البعد الأندلسي للمغرب

نظم مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة ندوة وطنية في موضوع: “البعد الأندلسي للمغرب”  وذلك يوم الخميس  26 يناير2012، بمقره “منار المعرفة”. تندرج هذه الندوة في صلب الانشاغلات البحثية للمركز، الذي سبق أن تناول في أنشطته، موضوع الأندلس؛ غير أن ما يميز هذه الندوة هو تفاعلها مع المضامين الجديدة لدستور 2011، وتنصيصه على المكون الأندلسي للهوية المغربية.

وفي هذا الإطار، جاءت كلمات الجلسة الافتتاحية التي ترأسها الدكتور فؤاد بوعلي . حيث قاربت كلمة مدير المركز، الدكتور عبد الرحيم بودلال، الانتماء المتوسطي للمغرب والتفاعل الذي ظل يطبع المغرب والأندلس طيلة العصر الوسيط.

في نفس السياق، جاءت كلمة اللجنة المنظمة، حيث تطرق الدكتور عبد الحميد أسقال، إلى الأندلس كتجربة إنسانية خالدة، لا تزال تثير الكثير من الجدل والتأمل، كما تحدث عن مظاهر الحياة الأندلسية في حياة المغاربة، والمشترك الثقافي في تجلياته الصوفية والفنية، وهو موضوع، يقول الأستاذ، يحتاج إلى التنقيب والاستجلاء.

الجلسة العلمية الأولى، التي ترأسها الأستاذ مولاي أحمد الكامون، أطر أولى مداخلاتها، الدكتور عبد الله الترغي ، من كلية الآداب تطوان، في موضوع “التراث الثقافي الأندلسي: بعض الأسر العلمية نموذجا”، وقد تطرق الأستاذ إلى تفاعل الأسر الأندلسية مع بيئتهم الجديدة التي نزحوا إليها بعد نكبة السقوط، كما تحدث عن أدوارها الفكرية والعلمية بعد أن أقامت بعدد من المدن المغربية. من بين الأسر التي ذكرها الباحث، أسرة بن جد الفهري، التي اشتهرت تحت اسم الفاسي، وقد أنجبت عددا من المثقفين من أمثال أبو بكر وأبو المحاسن وعبد القادر الفاسي الذي اشتهر بغزارة التأليف في العلم والأدب وترك عشرات المخطوطات، كما تحدث عن عائلة بن سودة، التي نبغ فيها عدد من العلماء وخاصة في مجال التاريخ مثل محمد العابد وعبد السلام بن سودة، وسرد عددا من الأسر الأندلسية التي كانت ذات حضور في المجال العلمي والأدبي والسياسي أو التي تبوأت مناصب مرموقة في الدولة.

المداخلة الثانية، في موضوع “الامتداد الأندلسي في المغرب: شفشاون نموذجا”، أطرها الأستاذ محمد القاضي،أستاذ باحث من تطوان، حيث حلق بنا في الأجواء الأندلسية لشفشاون، التي قال عنها أنها تشبه غرناطة وهي لمن يزورها تختزل خمسة قرون في يوم واحد على حد تعبيره.هذه المدينة الصغيرة جدا والأندلسية جدا على حد تعبير الغيطاني، يقول الباحث، تأسست كإمارة قبل سقوط غرناطة بعقدين من الزمن. وتحدث الأستاذ القاضي عن الهجرات التي انطلقت من الأندلس إلى شفشاون قبيل سقوط غرناطة واستمرت إلى غاية 1502، وقد نقل المهاجرون نمط حياتهم (الصناعات، أساليب وتقنيات الزراعة، التجارة، الفنون والعمران ومظاهر الفرح)، وقد تميزت الأسر الأندلسية بالتفوق على غيرها. وشكا الباحث من شح الأبحاث العربية حول المدينة التي لا تتجاوز أربعة تآليف.

المداخلة الثالثة، في موضوع “الأندلس وقضية المثاقفة”، أطرها الدكتور بدر المقري، أستاذ باحث بكلية الآداب وجدة، حيث تناول تجليات التفاعل الثقافي بين العدوتين (المغرب والأندلس)، وذلك من خلال ثلاثة مداخل: (المجال الحضاري – اللحظة الحضارية – الرسالة الحضارية)، وأكد الباحث على البعد المغربي للأندلس، باعتبار المغرب هو الأصل، وهو بعد أكده مثقفون إسبان، كما يتجلى في الراهن الأندلسي بمظاهره المتعددة. ومن تجليات المثاقفة تحدث الأستاذ بدر عن تشابه الأمثال الشعبية والقصائد الزجلية. وفي ختام عرضه قدم ملتمسين: الأول، وهو ضرورة التوظيف العلمي للبعد الأندلسي للمغرب في إطار الوحدة، والثاني ضرورة توظيفه في إطار الدبلوماسية الموازية والثقافية.

