من حيث تقاطع العلوم والفلسفة والأدب. وقد تناول الباحث سيرة “أبو العباس أحمد المقري” أحد أعلام الفكر العربي، المولود بالجزائر بقرية “مقرة” ثم رحل إلى المغرب، حيث سافر إلى فاس بداية القرن السابع عشر الميلادي للدراسة، ثم إلى مراكش واشتغاله بالتأليف. وتحدث الباحث عن علم المناظرة، واقترح مؤشرات لتاريخ الأفكار بالمغرب (الصياغة – الفرضية – طرائق الاشتغال في المناظرة – الاستدلال بين ما هو وضعي وما هو معياري…).

المداخلة الرابعة أطرها الأستاذ محمد لشقر تحت عنوان: “سؤال العلم والتعليم في القرن الثاني عشر الهجري”، وقد اتخذ الباحث كتاب حسن اليوسي أرضية لمقاربته، فقدم عرضا حول القانون في أحكام العلم ومناهج التعليم وآداب المتعلم. وما يميز حسن اليوسي عن علماء عصره، حسب الباحث، هو موقفه المعتدل من الفلسفة رغم تكوينه التقليدي، ومحاولاته في إصلاح التعليم وتقييمه للعلوم.

المداخلات أثارت جملة من الأسئلة والتعقيبات لدى الحاضرين من طلبة وأساتذة، أثرت النقاش المتعلق بأهمية المخطوطات وضرورة تحقيقها ونشرها، بوصفها إرثا فكريا لا يمكن الاستغناء عنه في التأسيس للنهضة الحضارية بمنطلقاتها السياسية والتنموية.

gran1