التراث الأركيولوجي للمنطقة الشرقية

نظم مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، بشراكة مع جامعة محمد الأول بوجدة، وبتعاون مع كلية العلوم بوجدة، والمندوبية الجهوية للثقافة بوجدة، والمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط، ندوة علمية في موضوع: “التراث الأركيولوجي للمنطقة الشرقية”، وذلك يومي الجمعة والسبت 07 و 08 أبريل 2012 بمقر المركز – منار المعرفة. وقد عرفت هذه الندوة مناقشات مستفيضة من قبل الأساتذة والطلبة الذين تابعوا أشغالها.

مساء الجمعة 07 أبريل 2012، كانت المحاضرة الافتتاحية في موضوع: “مدارس الفن الإسلامي بين حرية التعبير والاتجاهات العقائدية والفكرية”، من تأطير الدكتور: محمد الكحلاوي (أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية بجامعة القاهرة و أمين الاتحاد العام للآثارين العرب)، وتسيير الأستاذ حسن مصباح، الذي قدم  نبذة عن مؤلفات المحاضر وسيرته العلمية وعن سياق هذه الندوة والغاية منها.

استهل الدكتور الكحلاوي مداخلته بالحديث عن علاقته بالمغرب، حيث عاش فترات من حياته العلمية في فاس ومراكش والرباط أثناء تحضيره لأطروحته، منوها بأستاذيه (المنوني وعبد الوهاب بلمنصور)، ونوه بأهمية موضوع الندوة. ثم انتقل إلى صميم عرضه، مؤكدا أن الأطروحة التي تعتبر الفن حراما ومذموما في الإسلام لها ما يفندها في التاريخ الإسلامي من خلال آثار المسلمين وتراثهم الأركيولوجي.

ويرى المحاضر أن علم الآثار لايقف عن التسجيل بل يقدم الشهادة، وهذا ما جعله يحرص على البحث في مجال الحضارة الإسلامية، مؤكدا على تعدد مدارس الفن التي لاتزال  تقبع في المتاحف.

حول التسامح الديني في المجتمع الإسلامي، فضل المحاضر أن يستند إلى المعيش بدل النصوص، ويرى أن الغرب حين يتهمنا بعدم التسامح لا يمكن أن نقنعه بالقرآن لأنه لا يؤمن به، بل بالتراث الذي لا يزال يشهد بذلك، وبالوثائق المتمثلة في الأعمال الفنية والطقوسية وبعض وسائل العيش وحتى القطع النقدية، وهنا عرض عبر الديابوراما صور الدنانير التي تحمل على الوجه الأول الصليب وعلى الوجه الثاني عبارة “لاإله إلا الله”، وهي العملة التي اعتمدها عبد الملك بن مروان في صدر الدولة الإسلامية.

وقدم أمثلة حول حالة الانفتاح لدى الفنان المسلم في تعامله مع القرآن والإنجيل على قدم المساواة، وفي نفس السياق تحدث عن تجاور مصليات الأديان أمام النيل في مصر، والمعبد الذي يشتمل على الأديان الثلاثة في الصعيد ودير سانت كاترين الذي يتوسطه مسجد تم بناؤه حتى يحمي الدير من الهجمات التي كان يتعرض لها الدير من وقت لآخر.

وفي محور حمل عنوان: “حرية التعبير في التصوير الديني”، عرض طائفة من الرسومات التي استوحاها الفنان المسلم من النصوص القرآنية، ومنها صورة تشخص قصة يوسف عليه السلام لحظة تهربه من السيدة زليخة وهي تراوده عن نفسه، ورسومات أخرى مستوحاة من سورة البقرة وأخرى حول أهل الكهف.

المحور الثالث الذي جاء تحت عنوان: “الاتجاهات العقائدية”، قدم الدكتور الكحلاوي نماذج من الرسومات الزخرفية، منها صورة أسد تتشكل من اسم علي رضي الله عنه، ومنحوتة على شكل أسد وعلى  جسمه سيف، وصورة تضم اسم محمد عليه السلام واسم علي رضي الله عنه على شكل شمس. كما عرض نماذج من شواهد القبور، منها شاهدة على قبر سيدة تحمل رسوما لأدوات الحياكة، تعبيرا عن حرفتها التي كانت مصدر رزقها الحلال حسب تأويل المحاضر، وهناك شاهدة على هيئة شخص راكع، وشواهد أخرى عبارة عن غرف، وهناك خط يسمى “الكوفي المورق”، أبدعه الفنان المسلم على شواهد القبور، مستلهما ذلك من الحديث الشريف الذي وصف قبر المسلم بروض من رياض الجنة. كما عرض صورة لمنبر، في إيران، له كفان يتضرعان إلى الله، وهو مجسم يعبر عن غياب الإمام في الاعتقاد الشيعي.