الجلسة العلمية الثانية، أطر أولى مداخلاتها الأستاذ مولاي أحمد الكامون، في موضوع “تمثل الأندلس في أدب الأطفال:النموذج المغربي الإسباني”، وقد فضل الأستاذ الحديث عن الأندلس كلحظة انبعاث، من منطلقات تربوية جديدة تستثمر التاريخ في إعادة بناء المستقبل على أسس إنسانية وحضارية بين المغرب وإسبانيا. وقدم الأستاذ عددا من العينات القصصية التي أعدها مؤلفون عرب مختصون في أدب الأطفال، وهي قصص تخلو من مظاهر الحضارة العربية وتقتصر فقط على ذكر بعض المعارك والشخصيات العربية والإسبانية، ولا تعكس التاريخ إلا في بعد المواجهة والصدام مع الآخر، وهي قصص خيالية مستوحاة بشكل فقيرمن أحداث تاريخية، ومن العينات التي اعتمدها الباحث: (فتح الأندلس)، (العقاب)، (الأرك)، (مصرع غرناطة) للمؤلف الفلسطيني شوقي أبو خليل؛ و(عيون عائشة تدمع)، (بكائية على سقوط غرناطة) للكاتب المغربي محمد بن أحمد شماعو أو الشريط المصور (فتح الأندلس) لحميد السملالي. وانتقد المظهر التحريضي لهذه القصص. وفي صدد دعوته إلى أدب يؤسس للتعايش، أشار إلى كتاب “طوق الحمامة” لابن حزم الذي يعكس مظاهر التعايش في الأندلس بين المسلمين وغيرهم، محبذا أن يكون هذا النوع من الكتب مصدر اقتباس واستلهام للمتخصصين في أدب الطفل.

الإسبان أيضا لا يشذون عن العرب، حيث لم يجتهدوا في تغذية الطفل الإسباني سوى بما هو عنصري وعدائي. ومن النماذج التي استشهد بها الأستاذ الكامون سلسلة من القصص المصورة تحت عوان: (القائد الرعد)، تدور أحداثها في القرون الوسطى بين المسلمين والمسيحيين. وفي هذا السياق تحدث عن الصورة المشوهة للإنسان العربي في مرآة القصص المخصصة للطفل الإسباني، داعيا إلى ضرورة تضافر الجهود من أجل تغيير نظرتنا إلى التاريخ في سبيل مستقبل للتعايش والتعاون قوامه الاحترام والتسامح، وهذه مهمة النخب المغربية والإسبانية.

المداخلة الثانية، تحت عنوان “دسترة الروافد الثقافية: قراءة في البعد الأندلسي”، أطرها الدكتور خالد شيات استاذ باحث كلية الحقوق بوجدة. في مستهل عرضه، تحدث الأستاذ عن دستور 2011، الذي دستر الرافد الأندلسي كأحد مكونات الهوية المغربية، كما تحدث عن (اللغة والثقافة) كآليتين يتحدد عبرهما الانتماء الهوياتي، نظرا لما يتمتعان به من تأثير مباشر وعميق على النمط السياسي للدولة، بصرف النظر عن نوعها. وفي هذا السياق قدم نماذج من التجارب الدستورية:

– النموذج الأمريكي: الوحدة الثقافية والتعدد اللغوي

– النموذج الفرنسي: الوحدة الثقافية والوحدة اللغوية

– النموذج السويسري (الديمقراطية التشاركية): التعدد الثقافي واللغوي مع هيمنة الألمانية

– النموذج الإسباني (الديمقراطية التنافرية): التعدد الثقافي واللغوي في إطار دسترة اللغات المحلية مع اعتماد القشتالية لغة رسمية.

– النموذج الهندي (النموذج الديمقراطي المتخلف): الانكليزية لغة رسمية وأساسية، إلى جانب عشرات اللغات وآلاف اللهجات.

وبعد أن قارب هذه النماذج، انتقل الأستاذ شيات إلى الحديث عن دوافع الإصلاحات الدستورية في المغرب، التي عزاها إلى ثلاثة اعتبارات:

– الاعتبار الأول وهو أن النموذج البسيط للدولة لم يعد قادرا على الاستمرار.

– الاعتبار الثاني حدده في حاجة الواقع المغربي إلى التعدد اللغوي (العربية والأمازيغية).

– الاعتبار الثالث هو تعدد الأبعاد الثقافية للمغرب وإمكانية استثمارها كمصدر ثراء وقوة.