وعرض الدكتور الكحلاوي نماذج عن العمارة الإسلامية كالمساجد والجوامع، والصوامع متعددة الرؤوس ودلالاتها الرمزية، وحول بعض الاتجاهات العقائدية التي رفضت الزخرفة كنمط في التعبير الفني وابتكرت الفن التجريدي، أعطى مثلا بالموحدين الذين استلهموا أسلوبهم التجريدي من الثقافة الأمازيغية حيث أضفوا على رسوماتهم التجريدية شكل الثعبان المستوحى من الأسطورة الأمازيغية.

وحول “الاتجاهات الفكرية”، تطرق المحاضر إلى نماذج من التعبيرات البصرية ومنها زخرفة التفريغ التي ظهرت في فترة الأغالبة بتونس، كما تحدث عن الإبداع التشكيلي في الخط العربي.

الجلسة الثانية كانت صبيحة السبت08 أبريل 2012، ترأسها الدكتور بدر المقري، حيث أشار في كلمته إلى العلاقة التكاملية بين التاريخ والأركيولوجيا وضرورة الربط بين الحقلين ودور ذلك في حفظ الذاكرة. أولى المداخلات جاءت تحت عنوان: “التراث الأثري لمنطقة المغرب الشرقي والتنمية المستدامة”، أطرها الأستاذ حسن أوراغ (أستاذ بكلية العلوم ومنسق مركز الأبحاث الأركيولوجية)، حيث أشار في مستهل حديثه إلى سياق هذه الأنشطة التي تندرج ضمن أيام التراث أو شهر التراث، ثم انتقل إلى الحديث عن منطقة المغرب الشرقي، الذي قال أن مساحتها تعادل مساحة بلد كالأردن، والمغرب الشرقي، يقول الأستاذ أوراغ يحتوي على 500 موقع أثري، بعضها أصبح له صيت عالمي مثل (مغارة الحمام) و(مغارة الجمل) ومواقع أخرى مثل موقع قنفوذة والرسوم الصخرية بمنطقة فكيك وكهف غفص في جبل رأس العصفور ومواقع بمنطقة الريف. وحول هذه المواقع الأثرية، يقول الباحث حسن أوراغ، أن الحفريات أكدت أن المغرب شهد تعاقب حضارات عديدة (الأبيرومغربية- العتيرية- الموستيرية – الأشولية). وعن مغارة تافوغالت المشهورة في المنطقة بمغارة الحمام، قال الأستاد أوراغ أن مكتشفها طبيب فرنسي سنة 1908 أما الحفريات بها فقد بدأت في الخمسينيات مع غولمان جون غوش أكثر من عشر سنوات وتوالت بعد ذلك إلى اليوم، وتحدث الباحث عن اللقى الأثرية التي تجاوزت خمسة آلاف قطعة، كما تحدث عن سمات الذكاء لدى إنسان تافوغالت والبعد الثقافي في مخلفاته الأثرية التي عكست اعتقاداته وفكره الرمزي واهتمامه بالفن والجمال، ففنان تافوغالت، يقول الباحث، هو أول فنان في العالم أبدع الحلي وأدوات الزينة منذ أكثر من 82000 سنة،  كما يعتُبر إنسان تافوغالت من أقدم الجراحين في العالم، حيث تم اكتشاب جمجمة عليها آثار عملية جراحية ناجحة، وهناك اكتشافات أخرى من بينها ما يدل على تدجين النار منذ أربعين ألف سنة، وتطرق الباحث إلى الطابع السياحي لمغارة الجمل التي وصفها بالمتحف الطبيعي، ومغارة قنفوذة التي تم اكتشافها سنة 2003، وتقع في جرف صخري، وهي من المواقع التي يشتغل عليها طلبة الماستر كل سنة، كما تطرق إلى مغارة الريف الشرقي والنقوش الصخرية بمنطقة فكيك التي وصفها بالمتحف المكشوف ومنطقة إيش على الحدود المغربية الجزائرية، وتأسف الأستاذ أوراغ لعدم استغلال هذه المواقع في السياحة الثقافية وفي المجال التنموي، وعرض جملة من المبادرات التي يسهرون على تنفيذها والمتمثلة في التكوين الميداني لطلبة الماستر وإقامة المعارض وتنظيم المحاضرات .

المداخلة الثانية أطرها الأستاذ عبد السلام مقداد (المعهد الوطني لعلوم الأركيولوجيا والتراث بالرباط)، تحت عنوان: “بعض مظاهر سلوك الإنسان الحديث بالريف الشرقي” “Quelques aspects du comportement de l’homme moderne dans le Rif oriental”، استهل الأستاذ مقداد حديثه بالإشارة إلى ندرة المصادر والمراجع باللغة العربية ومشكلة المصطلحات المترجمة، ودعا رئيس الأثريين العرب إلى وضع منجد خاص بمفردات الآثار يتم من خلاله توحيد المصطلحات. وحول مداخلته، أشار أن موضوعها يخص مظاهرالحياة الحديثة لإنسان الريف الشرقي، حيث أضحى الإنسان الحديث موضوع الساعة في العالم، ومحور انشغال الأبحاث المتعطشة إلى معرفة أصله، فكانت البداية مع “لوسي” امرأة إثيوبيا، هذا الاكتشاف دل أن هذا الصنف من الإنسان عاش منذ أكثر من ثلاثة ملايين سنة ومن هناك، يقول الباحث، انتشر في شمال أفريقيا، فالحفريات اكتشفت وجود الإنسان “منتصب القامة” الذي يقدر عمره بمليون سنة ثم الإنسان الحديث الذي نشبهه، تم اكتشافه في المغرب، ويقدر عمره بحوالي 175000 سنة، وهنا تطرق الأستاذ مقداد إلى الجهة الشرقية ومواقعها الأثرية (موقع إفري نعمار وهضبة كرواو ومواقع أخرى) تؤكد أن الجهة عرفت حضارات عديدة  منذ العصر الحجري (العتيرية والإبروموريزية)، فالعتيرية تعود إلى 110 ألف سنة، وتغطي شمال أفريقيا وجزءا من الجزيرة الإبيرية وهي مرتبطة بالإنسان الحديث الذي يعود وجوده إلى 150 ألأف سنة، والموقع يتميز، يقول الأستاذ مقداد بالأصداف البحرية التي تم ثقبها واستعمالها كحلي، وظهور التعبير الرمزي، اللغة والتواصل لدى الإنسان الحديث الذي انتقل من شمال أفريقيا إلى أوروبا عبر جبل طارق في ظروف مناخية مختلفة كان فيها مستوى البحر منخفضا وليس عبر الشرق الأوسط كما هو شائع.