ومن هذا المنطلق، اعتبر دسترة الرافد الأندلسي مبادرة شجاعة من الناحية الأدبية والسياسية، مؤكدا على أن دسترة التعددية تعزز الوحدة الوطنية.

المداخلة الثالثة، تحت عنوان “المخطوط الأندلسي صلة وصل بين المغرب وإسبانيا“، أطرها الدكتور حسن بوتكة، كلية الآداب عين الشق الدار البيضاء، واستهل عرضه بالحديث عن الجانب البيداغوجي والكيفية التي تتعامل بها الجامعة المغربية مع موضوع الأندلس في شعب اللغة الإسبانية. ودعا إلى إدراج تاريخ الأندلس في مواد التدريس بالاعتماد على قراءة جيدة للآخر تساهم في التعارف بين الشعبين وتعمل على تصحيح الصور النمطية التي ظلت تعيق التواصل بين الطرفين. ودعا الباحث إلى البحث عن أنجع السبل التي تمكن المغربي من معرفة الإسباني وفي ذات الوقت تقدم لهذا الأخير صورة عن الذات المغربية بمظهرها الإنساني. وتتأسس دعوة الباحث على الخلفية التاريخية والإقليمية التي ظلت تؤطر علاقة البلدين بوصفها علاقة لا مناص من استثمارها في خدمة الشعبين. وهنا تحدث عن العمق العربي للغة القشتالية التي ظلت لغة شفهية على غرار اللغات الرومنسية، ولم تتطور كلغة مكتوبة إلا تفاعلا مع اللغة العربية على مستوى المعجم والنحو والصرف. وعرض الأستاذ حسن تجربته في المجال البحثي ضمن اشتغاله مع مجموعة البحث التي تهتم بالمخطوطات الأندلسية، معتبرا الاهتمام بهذا الحقل الذي لايزال بكرا يساهم بشكل فعال في إعادة بناء التاريخ المغربي الإسباني على أسس من التعاون والتواصل والتعايش.

المداخلة الرابعة، في موضوع “المغاربة في أوروبا من الدبلوماسية والسياحة”، أطرها الدكتور أحمد حدادي، رئيس المجلس العلمي فجيج، الذي اعتمد على عدد من كتب الرحلات السفارية التي برع فيها المغاربة دون غيرهم على حد رأيه، ومن الملاحظات التي خرج بها الأستاذ حدادي، ما كان يتميز به السفراء والقناصلة المغاربة من ذكاء وفطنة تنم عن ثقافتهم الموسوعية التي كانت سلاحهم في البلدان الأوروبية. وعرض الباحث عددا مهما من كتب الرحلات كما قرأ بعض الفقرات من المشاهدات التي دونها أصحاب هذه الرحلات سواء حول المغاربة وسلوكهم في البلدان الأجنبية أو حول سلوكات ومظاهر الحياة الأجنبية في فرنسا والبرتغال وانكلترا وإسبانيا وغيرها. واستخرج الأستاذ حدادي من هذه الكتب مئة مصطلح في شتى المجالات، وفي ختام مداخلته دعا إلى الاهتمام بهذا الإرث الدبلوماسي والبرتوكولي واستثماره بشكل جيد.

المداخلة الخامسة، في موضوع “حركة الموسيقى والغناء في الأندلس وأثرها على المغرب”، أطرها الأستاذ أحمد طنطاوي، تناول فيها شغف المجتمع الأندلسي وحبه للموسيقى التي كانت في بدايتها مشرقية الروح، فزرياب مثلا، دخل الأندلس وهو في كامل نضجه الفني بطابعه العربي المشرقي وهذا ما جعل الموسيقى الأندلسية ذات طابع مشرقي على حد رأيه. وفي صدد حديثه عن تبلور التجربة الموسيقية الأندلسية، تحدث الباحث عن المكونات التي طبعت المجتمع الأندلسي من عرب وأمازيغ ونصارى ويهود، وهذه المكونات ساهمت في بلورة الطابع الأندلسي، وهنا تحدث عن دور بعض اليهود في تطوير الموسيقى الأندلسية، أمثال إسحاق بن شمعون القرطبي وذي الإسرائيلي كما تحدث عن تأثر النصارى بالغناء العربي. أما عن الموسيقى الأندلسية فقد كان لها الأثر البليغ في المغرب، غير أن الباحث يرى أن هذه الموسيقى لم تحافظ على جوهرها وهنا أعطى مثلا بـ “المالوف” في تونس الذي يراه أقرب إلى الطابع الشرقي في حين تأثر “المالوف” في الجزائر بالموسيقى التركية.