المداخلة الثالثة كانت في موضوع: “من مظاهر المجتمعات الزراعية الرعوية الأولى بالريف الشرقي” “Un aspect sur les premières sociétés agro-pastorales dans le Rif oriental”، أطرتها الدكتورة فدوى نقال (المعهد الوطني لعلوم الأركيولوجيا والتراث بالرباط وأستاذة بجامعة وجدة)، استهلت الدكتورة مداخلتها بالحديث عن العصر الحجري الأعلى والتغيرات التي ظهرت بعده وأجبرت الإنسان على تغيير حياته، ومع نهاية العصر الجليدي ارتفع مستوى البحار وتشكلت حدود القارات  وظهرت مناطق ممطرة وأخرى جافة، وتضيف الدكتورة، حسب الأبحاث بخصوص الريف الشرقي، قد تعرض ملوية وكرت إلى الجفاف وأثر ذلك على الغطاء النباتي وبالتالي على الحيوان وعلى الإنسان ونمط عيشه، وتطرقت الباحثة إلى العصر الحديث (الهولوسين) الأوسط والأعلى حيث الظروف الطبيعية والمناخية أثرت على الإنسان بعد أن قلت مصادر عيشه التي كانت توفرها الطبيعة كوفرة الثمار البرية والحيوانات، فبدأ يهتم بالزراعة وطور تقنياتها وهذا ما دلت عليه الحفريات بالريف الشرقي (إفري أودادن وإفري أوزابور)، بعد تحليل الرواسب من المواقد وادوات الطحن وتحضير الدقيق كما تم اكتشاف بقايا القطني (الفول والجلبان)، وفؤوس حجرية، وبعد انقراض عدد كبير من الحيوانات لم يعد الإنسان يقتصر على الصيد بل عمل على تدجين بعض أنواع الحيوانات، كما تطرقت الباحثة إلى اللقى الفخارية (الخزف الكارديالي) وهو الاكتشاف الذي فند ماكان رائجا حول مقدم النسان الحديث من الجزيرة الإبيرية، وهناك خزف مزخرف بالمشط وآخر مزخرف بالخطوط الهندسية، وفي هذا الصدد تتساءل الباحثة: من أين جاء الخزف؟ من المرجح، تقول، أنه جاء من الصحراء لتشابه اللقى الأثرية (رؤوس رماح صحراوية، خزف النعام مزخرف هندسيا وخزف مزخرف بأشكال موجية)، وحول مسكن الإنسان الحديث بالريف الشرقي تقول الباحثة، أن الحفريات لم تكتشف سوى الكهوف، ولعل الأمر يعود إلى هشاشة المواد التي استعملت في بناء المساكن التي لم تصمد أمام الزمن، وحول المظاهر الاجتماعية تطرقت إلى النمو الدموغرافي وظهور العائلة بدل المجموعة ثم ظهور المجتمع بفضل الاستقرار وظهور الانتاج وتوزيع أدوار العمل وهذا ما أدى إلى ظهور الملكية والثروة والسلطة وما ينجم عن ذلك من تراتب اجتماعي وطبقي وتغير مواصفات القائد من القوة إلى الثروة، وظهور مفهوم المجال الترابي وما ترتب عنه من حروب وصراعات.

المداخلة الرابعة أطرها الأستاذ مصطفى أوعشي (جامعة محمد الخامس)، تحت عنوان: “تاريخ الكتابة الأمازيغية”، أكد الأستاذ على أهمية الحفاظ على الآثار في صيانة الذاكرة ومنها الكتابة كجزء من التراث وهي تجل من تجليات تطور الفكر الرمزي من خلال التواصل واللغة بخصوصيتها من حيث الكتابة الممتدة إلى اليوم لدى أمازيغ الصحراء (الطوارق)، وهذه الكتابة اشتهرت من خلال ثلاث تسميات: (الليبية البربرية) و(الليبية الأمازيغية) و(التيفناغ).

وحول معنى التيفناغ، يقول الأستاذ عشي، أنها مركبة من كلمتين (تيفي) وتعني الابتكار و(ناغ) تعني ملكنا، وهناك تفسير آخر وهو الأرجح، حيث يفيد أن (أفنغ) التي تعني الكتابة تنتمي إلى نفس الجذر اللساني لكلمة (تيفناغ) وبناء على ذلك فإن التيفناغ تعني الكتابة. وتحدث عن مراحل الكتابة في العالم (النقش – الرسم – الرمز – الصوت – الأبجدية)، وهي ذات المراحل التي عبرتها الأمازيغية وهذا ما تشير إليه الاكتشافات الخاصة بالأبجدية بأنواعها (الشرقية) بنوميديا وتونس وليبيا، و(الغربية) من قسنطينة إلى المحيط الأطلسي و(الصحراوية) من خلال النقوشالصخرية بالأطلس وفكيك، بالإضافة إلى نوع آخر بجزر الكناري.

وحول تاريخها يقر الأستاذ عشي أن هناك اختلافا، لكن هناك ما يدل على أنها أقدم نظام صوتي عرفه العالم، وهناك مايدل أنها تعود إلى العصر البرونزي وهناك نقوش تثبت أنها ظهرت قبل الميلاد بألف وخمسمئة سنة، وهذا ما يبطل، انثربولوجيا، الفرضية القائلة بالاقتباس.

ويخلص إلى القول، أنه رغم اختلاف الكتابات، فإن وحدة الأماكن ووحدة الأشكال ووحدة أسلوب العيش الأمازيغي، تؤكد وحدة اللسان الأمازيغي.